تتلاشى الخدمات الحكومية المجانية واحدة تلو الأخرى في مناطق سيطرة نظام الأسد، حتى وصلت إلى المستشفيات العامة في قطاع الصحة، في سياق مواجهة العجز الحكومي عن توفير دعم للقطاعات الخدمية والحيوية.
تسبّب توجُّه الحكومة الأخير نحو الخصخصة في حرمان العائلات من حقّ الحصول على الطبابة المجانية، أو شبه مجانية، التي كانوا يحصلون عليها في المشافي رغم تردّي خدمات المستشفيات العامة، ليغدو الحصول على الطبابة المجانية حلمًا، في وقت لا تجد فيه العائلات قدرة على توفير احتياجاتها من مقومات الحياة الأساسية، وسط ارتفاع تكاليف المعيشة، وانخفاض مستوى الدخل.
توجُّه حكومي لخصخصة الطبابة المجانية
كشف وزير الصحة في حكومة نظام الأسد، حسن الغباش، عن توجُّه الوزارة إلى تخصيص الطبابة المجانية لمستحقيها، ورفع الدعم جزئيًّا عن قطاع الصحة (بالغ الأهمية) نتيجة “التكاليف الباهظة على الدولة”، بحيث تكون جميع المستشفيات (هيئات عامة مستقلة) لها خصوصياتها “الإدارية والمالية”، خلال ندوة حوارية نظمتها جامعة دمشق يوم الأحد 17 مارس/ آذار الجاري.
برر الغباش توجُّه الحكومة بـ”أن الخدمات المجانية بالمطلق ما هي إلا واجب، لكن لها العديد من السلبيات، ويمكن أن تستغل من المقتدرين على تلقي الخدمة بشكل مدفوع جزئيًّا أو في القطاع الخاص، إلا أنهم يفضّلون الحصول على الخدمة المجانية، وبالتالي يأخذون دور وفرصة من يستحق الخدمة المجانية”.
وأضاف: “نهدف إلى تشاركية ضمن شروط وضوابط تضعها الوزارة لمدة محددة وفق آلية معيّنة، ويبقى القطاع العام هو المشرف والمراقب، وذلك ليس انتقاصًا من القطاع الخاص”، وأوضح أن الوزارة لا تهدف من خلال التشاركية مع القطاع الخاص إلى بيع القطاع العام أو إلغاء الخدمات المجانية بالمطلق، “إنما توجيه الدعم والخدمات المجانية لمستحقيها، ولا يعني تمليك القطاع الخاص لأي جزء من المشفى”.
بدأت حكومة نظام الأسد في خصخصة مؤسسات ومنشآت بعد عجزها عن تطوير وإصلاح المنشآت العامة في ظل الانهيار الاقتصادي، من بينها إعلان وزارة النقل عام 2023 عن خطة لمنح 49% من مطار دمشق الدولي كاستثمار لصالح شركة خاصة، ضمن خطة الحكومة للتشارك مع القطاع الخاص في مجالات متعددة.
يعدّ تقليص دعم الحكومة وخصخصة قطاع الصحة جزءًا من خطة سابقة يعمل عليها نظام الأسد منذ عام 2008، لكن الثورة السورية حالت دون ذلك، حيث كان الهدف إشراك القطاع الخاص في إدارة قطاع الصحة العام، وإعطاءه جزءًا من الأصول الإدارية، ومنحه امتيازات في الحصول على الأدوية والأجهزة الطبية.
يرى الباحث والمحلل الاقتصادي يونس الكريم، أن توجُّه الحكومة ليس جديدًا، لكنه تزامن مع ضائقة مالية شديدة يعيشها الناس، وسط انخفاض القدرة الشرائية للعملة السورية، وعدم قدرتهم على الذهاب إلى المشافي والعيادات في القطاع الخاص، في حين شكّل الاعتماد الكلّي على القطاع العام ضغطًا على المشافي الحكومية، ما ساهم في مضاعفة العجز.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن قطاع الصحة المجاني كان يعتمد على تمويل من 4 مصادر، هي الموازنة الحكومية، والمساعدات الأممية والمنظمات غير الحكومية، والمؤسسات التعليمية الطبية، والمنح الدولية التي تعطى للقطاع الصحي لاستمرار العمل”.
وأضاف: “إن مواقف الحكومة، وانتشار الفساد، ووصول الحرب إلى النهاية والبحث عن إطلاق مشاريع التعافي المبكر، تسبّب في إيقاف المنح والمساعدات، إذ لم يعد هناك منظمات غير حكومية فاعلة تقدم الدعم، وفي حال وُجد فإن الدعم مقسّم في ظل سطوة الفساد، وطمع أمراء الحرب”.
تبدو سياسة وزارة الصحة تحاكي رفع الدعم عن شرائح معيّنة من المواطنين، وجعلها ضمن نظام البطاقة الإلكترونية، كما يحصل في المواد الأساسية، إلا أنها لم تكشف إلى الآن عن طريقة إيصال الدعم للمستحقين، سواء كانت عبر البطاقة الذكية أو طريقة أخرى.
ويعتبر الباحث أن موضوع الطبابة مختلف عن المواد الأساسية، إذ لا يمكن استنساخ نظام البطاقة الإلكترونية، بسبب غياب الإحصائيات لدى حكومة نظام الأسد حول وضع المعيشة وحجم البطالة ووضع اللاجئين والنازحين، واستخدام البطاقة الذكية كان يهدف إلى الإحصاء، كم يقدم؟ وكم يحتاج؟
من جهته، اعتبر يحيى السيد عمر، الباحث في الاقتصاد السياسي، أن تقديم الخدمات الطبية للشرائح المدعومة أمرًا معقدًا ونسبيًّا، وأوضح خلال حديثه لـ”نون بوست” “أنه ممكن العمل بنظام الشرائح، من خلال تزويد الأسر المدعومة ببطاقات خاصة تتيح دخول المشافي الحكومية مجانًا أو بتكاليف رمزية”، مشيرًا إلى “أن حصة الفرد الواحد في مناطق سيطرة نظام الأسد من الكتلة المالية المخصصة للدعم الطبي منخفضة جدًّا”.
لماذا يتجه نظام الأسد إلى خصخصة القطاع الصحي؟
تدفع الضغوط الاقتصادية التي تواجهها حكومة نظام الأسد في ظل قلة الموارد المالية، إلى رفع الدعم بشكل تدريجي عن العديد من المواد الأساسية، والخدمات الحيوية، لا سيما رفع الدعم عن المحروقات، وإيقاف الدعم بالكامل عن بعض المواد الغذائية الأساسية من بينها السكّر والأرز.
يرى الباحث يونس الكريم أن القطاع الصحي سيخضع للخصخصة خلال الفترة المقبلة، لا سيما أن المشافي الحكومية تملك بنى تحتية ومواقع قوية ضمن المدن، ما يساهم في استفادة متنفّذي نظام الأسد من الاستثمار فيها بأسعار منخفضة، حيث حدّد عددًا من الأهداف وراء هذه الإجراءات الحكومية، لعلّ أبرزها:
- تخفيف العجز الحكومي عن دعم الطبابة المجانية.
- تردي قطاع الصحة الحكومي، والمستشفيات العامة، والمراكز الصحية.
- توسيع وجود قطاع خاص أو أجنحة خاصة ضمن المشافي العامة التي تأخذ جزءًا من الطبابة المجانية.
- تشكيل ضغط على المنظمات الأممية والمانحين في تقديم دعم أكبر لقطاع الصحة في مناطق نظام الأسد، لمنع انهيار قطاع الصحة وحدوث كوارث.
- حصول نظام الأسد على مساعدات طبية لا تخضع للعقوبات الدولية، تفتح مجال وصول الأموال وتجاوز العقوبات الاقتصادية.
- خصخصة قطاع الصحة تساهم في بناء طبابة متقدمة ذات بنى تحتية عالية، تكون ملاذًا لأموال متنفذي نظام الأسد.
- جعل سوريا منطقة جاذبة للمغتربين السوريين والعرب للحصول على الطبابة، ما ينشط السياحة وسوق العقارات.
- توفير نظام طبي متقدم يشكّل قوة لنظام الأسد في إعادة توليف نفسه إلى العالم الخارجي.
حرمان العائلات من حق الطبابة المجانية
شكّلت تصريحات وزير الصحة صدمة لدى السوريين المقيمين في مناطق سيطرة نظام الأسد، تزامنًا مع انهيار كامل لمختلف مناحي الحياة المعيشية والخدماتية، من شأنها حرمان العائلات من الحصول على طبابة مجانية كانوا يحصلون عليها، رغم أنها ضمن الحدود الدنيا نتيجة تردي قطاع الصحة، وسوء جودة الخدمة التي تقدمها المستشفيات العامة.
تتجه حكومة نظام الأسد إلى تحميل الناس جزءًا من الطبابة، مع توفير أقسام خاصة ضمن المشافي العامة، كما هو الحال قبل الثورة السورية، حيث كانت في مشافي المجتهد والمواساة الجامعي والأسد الجامعي، خدمات طبية مجانية تخضع لعمليات الانتظار وشراء بعض الأدوية على حساب المريض متاحة لجميع المواطنين، كما توجد في المشافي ذاتها أجنحة خاصة للذين يريدون السرعة والعناية.
وقال الباحث الاقتصادي يونس الكريم خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن خصخصة الطبابة المجانية تزيد الأعباء على الناس، بينما هم لا يستطيعون الوصول إلى المشافي بسبب تكاليف النقل، وعدم قدرتهم على شراء الدواء من الأسواق، ما يدفعهم إلى الاعتماد على وصفات طبية سابقة، والبحث عن منظمات أهلية تقدم مساعدات طبية بأسعار رمزية، ما يعمّق انتشار الأمراض”.
وأضاف: “إن ذلك يدفع الأهالي إلى اللجوء إلى أشخاص غير مهنيين لعلاج المرضى، مثل الصيادلة والممرضين، ما يخلق قطاعًا صحيًّا مزيفًا، وانتشار الطب البديل، وخلق جيل يعاني من الأمراض، ومنهك غير قادر على مقاومتها، وبالتالي غير قادر على الإبداع والبناء”.
وتابع أن رفع تعرفة القطاع الصحي ينعكس على باقي السلع والخدمات، على اعتبار أن القطاع الصحّي أحد الأعمدة الأساسية في تسعير السوق، وإذا كانت الطبابة رخيصة ستتوفر قوة عاملة قوية، لكن ارتفاع تكاليف الطبابة سيدفع إلى رفع كلفة إيجاد قوة عاملة جيدة.
والخدمات الطبية التي كانت تقدَّم للمواطنين سابقًا لم تعد تقدَّم في المشافي الحكومية، أو تقدَّم بشكل مأجور، مثل المواد اللازمة لبعض العمليات الجراحية، فالمريض مطالَب بدفع تكاليف مستلزمات هذه العمليات، كما أن مستوى الخدمات الطبية تراجع بشكل ملحوظ كمًّا ونوعًا.
واعتبر الباحث الاقتصادي يحيى السيد عمر، أن أثر رفع الدعم الطبي على عموم حياة السوريين، يساهم في ازدياد مؤشرات الفقر، كما من المتوقع أن يزدهر قطاع المشافي الخاصة، مع تلاشي مجانية المستشفيات العامة.
وأوضح أن توجيه الدعم للمستحقين يعدّ محاولة لتبرير تخفيض النفقات، بغضّ النظر عن الاعتبارات الإنسانية، لا سيما أن التقارير الأممية تشير إلى أن 80% من السوريين في مناطق سيطرة نظام الأسد بحاجة ماسّة للخدمات الطبية المجانية، بعدما تجاوزت نسبة الفقر 92%، لذلك أي تراجع إضافي في الخدمات الطبية يعني مزيدًا من الفقر في المجتمع السوري.
قطاع صحي مترهّل ودعم حكومي محدود
يعاني قطاع الصحة في مناطق سيطرة نظام الأسد، كما حال باقي القطاعات الحيوية المهمة في سوريا، من تراجع الدعم الحكومي في توفير المعدّات الطبية والأدوية المجانية والأجور للكوادر الطبية، ما تسبّب في أزمة حادّة انعكست بشكل سلبي على الخدمات الطبية المقدمة للمرضى والمراجعين.
تسبّب عجز الحكومة عن تغطية نفقات المستشفيات العامة المجانية، في فساد وترهُّل إداري، واستشراء حالة الاستغلال المالي للمرضى، من خلال تقديم خدمات طبية (عمليات جراحية، معاينات طبية..) مقابل أجور مالية ضمن المستشفيات العامة، تكون أقل من مستشفيات القطاع الخاص.
كما تشهد المستشفيات استقالات متواصلة للأطباء، نتيجة تدهور الأحوال المعيشية، وانخفاض الأجور الشهرية التي يحصلون عليها مقابل عملهم الطبي، والتي لا تكفي أجورًا للمواصلات العامة، ما دعا مئات الأطباء إلى مغادرة البلاد، ما تسبّب في غياب أو فقدان العديد من الاختصاصات الطبية.
في حين لجأ بعض الأطباء إلى استغلال مناصبهم بهدف تغطية عجز الحكومة عن توفير رواتب للكوادر الطبية، حيث صدرت مذكرة توقيف بداعي التحقيق بحقّ 9 أطباء قلبية في محافظة حلب شمالي البلاد بتهمة الشروع بالقتل، بسبب سرقة المال العام من خلال منح فواتير وتقارير وهمية، واستخدام أدوات طبية مستعملة بعد تعقيمها في عمليات قسطرات قلبية، حسب مديرية صحة حلب على صفحتها في فيسبوك.
وفي سياق منفصل، نفت وزارة الصحة معلومات نشرتها وسائل إعلام محلية، تشير إلى ضبط شبكة في مشفى المجتهد في دمشق بتهمة الإتجار بالأعضاء البشرية، خلال بيان لها في 17 مارس/ آذار، حيث كشف نقيب أطباء دمشق لدى نظام الأسد، عماد سعادة، في 14 مارس/ آذار الجاري، عن إحالة 5 أطباء من مشفى المجتهد و6 ممرضين للمحاكمة بتهمة الإتجار بالأعضاء وتلقي رشاوى مالية من المرضى.
يشكو السوريون من سوء معاملة الكوادر الطبية في المستشفيات العامة، وصعوبة الوصول إلى المعاينات الطبية في ظل نقص الأدوية، إذ يغلب على معظم المشافي في مناطق سيطرة نظام الأسد تقديم الوصفة الطبية كحدٍّ أقصى، بينما يواجه المريض صعوبة في توفير الأدوية والمواد اللازمة نتيجة ارتفاع أسعارها، بينما تعاني المستشفيات من الانتظار لفترات طويلة بهدف الحصول على عمليات جراحية تحكمها المحسوبيات والفساد.