قبل 70 سنة، منحت قرية التنومة، إحدى نواحي قضاء شط العرب في البصرة، العراق والعرب شاعرًا رقيقًا طيّبًا، عُرف بلهجته الصادقة وكلماته الحادة ولافتاته الصريحة التي أثارت غضب مختلف الأنظمة العربية الحاكمة، ما أدى إلى نفيه إلى لندن.
حرص شاعر العراق الأبرز احمد مطر على نقد النظم العربية الرسمية في فنّه الجديد المبتكر، إلا أنه لم ينس فلسطين الحبيبة التي حمل آهاتها في أشعاره رغم الهموم الكثيرة التي يعيشها بلده الجريح.
احمد مطر .. الشعر السياسي
خلت دواوين احمد مطر جميعها من قصيدة غزل واحدة، وركز كل جهده على الشعر السياسي، واعتمد أسلوبًا قصصيًا، فقد تأثر الشاعر المناضل بالقرآن الكريم الذي خصص له الوقت الكثير لقرائته وتدبر معانيه وكلماته.
والشعر السياسي هو الشعر الذي يتضمن آراءً وتوجهات سياسية، مع الحفاظ على القيمة الأدبية أو الفنية، ومن خلاله يعبر الشاعر عن مناصرته لمبدأ أو تكتل معين، وارتبط الشعر السياسي في العصر الحاليّ بالديموقراطية والدعوة إلى حرية التعبير والنضال ضد الاستعمار والأنظمة الفاسدة والديكتاتورية.
عبّر احمد مطر بقلمه عن خواطر وآلام وطنه العربي الكبير، وتعرض إلى الكبت الشديد الذي تعاني منه الشعوب العربية، مذكرًا أنه لا يملك إلا قلمه للتعبير عن هذا الوجع، فحرية التعبير مفقودة في جميع الدول العربية دون استثناء.
خص مطر كل وقته وفنه لقضيةٍ واحدة، وبذل في سبيلها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وشحذ لسانه وقلمه خدمة لها، فجاءت أعماله حادة وقاسية، فتنكرت له الأنظمة العربية الرسمية ولاحقته لكنه دخل قلوب الناس رغم القيود.
كان مطر كثيرًا ما يستخدم أسلوب الكناية والسخرية، فهو لا يستطيع التكلم بصراحة في مجتمعه – لكنها سخرية مفعمة بالحزن والأسى – لنقد الأوضاع السياسية والاجتماعية ومعالجة مشكلات الشعوب العربية وتحريض واستنهاض همم الناس للخلاص من هذا الواقع المر.
لم يكن غرض احمد مطر من السخرية التي يستعملها في قصائده الفكاهة وإضحاك المتقبل، إنما كان مراده إبكاء المستمع وبيان حجم الألم وكبت الحريات ومؤامرات الأنظمة الحاكمة والمستعمر وفضحهم في قصائده.
خلال إقامته في الكويت وعمله في جريدة “القبس”، ابتكر احمد مطر فنًا جديدًا غير مطروق في الأدب العربي، وهو اللافتات التي حمَّلها رسائل عميقة ومضامين جزلة غنية وفيها نقد وتوثيق لمنعطفات الوطن العربي، فكانت الشعوب تنتظر صدور الجريدة للتمتع بلافتات مطر، وكان من أشهرها:
“عباس وراء المتراس … يقظ منتبهٌ حسّاس.. منذ سنين الفتح يلمع سيفه، ويلمِّع شاربه أيضا، منتظرا محتضنا دُفَّه.. بلع السارق ضفة.. قلّب عباس القرطاس ضرب الأخماس بأسداس.. بقيت ضفة.. لملم عباس ذخيرته والمتراس، ومضى يصقل سيفه.. عبر اللص إليه، وحل ببيته، أصبح ضيفه.. قدم عباس له القهوة، ومضى يصقل سيفه.. صرخت زوجة عباس: ضيفك راودني، عباس، قم أنقذني يا عباس، أبناؤك قتلى، عباس.. عباس، اليقظ الحساس، منتبه لم يسمع شيئا، زوجته تغتاب الناس.. صرخت زوجته: “عباس، الضيف سيسرق نعجتنا.. قلب عباس القرطاس، ضرب الأخماس بأسداس، أرسل برقية تهديد.. فلمن تصقل سيفك يا عباس؟ لوقت الشدة.. إذن أصقل سيفك يا عباس”.
كانت هذه اللافتة بعنوان “عباس وراء المتراس”، أول لافتة نشرها احمد مطر في القبس الكويتية في أغسطس/آب 1980، وتصف شعوبًا عربية لا تملك شيئًا غير المفردات، تدّخر أسلحتها ليوم الشدة، لكنها لا تستخدمها أبدًا، رغم أنها تعيش الشّدة يوميًا.
ورغم مرور 44 سنة على هذه اللافتة، إلا أن الوقت لم يتغير إنما ازداد سوءًا على سوء، وهي انعكاس للواقع المرير الذي تعيشه الأنظمة العربية التي تخصص أكبر الموازنات المالية لشراء السلاح وعوض استعماله لتحرير الأرض، تركنه في المستودعات أو تضرب به الشعوب العربية.
اتفاقية كامب ديفيد
يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973 شنت مصر وسوريا حربًا مشتركة ضد الكيان الإسرائيلي، واستطاع الجيش المصري عبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف، كما توغلت القوات السورية حتى بحيرة طبريا مرورًا بمرتفعات الجولان، قبل أن يتمكن الجيش الإسرائيلي من إعادة احتلالها.
ظن العرب أن النظام المصري بقيادة أنور السادات سيواصل المسيرة إلى حين تحقيق النصر النهائي وتحرير كامل الأراضي العربية المحتلة بما فيها فلسطين، إلا أن نظام السادات خذل العرب مجددًا ودخل في مفاوضات سلام مع الكيان الإسرائيلي.
نتج عن هذه المفاوضات، توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام يوم 26 مارس/آذار 1979، تنص أبرز بنودها على إنهاء الحرب بين الطرفين وإقامة علاقات ودية وطبيعية بينهما، وحملت بنود الاتفاقية أول اعتراف عربي رسمي بـ”إسرائيل” وسيادتها على الأراضي الفلسطينية التي تحتلها، وحقها في أن تعيش بسلام.
كتب احمد مطر لافتة “الثور فر” في ذم أنور السادات الذي قاد مصر للخروج عن الإجماع العربي الرافض للتفاوض
قررت الجامعة العربية على الفور تعليق عضوية مصر ونقل مقر الأمانة العامة من القاهرة إلى تونس، وتعيين الشاذلي القليبي أمينًا عامًا جديدًا، وهو الوحيد الذي تقلّد المنصب من غير المصريين، كما قرر تطبيق قوانين اقتصادية لحصار الشركات المصرية التي تتعامل مع الكيان الإسرائيلي.
في الأثناء كُتبت المقالات والأشعار لنقد القرار المصري وبيان الخيبة العربية، وخرج احمد مطر بلافتة تحمل عنوان “الثور فر”، قد تكون أجرأ ما كتب، ساخطًا على اتفاقية العار ومخرجاتها والموقف الرسمي العربي المتخاذل، وبذلك قال: “الثور فرَّ من حظيرة البقر، الثور فرّ.. فثارت العجول في الحظيرة تبكي فرار قائد المسيرة وبعد عام وقعت حادثة مثيرة لم يرجع الثور، ولكنْ ذهبت وراءه الحظيرة”.
كتب احمد مطر لافتة “الثور فر” في ذم أنور السادات الذي قاد مصر للخروج عن الإجماع العربي الرافض للتفاوض حين صالح الكيان الإسرائيلي، كما حملت اللافتة نقدًا للأنظمة العربية التي انخرطت هي الأخرى في عملية السلام المزعومة.
تبدأ القصيدة بوصف فرار الثور من حظيرة البقر وتوجهه نحو “السلام” المصطنع مع الكيان الإسرائيلي، مما يثير الذعر والخوف بين الأبقار التي تقرر الاجتماع وعقد مؤتمر عاجل لمناقشة ما حدث، ومحاولة تفسير سبب فرار الثور فيتهم بعضهم الثور بالكفر، بينما يتهم آخرون القدر.
وهذا ما حصل، إذ اجتمع القادة العرب واختلفوا في تفسير سبب توقيع السادات اتفاقية كامب ديفيد مع “إسرائيل”، لكنهم في النهاية قرروا أن يقسموا مربط الثور، وأن يجمدوا شعيره، فتم تجميد عضوية مصر في الجامعة العربية ونقل الجامعة إلى تونس، علّ السادات يرجع إلى الحظيرة، لكن لم يرجع السادات إنما لحقته باقي الأبقار.
واصل احمد مطر نصرته للقضية الفلسطينية والقدس، حيث يقول في قصيدة بعنوان “بين يدي القدس”: يا قُدْسُ يا سَيِّدَتِي مَعْذِرَةً فَلَيْسَ لِي يَدانِ وَلَيْسَ لِي أَسْلِحَة وَلَيْسَ لِي مَيْدانٌ كُلُّ الَّذِي أَمْلَكُهُ لِسانٌ وَالنُطْقُ يا سَيِّدَتِي أَسْعارُهُ باهِظَةٌ وَالمَوْتُ بِالمَجّانِ سَيِّدَتِي أَحْرَجْتْنِي فَالعُمْرُ سِعْرُ كَلِمَةٍ واحِدَةٍ.
اعتذر احمد مطر لمسرى الرسول الكريم عن عجزه على فعل أي شيء لتحريره، وذكر في هذه القصيدة ضعفه وقلة حيلته، وألقى باللوم على من ينظر ويسمع لما يحدث للقدس دون أن يحرك ساكنًا، كما دعا الشعوب للتعاون حتى يحرروها.
“ارفعوا أقلامكم عنها قليلًا”
يوم 22 مارس/آذار 2004، اغتال جيش الاحتلال الإسرائيلي، الشيخ أحمد ياسين، زعيم ومؤسس حركة حماس الإسلامية، ما أحدث هزة كبيرة على مختلف الأصعدة الفلسطينية والعربية والدولية، نظرًا للمكانة الروحية والسياسية المميزة التي يحظى بها الشيخ في صفوف المقاومة الفلسطينية.
في الأثناء، تواصل الحصار المفروض على الزعيم الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، بمقر الرئاسة الفلسطينية في رام الله ومنعه من التواصل مع القيادات الوطنية الفلسطينية وتهديد حياته ووضعه تحت ضغط نفسي وعصبي.
تزامنت هذه الأحداث مع انعقاد القمة العربية في تونس يومي 22 و23 مايو/آيار 2004، وكانت التوقعات كبيرة، لعل الزعماء العرب يخرجون بقرارات ثورية تُرجع للمواطن العربي كرامته التي انتهكت، لكن تواصل الخذلان.
انتهت هذه القمة “الفاشلة” إلى بيان ختامي أكد على الالتزام بمبادرة السلام العربية و”اعتبارها المشروع العربي لتحقيق السلام العادل والشامل والدائم في المنطقة” ونقاط أخرى تعوّدت الجامعة العربية تضمينها في كل قمة دون أي جديد يُذكر.
عقب فشل هذه القمة العربية، كتب احمد مطر قصيدة يخاطب فيها الرؤساء والملوك العرب ويطالبهم بالصمت الأبدي ورفع أقلامهم عن القضية الفلسطينية وعدم التعرض لها مرة أخرى، وطلب مطر منهم أيضًا أن يكتفوا بالتقاط الصور التذكارية، فقال: “ارفعوا أقلامكم عنها قليلاً واملؤوا أفواهكم صمتًا طويلاً.. لا تجيبوا دعوة القدس.. ولو بالهمس.. كي لا تسلبوا أطفالها الموت النبيلا.. دونكم هذه الفضائيات فاستوفوا بها “غادر أو عاد”.. وبوسوا بعضكم.. وارتشفوا قالاً وقيلاَ”.
وصف أحمد في هذه القصيدة التي حملت عنوان “ارفعوا أقلامكم عنها قليلًا” القادة العرب بـ”القردة” العاجزين عن قتل “فيل” وإن امتلكوا السلاح، وطالبهم بالرحيل حتى يروا كيف يمكن أن يحيل العرب الذلَّ بالأحجار عزًا ويذلّوا المستحيل.
بلغت هذه القصيدة الناضجة المعبرة عن الوجع العربي مسامع الشعوب الحرة ورددتها كما رددت غيرها من قصائد احمد مطر التي تسللت إلى بقاع الوطن العربي الكبير، لكن القادة لاحقوها كما لاحقوا صاحبها، فتنقل من منفى إلى منفى إلى أن توارى عن الأنظار واعتزل الحياة في شقته بلندن يبكي الخيبة العربية.