يعتبر ما يسمى بالربيع العربي الذي اندلعت أحداثه عام 2011 نقطة تحول استراتيجية فاصلة في تاريخ الشرق الأوسط في العصر الحديث بما حمله من تغيرات وتحولات كبرى ما زالت تتداعى أحداثها ووقائعها على الصعيدين الدولي والإقليمي حتى الآن، إلا أن من الملاحظ أن حالة السيولة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ ست سنوات مضت منذ اندلاع ثورات العربي ثم انحساره وتحوله إلى خريف عاصف ثم شتاء قارص بفعل الثورات المضادة وما تبعها من تغيرات في كل دول المنطقة، يجعل من الصعب حسم مآلات تلك التغيرات أو الجزم بأنها ستستقر عند هذه الحالة الماثلة الآن.
فربما تشهد منطقة الشرق الأوسط تحولات أخرى أكثر غرابة ومخالفة لكل قواعد التوقعات مسارات السيناريوهات المحتملة، ولعل هذا كان الدرس الأول الذي تعلمناه من الربيع العربي الذي ربما أدهش كل العالم في عدم توقع اندلاعه فضلاً عن توقع تداعياته ومساراته.
لا شك أن منطقة الشرق الأوسط عاشت ست سنوات حافلة بالتحولات الدراماتيكية السريعة والمتتابعة التي لم تعط متابعها فرصة لالتقاط الأنفاس لتحليل أسبابها العميقة أو توقع مساراتها القادمة، ومن اللافت للنظر تغير الفاعلين المؤثرين في المنطقة وبروز دولة كالإمارات لم تكن محورية من قبل على سبيل المثال، لتصبح من اللاعبين المؤثرين في المنطقة، وتراجع بل تلاشي دور أبرز دول تيار الممانعة التي كانت دولاً محورية في السابق كمصر وسوريا.
وكذلك ظهور فاعلين جدد خارج إطار الدولة القطرية مثل تنظيم داعش واستحواذه على معظم الأراضي السورية والعراقية في فترة وجيزة في مؤشر صارخ على انهيار مقومات الدولة القطرية، وانحسار مد كبرى الحركات الإسلامية بعد وصولها للسلطة ممثلة في تيار جماعة الإخوان المسلمين في مصر بفعل الانقلاب العسكري على يد قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي بمباركة ودعم من النظام الإقليمي والدولي.
ثم الحدث الأبرز وهو الانشقاق الخليجي بمحاصرة دولة قطر من ثلاث دول خليجية شقيقة هي السعودية والبحرين والإمارات، إضافة إلى كبرى دول المنطقة وهي مصر، سبق ذلك تكوين تحالفات إقليمية شكلية بدعوى من السعودية تارة لمواجهة الحوثيين بعاصفة الحزم في اليمن إبان استيلائهم على مقاليد السلطة في اليمن ثم إنشاء التحالف الدولي المكون من قرابة 35 دولة عربية وإسلامية لمحاربة الإرهاب.
اشتعال الحروب الداخلية والصراعات الدولية نتيجة ثورات الربيع العربي وتفاعلات الثورات المضادة التي دفعت على إثرها القطبين الدوليين، روسيا والولايات المتحدة، نحو المواجهة غير المباشرة في المنطقة
بعد هذا العرض الموجز لأبرز المشاهد في خريطة التغيرات الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط نجمل أهم مساراتها الأخرى في النقاط الآتية بهدف تسليط الضوء على ملامحها وخطوطها الرئيسية لمحاولة فهم طبيعتها وأثرها وتداعياتها الحاليّة والمستقبلية.
– أضحت منطقة الشرق الأوسط نواة جذب استراتيجية للصراعات الدولية، فالصراع الدولي بين الشرق والغرب حط رحاله فيها حيث الصراع الأمريكي الروسي المتجدد الذي يمثل صراع قمة التنافس الدولي على مناطق النفوذ والثروات في العالم.
– انهيار منظومة الأمن القومي لبعض دول المنطقة وهو ما انعكس سلبًا على استقرار هذه الدول داخليًا وقوتها الخارجية، حيث تعاني معظم دول الشرق الأوسط من ثغرات أمنية كبيرة نتيجة اختراقات أجهزة الاستخبارات الخارجية التي جعلتها صيدًا سهلاً للقوى الدولية التي تعتمد على ضرب منظومة الأمن الداخلي تحت غطاء الإرهاب.
– اشتعال الحروب الداخلية والصراعات الدولية نتيجة ثورات الربيع العربي وتفاعلات الثورات المضادة التي دفعت على إثرها القطبين الدوليين، روسيا والولايات المتحدة، نحو المواجهة غير المباشرة في المنطقة.
– دخول المنطقة في مستنقع حروب الوكالة والتحالفات غير المدروسة بسبب انهيار منظومة التوازن الإقليمي الذي دفع بعض الدول الصغيرة إلى ممارسة دور جيواستراتيجي كبير على حساب العمق الاستراتيجي، والذي أثر بشكل سلبي على استقرار معادلة الأمن الإقليمي وانهيار المنظومات الإقليمية الرئيسية كالجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي، وعدم فاعليتهما في ممارسة دورهما السابق في المنطقة.
أدى الصراع الدولي والإقليمي في منطقة الشرق الأوسط إلى فقدان السيطرة على بعض أقاليم الدولة القطرية، بعد سيطرة داعش على معظم الأراضي العراقية والسورية وإنشاء دويلات داخل الدولة الواحدة
– تصاعد صراع محموم بين قوى إقليمية مندفعة تلعب أدورًا إقليمية مشبوهة وغير مسبوقة تطمح إلى الريادة والنفوذ على حساب القوى الإقليمية الأخرى (الإمارات نموذجًا)، إضافة إلى تحولات داخلية في معظم دول المنطقة لا سيما مصر وليبيا واليمن وسوريا، شابت المشهد الإقليمي من خلال التغيرات الاستراتيجية التي شهدتها هذه الدول نتيجة انحلالات داخلية وتدخلات خارجية من دول محيطة بها.
– تداعي الدولة القطرية وتفكك مكوناتها وضعف بسط سيادتها على حدودها ومكوناتها، حيث أفرز الصراع الإقليمي بين القوى الإقليمية المتناحرة إلى تفكيك أواصر التلاحم الاجتماعي وإضعاف نسيح الوحدة الوطنية لمكونات معظم الدول في المنطقة، وأضحت الهوية الوطنية من الماضي نتيجة صعود الهوية الإثنية الطائفية على الهوية الوطنية للدولة.
– انهيار الحدود والتقسيمات الإدارية لبعض الدول، فقد أدى الصراع الدولي والإقليمي في منطقة الشرق الأوسط إلى فقدان السيطرة على بعض أقاليم الدولة القطرية، بعد سيطرة داعش على معظم الأراضي العراقية والسورية وإنشاء دويلات داخل الدولة الواحدة، وظهور نزعات انفصال بعض أقاليم الدولة عن حكومتها المركزية (إقليم كردستان العراق نموذجًا)، فضلاً عن سوريا واليمن وليبيا وتركيا، إضافة إلى بعض الدول المرشحة لهذا الوضع.
منطقة الشرق الأوسط لا تزال تشهد مرحلة انتقالية بفعل التحولات الاستراتيجية نتيجة الربيع العربي وما تلاه من أحداث جسام
– تصاعد ظاهرة الهجرات الدولية وما نتج عنها من تغييرات ديموغرافية، حيث أفرزت الصراعات والحروب الداخلية في المنطقة ملايين المهاجرين الذين اتجهوا إلى الدول الإقليمية والغربية، خصوصًا تركيا وأوروبا، مما سبّب إرباكًا في هذه الدول وعجزها عن استيعاب المهاجرين واتخاذ تدابير مخالفة للقواعد والقوانين الدولية المتعلق باللجوء والهجرة.
– تهاوي أسعار النفط والصراع المحتدم على مصادر إمداد الطاقة، فمعظم دول الشرق الأوسط تعاني أزمات اقتصادية وعجز مستمر في الموازنات العامة نتيجة ارتباط اقتصادياتها بشكل مباشر بالنفط والغاز، وبسبب انهيار أسعار النفط في أواخر 2014، الذي خلّف أزمات اقتصادية مفاجئة، إضافة إلى الصراع المشوب والمتصاعد على خطوط نقل الطاقة، حيث باتت المنطقة مشتعلة بالحروب والصراعات التي يشكل تأمين خطوط نقل الطاقة أهم دوافع هذه الصراعات الدولية.
– سرعة التحولات الاستراتيجية في المنطقة، حيث تشهد حالة من السيولة وسرعة التغير في المواقف السياسية وتهاوي التحالفات، فلا تكاد تشهد حالة من الاستمرار أو الاستقرار، وإنما تتسم بالتبدل المفاجئ وكثرة المنعطفات، مثال ذلك العلاقات الخليجية – الخليجية والعلاقات التركية – الروسية، حتى على مستوى الحلفاء مثال ذلك علي عبد الله صالح والحوثيين.
وأخيرًا، يمكن القول إن منطقة الشرق الأوسط لا تزال تشهد مرحلة انتقالية بفعل التحولات الاستراتيجية نتيجة الربيع العربي وما تلاه من أحداث جسام، خلّفت تداعيات خطيرة على وقع الحروب والصراعات التي صبغت خرائط المنطقة، وغيرت بعض الأنظمة وأفرزت فاعلين ولاعبين جدد على مسرح الأحداث، سيكون لها ما بعدها من تغيرات مرتقبة نشهدها كل يوم، وهو ما يتطلب تكتل كل الجهود حتى لا تفقد الأنظمة زمام الأمور مما يصعب تدارك هذا التداعي والانهيار السريع أو الخروج من هذا النفق المظلم والانفجار الكبير الوشيك.