أغرق طوفان الأقصى أسطورة “الجيش الذي لا يقهر”، كما قدم تأجيلًا لصفقات التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي الممتدة في الوطن العربي وصولًا إلى إندونيسيا شرق آسيا، وأغرق كذلك مسارًا كاملًا انتهجته السلطة الفلسطينية وحركة فتح منذ عام 1993، وجعل جدوى وجود السلطة سؤالًا يقينيًا بعدما حاولت السلطة تغييبه في خطاب التمكين الاقتصادي للفلسطينين في الضفة الغربية.
في الأيام الأولى لطوفان الأقصى اكتفت السلطة بإدانة استهداف المدنيين من “الجانبين”، ومررت قرار اجتماع جامعة الدول العربية الذي عقد في أعقاب السابع من أكتوبر، والذي أدان استهداف المدنيين من الجانبين، فيما تحفظت دول عربية عليه رفضت وضع الجلاد والضحية في ذات الكفة.
لاحقًا، أصدرت القيادة الفلسطينية بيانًا حمل اسمها ونشر على وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية قالت فيه إن “حماس” لا تمثل الشعب الفلسطيني، ثم جرى تعديل البيان لاحقًا بشطب كلمة “حماس”، واستبداله بأن الفصائل لا تمثل الشعب الفلسطيني، ومنظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد، أي أنها بكلمات أخرى أنكرت وجود حماس والتأييد الشعبي لها.
كما حاولت السلطة الفلسطينية إنقاذ نفسها، فأصدرت من خلال حركة فتح بيانًا هو الأول عن الحركة، عبّرت فيه عن موقفها من طوفان الأقصى، وربطت فيه مفهوم المقاومة بالويلات على الشعب، وردت على استنكار حماس والفصائل تعيين حكومة جديدة في رام الله، وكان هذا الموقف الرسمي الأول من فتح الذين يدين طوفان الأقصى ويعتبره “نكبة” حلت على الفلسطينيين.
ليس أن السلطة تخشى على الفلسطينيين أو أن صراعها مع حماس وفصائل المقاومة هو صراع سيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية، بل لأن طوفان الأقصى هدد وجودها، ونقض كل ما حاولت السلطة تغييره من مفاهيم الواقع الفلسطينية، فكان الطوفان “نكبة” على السلطة.
القضاء على مشروع السلطة: جدوى الوجود
أغرق طوفان الأقصى المشروع الذي جاءت على إثره السلطة الفلسطينية في عام 1993، فقد تخلت منظمة التحرير الفلسطينية عن الأراضي المحتلة عام 1948، ووقعت اتفاقية أوسلو وفيها اعترفت بـ”إسرائيل” كدولة جوار على حدود عام 1967، وجرّمت الفعل المقاوم، وجعلت قضية القدس واللاجئين والعودة والأسرى ضمن المفاوضات التي فشلت فيما بعد، وتوسّعَ الاحتلال الإسرائيلي للدولة الفلسطينية التي رسمها اتفاق أوسلو، ورُحّلت قضايا المفاوضات إلى أجل غير مسمى.
بعد السابع من أكتوبر، عادت ملامح الحياة في الضفة إلى ما كانت عليه في الانتفاضة الأولى ويجب أن تكون عليه، وعاد تعريف الجندي والمستوطن، لا مفهوم الصديق السلمي الذي حاولت السلطة الفلسطينية فرضه
أعاد الطوفان أيضًا مسميات حاولت السلطة أن تحجبها من معاجم النضال الفلسطينية في خطة الطريق 2002، وخطة دايتون عام 2005، وحل كتائب شهداء الأقصى (الذراع العسكرية لحركة فتح)، ومؤتمر أنابوليس 2007، وأهم هذه المصطلحات مقاومة الاحتلال حتى على حساب النفس والمال ورفاهية العيش والاقتصاد، وجاء طوفان الأقصى وفي الضفة الغربية بيئة خصبة لتشرب هذه المعاني، لا سيما أن الأخيرة كانت تشهر واقعًا مختلفًا بعد معركة سيف القدس عام 2021، حيث انطلقت مجموعات المقاومة المسلحة، خاصة في شمالها، في جنين ونابلس وطولكرم.
كتحصيل حاصل، تهدد مشروع السلطة ودورها الوظيفي في حماية أمن الاحتلال وخلق علاقات سلمية بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، خاصة في الضفة المحتلة، والتي حاول الاحتلال بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية تطبيعها في المجتمع الفلسطيني، من خلال ضخ الرواتب وتوفير الحد الأدنى من الإمكانات الاقتصادية وفتح أراضي الداخل المحتل لأكثر من 180 ألف عامل فلسطيني للعمل في المصانع والمزارع وورش البناء الإسرائيلية.
وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، عادت ملامح الحياة في الضفة إلى ما كانت عليه في الانتفاضة الأولى ويجب أن تكون عليه، أي منطقة محتلة حيث التوتر الدائم والمواجهة المستمرة، فأغلق الاحتلال مدن الضفة، ونصب حواجزه وسواتره الترابية على مداخل القرى، وقصف الضفة بطائرات مسيرة وحربية، وعاد تعريف الجندي والمستوطن في الضفة على أنه العدو، لا مفهوم الصديق السلمي الذي حاولت السلطة الفلسطينية فرضه.
حماس العدو الأكبر
في بيانها الذي نشرته على وكالة الأنباء الرسمية “وفا”، اختصت حركة فتح بمهاجمة حماس، رغم أن البيان الذي ترد عليه صدر عن مجموعة من الفصائل الفلسطينية مثل الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وقالت فيه: “إن من تسبب في إعادة احتلال إسرائيل لقطاع غزة، وتسبب بوقوع النكبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وخصوصًا في قطاع غزة، لا يحق له إملاء الأولويات الوطنية”.
مؤكدة أن “المفصول الحقيقي عن الواقع وعن الشعب الفلسطيني هي قيادة حركة حماس التي لم تشعر حتى هذه اللحظة بحجم الكارثة التي يعيشها شعبنا المظلوم في قطاع غزة وفي باقي الأراضي الفلسطينية.. هل شاورت حماس القيادة الفلسطينية أو أي طرف وطني فلسطيني عندما اتخذت قرارها القيام بمغامرة السابع من أكتوبر الماضي، والتي قادت إلى نكبة أكثر فداحة وقسوة من نكبة العام 1948؟ وهل شاورت حماس القيادة الفلسطينية وهي تفاوض الآن إسرائيل وتقدم لها التنازلات تلو التنازلات وأن لا هدف لها سوى ان تتلقى قيادتها ضمانات لأمنها الشخصي، ومحاولة الاتفاق مع نتنياهو مجددًا للإبقاء على دورها الانقسامي في غزة والساحة الفلسطينية، والسؤال إن كانت حماس شاورت أحدًا عندما قامت بانقلابها الأسود على الشرعية الوطنية الفلسطينية عام 2007، ورفضت كل المبادرات لإنهاء الانقسام”.
والانقلاب الأسود في مفهوم السلطة والحسم العسكري في مفهوم حماس، هو خروج السلطة الفلسطينية من قطاع غزة عام 2007، بعد أن قتلت من المقاومين ما قتلتهم، فخرج أبو عبيدة الناطق العسكري لكتائب الشهيد عز الدين القسام (الجناح العسكري لحركة حماس) وهدد السلطة علنًا ومن خلفه فصائل المقاومة، حتى خرجت السلطة وأجنداتها في منع المقاومة في غزة عبر حواجز الاحتلال إلى الضفة، تحت نار المقاوم الذي وحدّ السلطة والخيانة في خندق واحد.
الطوفان يؤخر أحلام “الشيخ”
كان واضحًا حجم الأزمة التي سببها طوفان الأقصى للسلطة الفلسطينية في تصريحات أمين سر حركة فتح، وأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ووزير هيئة الشؤون المدنية حسين الشيخ، الذين أدان حماس أولًا ثم عاد ليتنصل من إدانته عبر مقابلة على الجزيرة، التزم فيها الحياد، وقال إنه لا علاقة له – نيابة عن حركة فتح والسلطة الفلسطينية – بما يجري بين حماس و”إسرائيل”.
وبينما هدد الطوفان وجود السلطة كدور وظيفي يحمي أمن “إسرائيل” ويحارب المقاومة، كان انعكاس الطوفان على الشيخ أكثر صرامة، فقد أخر الطوفان انعقاد المؤتمر الثامن للمجلس الثوري لحركة فتح بتاريخ 17 ديسمبر/كانون الأول 2023، وذلك بعد مرور 7 أعوام على انعقاد المؤتمر السابع عام 2016، الذي انبثق عنه تعيين محمود العالول نائبًا لقائد حركة فتح.
بدد تأجيل انعقاد المؤتمر، جهود حسين الشيخ قبل أسابيع من الطوفان، بتحركات داخلية على صعيد حركة فتح لاستقطاب الولاءات، والحصول على موافقة إقليمية لينتزع منصب نائب قائد حركة فتح من العالول، وضم رئيس جاهز المخابرات العامة للسلطة الفلسطينية ماجد فرج إلى اللجنة المركزية لحركة فتح.
ما يقرب من 70% من الفلسطينيين طالبوا بحل السلطة الفلسطينية، كما رأى 90% من الفلسطينيين أن الرئيس عباس يجب أن يستقيل، في حين رأى أكثر من 60% من الفلسطينيين أن “المقاومة هي الطريق الأمثل لإنهاء الاحتلال”
وكما كشفت مصادر صحفية حينها، فإن الشيخ عقد لقاءات مع مسؤولين لدى الاحتلال والأردن، لتقديم نفسه على أنّه الأقدر على ضبط المشهد الأمني والسياسي في الضفة الغربية، وكان خلال شهرين، قد أجرى ثلاثة لقاءات بحضور ماجد فرج ومستشار الرئيس عباس مجدي الخالدي، مع السفير السعودي غير المقيم لدى السلطة الفلسطينية بندر السديري، لعرض جهود السلطة في “تهدئة أوضاع الضفة، ودعمها لمشاريع التطبيع السعودي المرتقب مع إسرائيل”.
هذا ما بدا جليًا وبشكل واضح، بعد طوفان الأقصى والرحلات المكوكية عبر مروحية أردنية بتنسيق من الاحتلال تهبط بشكل متكرر في رام الله لتقل حسين الشيخ وماجد فرج إلى الدول المجاورة لبحث المشهد في الضفة الغربية إحكام القبضة على أي عمل مقاومٍ، وهو ما تظهره المصادر أنه سيكون من مسؤولية حسين الشيخ، وبين إدارة غزة والقضاء على التأييد الشعبي لحماس هناك وخلق الفوضى وهو الملف الذي استلمه ماجد فرج؟
هذا الخوف لدى السلطة الفلسطينية وثأرها من غزة والمقاومة، تنامى بعد استطلاع للرأي بين الفلسطينيين أظهر ارتفاعًا في تأييد حركة حماس في قطاع غزة الذي يتعرض لعدوان إسرائيلي متواصل، ورفضًا ساحقًا لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مع ما يقرب من 90% يقولون إنه يجب أن يستقيل.
وحسب نتائج الاستطلاع الذي أجراه “المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية” بالتعاون مع مؤسسة “كونراد أديناور” في رام الله “ارتفعت نسب دعم حماس في الضفة الغربية 3 أضعاف ما كانت عليه قبل الحرب”، وأن ما يقرب من 70% من الفلسطينيين طالبوا بحل السلطة الفلسطينية، كما رأى 90% من الفلسطينيين أن الرئيس عباس يجب أن يستقيل، في حين رأى أكثر من 60% من الفلسطينيين الذين شملهم الاستطلاع أن “المقاومة هي الطريق الأمثل لإنهاء الاحتلال”.