الزيارة المرتقبة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في شهر أبريل/نيسان المقبل، قد تشهد توقيع اتفاق أمني مع العراق، ينهي مشكلة حزب العمال الكردستاني ويؤمن الجانب الأمني من مشروع “طريق التنمية”، وهي زيارة إذا تحققت، ستكون الأولى له كرئيس للجمهورية، إذ يدرك الرئيس أردوغان حجم التحديات الكبيرة التي تقف في طريق العلاقات مع العراق، فإلى جانب مشكلة حزب العمال الكردستاني، هناك مشكلات أخرى لا تقل أهمية، يأتي في مقدمتها الدور الإيراني والوضع السياسي المعقد الذي يعيشه إقليم كردستان.
يمثل مشروع “طريق التنمية” واحدًا من الحلول العملية التي يطمح الرئيس أردوغان إلى توظيفها في تطبيع العلاقات مع العراق، وذلك عبر تحويل مناطق التشابك الأمني إلى مناطق للتشابك الاقتصادي، والأهم من ذلك فإن هذا المشروع قد يساهم في إعادة تشكيل الدور التركي في العراق، عبر السماح لتركيا بتحقيق منافسة إقليمية في العراق، من خلال الوصول الآمن إلى الأسواق العراقية في مدن وسط وجنوب العراق.
لكن التحدي الأبرز الذي يقف في طريق هذه الاندفاعة الإستراتيجية التركية، هو حزب العمال الكردستاني، وهو تحد حظى باهتمام بالغ في الزيارة الأخيرة للوفد التركي للعراق، مطلع الشهر الحاليّ، والذي ضم وزير الخارجية هاكان فيدان، ووزير الدفاع يشار غولر، ورئيس المخابرات إبراهيم كالن، ومن ضمن الحلول التي ناقشها الوفد التركي مع نظيره العراقي، إمكانية إقامة منطقة عازلة داخل الأراضي العراقي، وبعمق 40 كيلومترًا، من أجل احتواء تحركات حزب العمال الكردستاني، وإبعاد تهديداته عن الممر البري الذي يمر منه مشروع “طريق التنمية”.
جدوى المنطقة العازلة
السعي التركي لإقامة منطقة عازلة داخل الأراضي العراقي، يعكس إدراكًا تركيًا بفشل العراق في معالجة ملف حزب العمال الكردستاني، فعلى الرغم من العمليات العسكرية العديدة التي نفذتها تركيا في الفترة الماضية، فإن هذه العمليات لم تنجح في كبح نشاط حزب العمال الكردستاني، فما زال الحزب يحتفظ ببنيته التحتية العسكرية، ويمتلك هامش حركة مؤثرة، ويرتبط بتحالفات إقليمية عابرة للحدود، وهي مسارات زادت من العقدة التركية في هذا السياق.
يضم مشروع المنطقة العازلة التي تطمح تركيا لإقامتها أغلب الشريط الجغرافي الذي يربطها بالعراق، ويمتد من جبال هاكورك على المثلث العراقي التركي الإيراني حتى مدينة ديروك على المثلث العراقي التركي السوري، أما في العمق فهو يشمل جبال غارا وأفشين وباسين، حتى شمال دهوك، وتتركز أهمية المنطقة العازلة على جبل غارا تحديدًا، إذ يمثل هذا الجبل مقر عمليات حزب العمال الكردستاني، وقاعدة لتخزين السلاح، فضلًا عن كونه نقطة إستراتيجية تربط الاتحاد الوطني الكردستاني بقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وهو ما تحاول تركيا تجاوزه.
ما يدلل على الخشية التركية في هذا السياق، التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية التركي نهاية الأسبوع الحاليّ، وطالب فيها الاتحاد الوطني الكردستاني بمراجعة علاقاته مع حزب العمال الكردستاني، وأكد على أن تركيا تنظر باهتمام بالغ لتطوير العلاقات مع السليمانية، ولن تقف مكتوفة الأيدي إزاء هذه العلاقة التي تهدد الأمن القومي التركي.
ورغم أن الانتشار العسكري التركي في شمال العراق، وتحديدًا في المناطق التي تطمح تركيا إلى شمولها بمشروع المنطقة العازلة، فإن مثل هذا الانتشار قد لا يعطيها فرصة النجاح في تحقيق هذا المشروع، نظرًا للجغرافيا المعقدة في شمال العراق، المختلفة كليًا عن الجغرافيا في شمال سوريا، والتي سمحت لتركيا بتشكيل مثل هذه المنطقة، فضلًا عن ذلك فإن حزب العمال الكردستاني يمتلك خبرة التحرك في شمال العراق، ولديه علاقات واسعة هناك، وتحديدًا العشائر الكردية المتحالفة معه، ما يجعل هذا المشروع يواجه صعوبات كبيرة في النجاح.
دخول إيران على الخط
تدرك إيران خطورة نجاح مشروع المنطقة العازلة التي تطمح تركيا إلى إقامتها في شمال العراق، ليس على نفوذها في نينوى فحسب، بل على وضع حزب العمال الكردستاني في سنجار، إذ إن الشراكة التي تجمع إيران بهذا الحزب، مّكنت إيران من الحصول على موقع متقدم لتهديد الأمن القومي التركي، فضلًا عن مزاحمة تركيا في مناطق نفوذها، والأهم وصولها الآمن إلى البحر الأبيض المتوسط، عبر ربط الأراضي العراقية بالأراضي السورية، ومثلت سنجار عقدة مهمة في هذا السياق.
وفي هذا الإطار، أفرزت العلاقة بين الحرس الثوري الإيراني وحزب العمال الكردستاني تحولًا نحو إستراتيجية أكثر تخصصية في سنجار، عبر دمج أغلب الفصائل الإيزيدية المتحالفة مع حزب العمال الكردستاني ضمن هيئة الحشد الشعبي، فقد وفر الحزب لإيران فرصة لتأمين الطريق البري الرابط بين سنجار وربيعة باتجاه الحدود السورية، بهدف تسهيل عمليات نقل المقاتلين والأسلحة إلى سوريا، فضلًا عن تأمين عمليات تجارة المخدرات والتهريب والتجارة العابرة للحدود، عبر مناطق سنجار والإدارة الذاتية الكردية شمال شرق سوريا.
ومن المتوقع أن تمارس إيران جهودًا في إفشال زيارة أردوغان المرتقبة، وتحديدًا في موضوع الاتفاق الأمني الذي يطمح إلى توقيعه مع العراق، أو حتى في إفراغ هذا الاتفاق إذا تم، من أي تداعي على نفوذها في شمال العراق.
ما الأهم من ذلك؟
إلى جانب إدراك تركيا لأهمية العلاقة مع أربيل، بدأت بوصلة أنقرة تتجه نحو السليمانية مؤخرًا، وذلك عبر إدراكها بضرورة عدم حصر علاقاتها مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، فقد أدى فتور العلاقة التي تربط تركيا بالاتحاد الوطني الكردستاني إلى نتائج عكسية على أنقرة، أمنيًا عبر تصاعد حدة التأثيرات العابرة للحدود التي بدأت تؤطر علاقة الاتحاد الوطني الكردستاني وقسد، وإستراتيجيًا عبر توثيق الاتحاد الوطني الكردستاني العلاقة مع إيران وحزب العمال الكردستاني، واقتصاديًا عبر الحاجة التركية للغاز القادم من السليمانية الخاضعة لسيطرة الاتحاد، ومن ثم فإن هذا التحول التركي يشير إلى توجه جديد للعلاقة التي تربط تركيا مع إقليم كردستان العراق.
تعتقد تركيا أن توازن العلاقات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، يمكن أن يكون بمثابة ثقلٍ موازن لأنقرة حيال بغداد، ونتيجة ذلك، لا ترغب أنقرة في تدهور الوضع في إقليم كردستان، بحيث يفوز أحد الطرفين بشكلٍ حاسمٍ على الآخر.
وتطمح أنقرة عبر مزيد من الانخراط في شمال العراق إلى دفع الاتحاد الوطني الكردستاني للنأي بنفسه تمامًا عن حزب العمال الكردستاني، أو على الأقل تحجيم العلاقة إلى ما دون توفير الملاذ الآمن والدعم اللوجستي، علاوةً على ذلك، تضغط أنقرة أيضًا على الاتحاد الوطني الكردستاني، ليعيد النظر في علاقاته الوثيقة بشكلٍ متزايدٍ مع إيران، وبالشكل الذي يمكن أن يخدم النفوذ التركي في شمال العراق في المرحلة المقبلة.
في هذا الإطار أيضًا، يمثل شمال العراق الحزام الجنوبي الأهم في إستراتيجية الأمن القومي التركي، وتؤثر التفاعلات فيه بشكل مباشر على الداخل التركي، ويحكم التوجه التركي في المرحلة الحاليّة ثلاث متغيرات صعبة وأساسية هي: تطويق مشكلة سنجار عبر مشروع المنطقة العازلة، والحفاظ على مكانة أربيل في السياسة العراقية، واحتواء الخلاف الكردي-الكردي بين السليمانية وأربيل.
إذ تتعرض أربيل لضغوط عالية تستهدف تحجيم دورها في السياسة العراقية، وترجيح كفة السليمانية في العلاقة المتفاعلة بين بغداد وأربيل، وقد كانت قرارات المحكمة الاتحادية غير مسبوقة، ولها آثار واضحة على دور الإقليم وحجمه في المرحلة المقبلة، فهي تهدف بالنهاية إلى تضييق دورها وإفراغ علاقاتها الخارجية، لا سيما في مجال النفط وتصديره، وهذا بدوره ينعكس على التوازن الذي تتبعه أنقرة بين بغداد وأربيل.