في نوفمبر/تشرين الثاني 2014، وتحديدًا في صحراء مدينة دابق السورية، ظهر محمد إموازي الشهير بـ”جون الجهادي” والمعروف بين رفاقه بـ”أبو محارب المهاجر” في مقطع فيديو وهو يقطع رأس الجندي الأمريكي السابق وعامل الإغاثة بيتر إدوارد كاسيغ. في نهاية الفيديو وقف جون بثبات ونظر للرأس المقطوع أمام قدمه، ودندن بعضًا من تنبؤات أبو مصعب الزرقاوي عن قرب اشتعال معركة نهاية العالم، ثم ختم جون كلامه بالقول: “ها نحن ندفن أول صليبي أمريكي في دابق، وننتظر بلهفة بقية جيوشكم لتذبح أو تدفن هنا”.
اليوم الموعود.. نهر الدماء
بعد أن حقق تنظيم الدولة انتصارات عسكرية منذ العام 2013 وأعلن تمدده إلى الشام، لم تقتصر أهدافه على هزيمة أعدائه فحسب، بل اتجه بالصراع نحو الملحمة الأخيرة لنهاية العالم، إذ جاء في مقدمة أهدافه طويلة المدى، الترقب لخوض معركة نهاية الزمان.
وبشكل متفائل للغاية بشأن المستقبل، حشد التنظيم خيرة رجاله وجهز عدة القتال ونصب الراية استعدادًا لآخر الحملات الصليبية التي ستنكسر قرب الحدود التركية في مدينة دابق السورية، وصور التنظيم جنوده المحتشدين وهم منتظرون بشوق وفرح قدوم جيوش التحالف الدولي، من أجل الصدام الأخير والمواجهة الملحمية التي سينتصر فيها التنظيم.
وفي محاولة لتجسيد ودعم هذه السردية على شكل واسع، أصدر التنظيم عبر مركز الحياة الإعلامي المتخصص في نشر المواد باللغات الأجنبية، مجلة شهرية أسماها “دابق” على اسم المدينة الصغيرة بريف حلب الشمالي، التي حظيت بأهمية رمزية كبيرة لرجال البغدادي بسبب نبوءة النبي محمد عليه الصلاة والسلام بوقوع معركة مفصلية في هذه المنطقة بين المسلمين والروم.
تعتبر هذه النبوءة مركزية للغاية في أيديولوجية تنظيم الدولة، لدرجة أن أول مجلة دورية يصدرها باللغات الأجنبية حملت اسم “دابق” ونُشرت بـ8 لغات (الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإندونيسية والباشتو والروسية والتركية والأويغورية)، بجانب بعض الأعداد التي تضمنت اللغات البوسنية والكردية.
وفي جميع أعداد دابق، افتتحت المجلة صفحاتها الأولى باقتباس من الرائد الفكري للتنظيم أبو مصعب الزرقاوي: “ها هي الشرارة قد انقدحت في العراق، وسيتعاظم أوارها بإذن الله حتى تحرق جيوش الصليب في دابق”.
اللافت أنه عند سيطرة التنظيم على دابق ومساحة كبيرة من الأراضي السورية، توقع أن النصر النهائي للمسلمين سيحدث قريبًا، وأن تنبؤات الزرقاوي بدأت تحقق، لذا ربط أفعاله وإستراتيجياته بأحاديث نهاية الزمان، واعتبر نفسه الطائفة المنصورة المختارة التي ستقاتل في الحرب التي ستحدث في دابق.
لكن لم تحدث المواجهة المتوقعة على الشكل الذي أراده تنظيم الدولة، إذ هزم في دابق على أيدي قوات المعارضة السورية بمساعدة من تركيا، واضطر في النهاية إلى الفرار من المدينة في أكتوبر/تشرين الأول 2016.
كما بدأ يعاني من انتكاسات عدة وشعر بوخزة تقلص الأراضي التي سيطر عليها، فكانت النتيجة أن سارع فريق الإعلام بالتنظيم إلى وقف صدور مجلة دابق، نظرًا للخسارة الوشيكة للمدينة والتشكيك في مصداقية المجلة التي صدر منها 15 عددًا، والتي تم نشرها بداية من يوليو/تموز 2014 بعد شهر من سقوط الموصل، حيث بدأت كمجلة شهرية لكن سرعان ما أصبحت نصف شهرية في عام 2015 وربع سنوية في عام 2016.
اختفت إذًا مجلة دابق وأجلت ادعاءات اقتراب “الساعة” وملاحم نهاية الزمان بسبب الظروف المتغيرة، كما تم إعادة تفسير النبوءات النبوية بشكل يتناسب مع الإستراتيجية الجديدة للتنظيم، مع طمأنة الأتباع بالنصر الشامل في نهاية المطاف. وقبل أسابيع قليلة من سقوط دابق، أصدر التنظيم مجلة جديدة في منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2016 للتكيف مع تراجعه العسكري ومواصلة سرد آخر متماسك ومختلف بشكل كبير عن السابق، وسميت المجلة الجديدة “رومية”.
أي أن الغزو المتخيل لروما الذي ليس له تاريخ محدد، قد حل محل معركة دابق والتنبؤ الوشيك بنهاية العالم. وفي حين أن دابق هي المدينة التي من المفترض أن تتقاتل فيها الجيوش الإسلامية والغربية في معركة مفصلية، فإن رومية هي آخر مكان ستسيطر عليه الجيوش الإسلامية بعد القسطنطينية (إسطنبول). وبهذه الطريقة يمكن النظر إلى أن رومية كانت وسيلة لإظهار ما يطمح إليه التنظيم، وليس ما فقده، أي أنها تعكس التحول من التركيز على بناء الخلافة إلى رؤية طويلة المدى لهزيمة القوى الغربية.
هذا التنقل والتعديل في تفسير النبوءات، برره التنظيم في مقالة خاصة في العدد الثالث من رومية بعنوان “إلى ملحمة دابق الكبرى”، إذ تعكس هذه المقالة إصرار التنظيم على الاعتقاد بأن نبوءاته ستتحقق رغم مقتل القادة وخسارة المدينة، حيث قلل من خسارته لدابق، واعتبر أن ما حدث لم يكن إلا “معركة دابق الصغرى” وليست “ملحمة دابق الكبرى”.
أيضًا تم استبدال الاقتباس المتفائل للزرقاوي الذي ظهر في كل عدد من أعداد دابق بسطر آخر في جميع أعداد رومية منسوب إلى أبو حمزة المهاجر – خليفة الزرقاوي – : “يا أيها الموحدون، أبشروا، فوالله لا نستريح من جهادنا حتى نصبح تحت أشجار زيتون رومية”، بمعنى أن التنظيم لن يهدأ حتى يخوض الصراع النهائي. وافتتحت الصفحات الأولى من العدد الأول من مجلة رومية بالدعاء: “اللهم اجعل فتح القسطنطينية والروم بأيدينا واجعلنا من عبادك الصابرين الشاكرين”.
مجلة رومية
الواقع أن إصدار مجلة رومية لم يكن ردًا على مقتل العدناني، بل كانت رومية إحدى مبادراته الأخيرة لرسم مسار المرحلة التالية للتنظيم. وبينما صدرت دابق خلال سنوات توسع تنظيم الدولة، فقد صدرت مجلة رومية خلال تراجعه، لذا فإنها توفر نظرة ثاقبة على مرحلة تطور الخطاب السياسي والأيديولوجي لتنظيم الدولة، وظهور علامات التفكك الهيكلي والضغط المتزايد الذي تعرض له ماليًا وعسكريًا ونفسيًا.
والأهم من ذلك، أن تتبع التسلسل الزمني لمحتوى المجلة ومقارنته بالأحداث التي عاشها التنظيم، يوضح لنا كيف أثرت خسارة المدن ذات الأهمية الإستراتيجية على حساباته وغيرت من تكتيكاته، كما تُبرز أيضًا شعور التنظيم بانهيار مستقبله ومحاولته تطوير سردية جديدة تهدف إلى تبرير السقوط المكاني الذي تعرض له، وربط أفراد التنظيم في رؤية واحدة متماسكة.
بدأ إصدار مجلة رومية في أكتوبر/تشرين الأول 2016، وانتهت في العدد الـ13 في سبتمبر/أيلول 2017، ويبدو أن خسارة الرقة أجبرتها على وقف النشر، فمنذ ذلك الحين، لم يتم استبدال مجلة رومية بمجلة جديدة. وقد صدرت بـ10 لغات: الإنجليزية، الألمانية، الفرنسية، الروسية، البوسنية، الكردية، الأفغانية، التركية، الإيغورية (شينجيانغ – الصين)، البهاسا (إندونيسيا). ويبدو أن النسخة الأولى من المجلة كانت تكتب باللغة الإنجليزية وبعد الانتهاء منها تُقدم لقسم الترجمة، ثم تصدر نسخة من كل لغة بشكل دوري في نفس الوقت.
تراوح كل عدد ما بين 38 إلى 60 صفحة – أقصر بكثير من مجلة دابق -، بإجمالي 590 صفحة لجميع الأعداد. ويمكن تقسيم كل عدد إلى 5 أقسام رئيسية: مقالات دينية وآراء فقهية وتاريخية وملخصات لأخبار العالم، تشغل عادة صفحة واحدة إلى بضع صفحات، ثم تقارير ميدانية توثق النشاط العسكري، وتحديدًا العمليات الدفاعية في حلب وجبال القلمون والموصل وما حولها، وقد تضمنا بشكل أساسي ملفي “تكتيكات الإرهاب العادل” و “أعداد الجثث والعتاد” يسرد فيهما التكتيكات الجديدة للتنظيم، وخسائر القوات التي حاربها، وجداول عامة بهجمات السكاكين والمركبات والحرق واحتجاز الرهائن، ثم قسم المقابلات مع مسؤولين عسكريين وشرعيين في التنظيم، بجانب قسم خاص للشهداء معظمهم من المقاتلين الأجانب حمل اسم “من المؤمنين رجال”، وأخيرًا قسم مخصوص عن دور المرأة وواجباتها.
يمكن القول إن مجلة رومية وصلت إلى ذروة النشر الجهادي في عالم المجلات، إذ تتميز بجودة الإنتاج العالية للغاية، ومع أنه لا يُعرف الكثير عن الكُتاب والمحررين الأساسيين وجنسياتهم ومؤهلاتهم، لكن حسب رواية تنظيم الدولة، فإن رئيس تحرير مجلة رومية هو عالم كمبيوتر أمريكي يدعى أبو سليمان الشامي الذي قتل في غارة جوية للتحالف جنوب غرب الرقة.
ويبدو أن محرري مجلة رومية قد وضعوا لها نظامًا واضحًا ومحددًا، بدءًا من إصدار المجلة في فترة تتراوح عادة بين 26 و38 يومًا، والتركيز على نوع وعدد محدد من الموضوعات بشكل مدهش، فالعدد الواحد لا يزيد على 12 موضوعًا، بجانب الكفاءة في صياغة الروايات والنصوص وجعلها أكثر تأثيرًا.
إحدى أهم سمات هذه المجلة، هي اللغة البسيطة والقوية، وتقليل المصطلحات العربية إلى الحد الأدنى مع روح الدعابة والنبرة الأكثر عامية، إضافة إلى إستراتيجيات التواصل والإقناع المطبقة بحرفية. يبدو أن المجلة كانت بالأساس موجه للشباب الأصغر سنًا الذين يعيشون في الغرب.
كذلك يلاحظ التركيز الطاغي على المحتوى البصري، فالتصميمات والصور والرسومات والخطوط الفرعية والألوان كانت احترافية للغاية في لفت الانتباه ودعم محتوى الكلمات، إذ تضم مجلة رومية 490 صورة بمتوسط 30 صورة تقريبًا لكل عدد، وكل مقالة احتوت على ما بين صورتين إلى 5 صور، وكل غلاف احتوى على صورة واحدة مهيمنة ترتبط بموضوع المجلة الرئيسي، كما احتوت الصفحة الأخيرة من أعداد المجلة على صورة شجرة زيتون، وفي أسفل الصورة كُتب حديث النبي محمد عن فتح القسطنطينية وروما.
التحول الإستراتيجي.. من التوسع السريع إلى الانكماش
“لا يمكن أن يتحقق الجهاد حتى تحزموا أمتعتكم وتهاجروا إلى الخلافة.. فلا حياة بدون جهاد، ولا جهاد بدون هجرة”، مجلة دابق.
“إن من حكمة الله أن يبثكم في مختلف الديار الصليبية لينظر أيكم أحسن عملًا”، مجلة رومية.
عندما تعرض التنظيم لغارات جوية، وأصبح يواجه تحدي البقاء المكاني، تحولت إستراتيجيته نحو إنشاء مساحات معارك بديلة خارج قلب الخلافة، وبدلًا من النهج الأول المشجع على الهجرة من جميع أنحاء العالم إلى أرض الميعاد في الشام والعراق كهدف نهائي لبناء واستعادة مجد الأمة الواحدة، إلا أن الرحلة إلى الخلافة لم تعد هدفًا حين تقلصت مساحتها، فالواقع فرض تقديم رؤية جديدة خصوصًا للمسلمين المقيمين في الغرب.
وعلى هذه الخلفية، اتجه التنظيم نحو العالمية، فسعت رومية بشكل كبير إلى حث المسلمين بالخارج خاصة في البلدان المتحالفة مع الولايات المتحدة، على خوض المعركة في وطنهم الأم، بل يمكن القول إن هذا هو الهدف الرئيسي من وجود المجلة، من ملاحظة أنها ليست مجرد مجلة دعائية بقدر ما هي تعبير عن رؤية التنظيم.
ويلاحظ أن نحو 40% من محتوى المجلة متعلق بالأعمال العسكرية والتشجيع على تنفيذ هجمات في المسرح الغربي من خلال إقناع القراء بأن القيام بهجمات ليس بالمهمة الصعبة، ففي مناقشات مطولة، قدمت “رومية” تكتيكات سميت بـ”الإرهاب العادل” وهي تتشابه إلى حد ما مع تكتيكات تنظيم القاعدة باليمن – “الجهاد مفتوح المصدر” – في مجلته “إلهام – Inspire”.
اعتمدت تكتيكات “الإرهاب العادل” بشكل أساسي على الوسائل منخفضة التكاليف، مثل الإجراءات الشاملة بشأن كيفية استخدام السكاكين، بما في ذلك كيفية الحصول على السكاكين وأنواعها، التي احتلت مكانًا بارزًا في معظم أعداد المجلة ضمن وسائل العقاب ضد أعداء التنظيم.
فعلى سبيل المثال تم الاستشهاد بهجوم الشيشانيين على قاعدة عسكرية روسية في غروزني بالسكين والاستيلاء على أسلحة الجنود الروس، فقد أكدت المجلة على أنه إذا كان اجتياح قاعدة عسكرية بالسكاكين ممكنًا، فسيكون من الأسهل تنفيذ هجمات بالسكاكين في الأماكن العامة بمعظم الدول الغربية، وقد تم ذكر الولايات المتحدة وأوروبا وكندا وبريطانيا وأستراليا في هذا السياق.
لكن ما يلفت الانتباه، هو قدرة التنظيم على اختيار نصوص إسلامية لتبرير تكتيكات “الإرهاب العادل”، فعلى سبيل المثال تم التنظير للهجوم بالسكين في إطار ديني وتاريخي، وغالبًا ما رسم التنظيم صورة عسكرية قاسية للنبي محمد، إذ تمت الإشارة إليه على أنه “نبي الذبح”، كما نُظر لشخصية الصحابي أبي بصير على أنه رائد تكتيكات “الإرهاب العادل”، وبالتالي قدمت هذه التكتيكات ليس فقط كتقاليد تعود إلى زمن النبي محمد وجزء لا يتجزأ من التاريخ الإسلامي، بل كإقرار من النبي والصحابة بتأييد هذا الفعل.
هذا إضافة إلى أسلحة الصيد والحرق، مع تقديم تعليمات مفصلة عن استخدام قنابل المولوتوف والنابالم، إلى جانب النصائح المتعلقة بالتخطيط والتوقيت والأهداف، وأيضًا نصائح وإرشادات بشأن كيفية تقسيم الثروة المسروقة من الأعداء.
ففي العدد الثالث تقترح المجلة القيام بهجمات في المؤتمرات والاحتفالات الكبيرة في الهواء الطلق والشوارع المزدحمة بالمشاة والأسواق الخارجية والتجمعات السياسية، كما تؤكد على ضرورة أن يترك المهاجم رسالة بعد الهجوم يعلن فيها انتمائه للتنظيم. وتجدر الإشارة إلى أن الأساليب المقدمة في المجلة قد تم بالفعل تطبيقها في العديد من الهجمات التي وقعت في أوروبا:
“يجب تحديد الطريقة المناسبة لإعلاء كلمة الله وإعلان البيعة لخليفة المسلمين، من الأمثلة البسيطة على ذلك، الكتابة على عشرات الأوراق (الدولة الإسلامية باقية)، أو (أنا جندي من جنود الدولة الإسلامية) وإطلاق الورق من نافذة المركبة أثناء تنفيذ الهجوم”.
وللتدليل على أهمية وفاعلية تكتيكات “الإرهاب العادل”، استعرضت المجلة رسومات بيانية توضح آثار الهجمات على اقتصاد الدول الغربية، وقسمتها إلى خسائر مباشرة مثل تدمير المرافق، تكاليف سيارات الإسعاف، إغلاق الأعمال، إغلاق المدن والطرقات، إزالة الدمار، ثم خسائر متوسطة الأجل كانخفاض أسعار الأسهم وخسائر السياحة والصناعة وارتفاع تكاليف الأمن الداخلي واستنزاف رأس المال، أما التكاليف طويلة الأجل فتتمثل في ارتفاع معدلات البطالة،وارتفاع تكاليف مراقبة المرافق والمزيد من زعزعة الاستقرار.
كذلك يلاحظ أن المجلة ركزت بشكل كبير على إنجازات التنظيم خارج المناطق الخاضعة لسيطرته في العراق والشام، ويبدو أن جزء من إستراتيجية التنظيم في هذه الفترة التركيز على المناطق التي يتعرض فيها لضغوط أقل، وتشجيع العرب على استهداف أعداء التنظيم في أوطانهم المحلية، أو الانضمام إلى ولايات الخلافة الجديدة خاصة في إفريقيا.
صورة المرأة في رومية
بشكل ملحوظ اهتم تنظيم الدولة بشؤون المرأة أكثر من الحركات الجهادية الأخرى، فلم يمنحها صوتًا فحسب، بل زاد من خطابه المخصص لها بشكل أكثر منهجية. لقد كانت رومية مهتمة بإمكانات المرأة والطرق التي يمكن من خلالها المساهمة في استعادة أراضي الخلافة واستمرار الجهاد، لدرجة تخصيص قسم خاص لها تحت اسم “الأخوات” مكتوب خصيصًا للنساء ومن النساء أيضًا، ويتراوح طول هذه الموضوعات من صفحتين إلى 7 صفحات.
يعتبر تنظيم الدولة أن المرأة هي أمل الأمة لبناء صرح المجد، وينظر إليها من خلال دورها كزوجة ومربية للأجيال، تتحمل المسؤولية الأكبر في التربية، وتحفز زوجها على الالتزام بالجهاد، وتغرس حب الإيمان والشوق إلى الشهادة في نفوس الذكور، والعفة في الإناث، وفي جميع المقالات تقريبًا تخاطب المرأة كأم أو زوجة: “زوجة مجاهد وأم أشبال”.
لكن نصائح التربية للأم وعلاقتها بأبنائها اعتمدت بشكل كبير على العسكرة، أي على إعداد الذرية للقتال، وحتى الكتب المدرسية التي أصدرها التنظيم لتدريس اللغة والأدب للأطفال، اختاروا فيها أشعارًا حربية من عصور ما قبل الإسلام، وأما في الإسلام فاختاروا أشعارًا حربية للمتنبي وبديع الزمان الهمذاني وابن العميد. وكذلك في مادة التاريخ الإسلامي اعتمدوا على معارك معينة في التاريخ، وفي مادة الرياضيات كان يتم تضمين أسئلة من نوع: إذا كان لدى الدولة الإسلامية في معركة 275.220 جندي والكفار لديهم 356.230 فمن لديه المزيد من الجنود؟
“من أعظم نعم الله على أشبال الأسود في الخلافة والتي ينبغي للأم أن تشكر الله عليها – أن ينشأ الأشبال في البيت المجاهد، فيكبرون وتعتاد أعينهم رؤية الأسلحة والمعدات، من بنادق وسترات تكتيكية ورصاص وقنابل يدوية وأحزمة ناسفة”.
وفي حين أن نساء التنظيم يوصفن بـ”عفيفة، نقية، تقية، شجاعة”، إلا أن المرأة غير المسلمة كانت على العكس، في الغالب صورت كضحية ومنحرفة، وغالبًا ما تم وضع “الجهادية النسائية” في مواجهة “النسوية الغربية”، إذ تم إبراز الفارق بين تمكين المرأة في تنظيم الدولة وتمكين المرأة في الدول الغربية، لدى رومية نظرة سلبية للغاية تجاه “الحركة النسوية”، وينظر تنظيم الدولة لنفسه باعتباره خط الدفاع الأول ضد الجهود الغربية للقضاء على هوية المرأة المسلمة.
لكن مع ذلك، لم تقلل “رومية” من شأن المرأة، بل رأت أن مسؤوليتها هائلة، لذا حددت أدوارها بشكل يتوافق مع فهم النماذج الأولى للتاريخ الإسلامي مع بقاء الإطار السلفي الجهادي، كما أخذت في الاعتبار الأعراف الاجتماعية وارتكزت على مفهوم أبوي لدور المرأة في المجتمع.
معظم موضوعات رومية النسائية رسمت صورة إيجابية رومانسية للمرأة، وغالبيتها كانت عن مشاق الحياة وتبعات الهجرة وضرورة التصدق والزواج والجهاد والعفة، والاهتمام باللغة العربية وكثرة الإنجاب لتقوية الأمة، ودور المرأة تجاه زوجها، والأخير من أكثر المواضيع التي حظيت باهتمام ملحوظ في أعداد المجلة.
إذ تم التأكيد بشكل متكرر على طاعة المرأة لزوجها، وأن تكون داعمة له، وتصبر عندما يكون غائبًا، وسوف تُمتحن مثل زوجها الشهيد المحتمل، فقد يُقتل أو يُجرح أو يُسجن، لذا تحتاج إلى الصبر والثبات، وغالبًا ما تم دعم هذه السردية بقصص الصحابيات ونساء السلف كأيقونات تحتذي بها نساء اليوم:
“كانت إحدى نساء السلف تتبع زوجها كل يوم إلى باب البيت، تطلب منه قبل رحيله أن يتقي الله فيما يأتي به من طعام وشراب، إذ كان همها الحلال والحرام – في حين أن بعض نساء اليوم يتبعن أزواجهن إلى الباب بقائمة مشتريات لا نهاية لها”.
لكن في كثير من الأحيان يُنظر إلى الزواج على أنه شكل من أشكال العقد الاجتماعي، حيث يقوم الرجل بإعالة المرأة وحمايتها، والمرأة تدعم زوجها وتربي أبناءها، وهناك العديد من الصور في رومية التي تدعم سردية الأمومة والزوجة الحنونة المتدينة:
“أختي العزيزة، إن مساندة زوجك المجاهد هو أحد أدوارك الأساسية في أرض الجهاد، ولا يمكن المبالغة في أهميته، اجعلي بيتك مكانًا لراحة عقله وليس بيتًا للشكاوى، اجعليه مكانًا يستطيع فيه إعادة شحن طاقته للجهاد بدلًا من تفريغ الطاقة المتبقية فيه.. قدري وجوده واصبري على غيابه، فهو لا يدير مشروعًا عائليًا أو يعمل في وظيفة من الساعة التاسعة إلى الخامسة كما هو الحال في دار الكفر، بل هو مجاهد في سبيل الله لخدمة دين ربك الأعلى”.
ورغم اعتبار رومية القتال ليس جزءًا من فطرة المرأة، لكن تغيرت النغمة العامة قليلًا عندما أصبحت المعركة مكلفة بالنسبة للتنظيم، وينعكس هذا الأمر في المقال الذي ظهر في العدد الأول بعنوان: “يا أيها النساء تصدقن”، حيث يشار فيه إلى طرق ووسائل مشاركة المرأة في الجهاد، على سبيل المثال من خلال القيام بخدمات الرعاية الصحية للمقاتلين، وضرورة التبرع بالمال.
ومن اللافت وجود محتوى في رومية يتناسب خصيصًا مع اهتمامات “النساء الجهاديات” والإشادة بأدوارهن العسكرية، وإحياء نموذج المجاهدة، إذ تم التنظير إلى الفرق بين جهاد النساء الهجومي والدفاعي، فالجهاد الثاني يعتبر واجبًا عند الحاجة.
تقول الكاتبة الأسترالية “أم سليم المهاجرة”: “فليحذر الصليبيون، فكما أن الخلافة مليئة بالرجال الذين يحبون الموت أكثر من حب الصليبيين للحياة، كذلك نساء الدولة الإسلامية، فلا يظنوا أننا سنستسلم لاستهدافهم أزواجنا بالطائرات بدون طيار، أو قصف بيوتنا، أو إسقاط الفسفور الأبيض على أطفالنا”.
لكن في نفس الخطاب، يتم الإشارة كذلك إلى عار الرجال، لأنهم لم يقوموا بواجب الجهاد، واضطرت النساء للقيام بدورهم، وبطبيعة الحال، فـ”رومية” تعكس بشكل كبير الوضع الجديد الذي عاشه التنظيم، واضطره إلى إشراك النساء في أدوار قتالية والاحتفاء بجهادها وتشجيعها على تنفيذ هجمات ضد العدو، بعد خطاب رعاية البيت وتربية الأطفال حين يشن أزواجهن الحرب:
“نفذت 3 أخوات موحدات هجومًا جريئًا على مركز للشرطة في مومباسا بكينيا، مستهدفين قوات الأمن التابعة لدولة صليبية، ودعمًا للدولة الإسلامية بعد أن أعلنوا بيعتهم للخليفة، وبذلك ساروا على خطى “تاشفين مالك” في العملية المباركة ضد الصليبيين في سان بيرناردينو بكاليفورنيا”.
كذلك توضح رومية بعض المشكلات التي عانتها نساء التنظيم، لعل أبرزها ظاهرة “الأرامل الجهاديات” التي خلقت مشكلات كثيرة، لذا خصصت رومية العديد من المقالات لهذه الظاهرة التي عوجلت بالتشجيع على زواج الأرامل، وإحياء هذه السنة المهجورة، وقد ظهر ذلك من خلال استدعاء قصة “أسماء بنت عميس”.
رحلة البطل.. عزاء المحرومين
“أيها المجاهدون: إني لا أخاف عليكم كثرة عدوكم ولا عظم أسلحتهم، ولا تحزب قوى الشر واجتماعها عليكم، ولا خذلان إخوانكم المسلمين في بقاع الأرض، ولكني أخاف عليكم من أنفسكم؛ أخاف أن يصيبكم الوهن والضعف وكثرة المعاصي”.
في الأعداد الأخيرة من “رومية” لوحظ خروج عن نمط التنظيم المعتاد، فقد شملت الموضوعات: معرفة الله والصلاة والصيام وقيام الليل والإدامة على تلاوة القرآن والإعداد الإيماني والتقوى، والتشديد على الولاء والبراء وأهمية الدعاء وعدم التمسك بالحياة الدنيا، والجاهلية وتصحيح التفسيرات الخاطئة عن الإسلام، والرؤية الموغلة في القدرية المطلقة التي تتشابه مع بعض الأفكار الصوفية الجبرية.
بجانب التركيز على المواد التعليمية، كتعلم اللغة العربية، وشرح العقيدة السلفية اعتمادًا على ترجمة كتب “ابن عبد الوهاب”، وأيضًا يلاحظ كثرة الاستشهاد بكتابات ابن تيمية، خصوصًا في مواضيع الصبر على البلاء والثبات على العقيدة.
أحد الموضوعات التي نوقشت بكثرة، تحصين الهوية الإسلامية السنية وتقويض هوية الخصوم، فعلي سبيل المثال خُصصت مساحة كبيرة جدًا لشن الحرب على مظاهر الشرك وأهل البدع، والاحتفالات برأس السنة وأعياد الميلاد، والرد على عقائد الشيعة ونقد نظرية ولاية الفقيه، وإلقاء اللوم على العثمانيين في إنشاء خلافة زائفة أصابت المسلمين بالوثنية والقوانين الوضعية، بجانب تخصيص مساحة أخرى للرد على أصنام العلمانية والقومية والليبرالية المنحرفة، والمسيحية والإلحاد، والصوفية والأئمة المضلون الذين خصص لهم ملف حمل عنوان “علماء السوء”:
“إن أعظم ما أخفاه علماء السوء عن الناس، هو حال هؤلاء الطواغيت وحكم الله فيهم.. بل زادوا في الخداع بأن وصفوهم بـ”أُولِي الأَمر” زاعمين أنهم حكام شرعيون.. ونتيجة لذلك اتبع كثير من الناس الطواغيت بحماقة وانحرفوا وارتدوا.. فسبب انحراف الناس في مصر واتباعهم لحسني مبارك والسيسي هو علماء الأزهر وأدعياء السلفية وطواغيت الإخوان المرتدين، ونجد هذا السيناريو يتكرر في سائر البلدان”.
يبدو أن هذه الفترة تعكس حالة الحرمان والاغتراب التي بدأ التنظيم يدخل فيها، جزء كبير من المحتوى الذي يشكل صلب “رومية” في عمرها الأخير يتمحور حول شعور التنظيم بموقفه الضعيف، لذا حاول تعويض الهزائم العسكرية وتقلص أرض الخلافة عبر تعزيز هوية الجماعة وطرح الموقف العقائدي، بجانب تقديم المزيد من سردية التفوق الأخلاقي والأيديولوجي، وإعادة التأكيد على الصبر وابتلاء الموحدين.
كانت الرسالة المركزية لـ”رومية” في هذه الفترة أنه بغض النظر عن الخسائر، فإن الجهاد بالأساس هو معركة قيم ضد البدع والمفاهيم الغربية، وأن التنظيم لا يقاتل من أجل الأرض، بجانب التقليل من انتصارات العدو، واعتبار ما حدث نتيجة طبيعية للصراع الطويل، وبالنسبة للتنظيم، فلا يهم عدد الأعداء، ولا قيمة للانتصارات التي يحققونها، فسيظل جنود التنظيم يقاتلون رغم الأوقات الصعبة والتحديات الشديدة التي يمرون بها:
“إن الصحوات ستنتهي وستعود الدولة الإسلامية بإذن الله إلى جميع المناطق التي انسحبت منها.. وعندها ستدخل جحافل من جنودها إلى أرض تركيا، فيقيمون فيها ولاية جديدة تقام فيها شريعة الله، ويزيلون أصنام أتاتورك والديمقراطية والعلمانية والصوفية والإخوان المرتدين، وما ذلك على الله بعزيز”.
كما تم التأكيد على أن اللحظة التي يخسر التنظيم فيها الأراضي والموارد والأشخاص ويكون العدو في غاية القوة والتفاخر، هي لحظة عابرة وبداية انتصار المجاهد، ولا تشكل عائقًا أمام النصر القادم، وهذا بالتأكيد عكس خطاب فترة 2014، الذي ادعى أن التنظيم يتوسع ولا يعرف الهزيمة، ورفع شعار “باقية وتتمدد”، وصور النجاحات العسكرية كمظاهر للرضا الإلهي، لكن بعد ذلك بُررت الهزيمة على أنها إرادة واختبار من الله، وأصبحت الخلافة قضية أخلاقية أكثر من كونها أرض:
“إن الدولة لا تصبح إسلامية إلا بتطبيق أحكام الشرع فيها، وليس بعدد سبائك الذهب أو أكوام الدولارات الموجودة في خزائن بنكها المركزي، ولا بسبب حجم جيشها أو عدد الطائرات التي تحلق في سمائها”.
أما الجروح والآلام التي يعيشها التنظيم، فإن مكافأتها تأتي فقط في الآخرة، فالله هو الذي أحيا الخلافة، وهو الذي يختبرهم الآن ويقدر متى وأين يموتون، ويكفيهم شرف السير بمفردهم على الطريق الصحيح والاعتصام بحبل الله، لذا فالتوجه لله فقط والنظر للصعاب على أنها نعمة منه ووسيلة لتطهير الصفوف واختبار المؤمنين الصادقين، مع التركيز على أن الأكثر تقوى يتعرضون للاختبار الأشد قسوة. وغالبًا ما تم ربط الدم بالنصر من خلال فكرة أن دماء الشهداء تنقي الخلافة وتنير الطريق للآخرين.
لذا تم توبيخ المجاهدين الذين ضعفت همتهم بسبب سقوط أراضي الخلافة، على الأرجح كانت مواضيع التوبيخ ردًا على حالة الذعر والغضب التي انتشرت بين مقاتلي التنظيم بعد خسارة الموصل. وقد عولج هذا الأمر بسردية “الصبر والثبات”، طغت هاتان الصفتان بشكل متكرر داخل أعداد المجلة في فترتها الأخيرة، ظهرت المصطلحان لأكثر من 50 مرة، ما يدل على مرحلة الصعوبات التي بدأ التنظيم يواجهها في أعقاب الضغط العسكري المتزايد:
“المؤمن يرى الدنيا سجنًا، ولا يبحث عن الراحة إلا في طاعة الله، وفي معركة الموصل تحرر الكثير من إخواننا وأخواتنا من هذا السجن، ونالوا الشهادة في سبيل الله”.
واللافت أيضًا أن القسم النسائي في رومية سار على نفس نهج الرجال، ففي مقال “رحلتنا إلى الله” حثت الكاتبة نساء التنظيم على التوبة وإصلاح النفس، وترك تفاهات الدنيا من أجل الوصول إلى الجنة في الآخرة، فمثلًا تقول:
“أخواتي الحبيبات.. لقد حان الوقت لإصلاح أنفسنا ولنستيقظ من سبات الغفلة، حان الوقت لنراجع واجباتنا وأدوارنا، ونعطي الأولوية للآخرة.. لقد أكرمنا الله بأن اختارنا لنكون زوجات وأخوات وأمهات المجاهدين، فهل يليق بنا أن ننشغل بالحياة المادية كما انشغل بها كثير منا للأسف.. فلماذا بعد تطهير قلوبنا من الدنيا وقع بعضنا في مصائد الشيطان”.
لكن اللافت حقيقة أن “رومية” نسجت هزائم التنظيم على أرض الواقع بقصص من البطولة والشهادة والاختبارات من الله عبر ربطها بسياق الفترة الأولى لصدر الإسلام، وعقد أوجه التشابه بما يمر به التنظيم في الواقع مع نصوص القرآن والسنة، وخصوصًا الاستشهاد بقصص المعارك التاريخية التي خاضها القلة ضد الكثرة، تحديدًا معركة الأحزاب عام 627م، لكن كان ذلك بشكل انتقائي ومتحيز وفي تجاهل تام لسياق وظرف النصوص التي تم الاستشهاد بها.
من الجوانب المتكررة التي سعت “رومية” إلى إبرازها، استخدام عدسة الخيال الديني لبناء سردية متماسكة، إذ تم ربط معاناة الأنبياء بمعاناة التنظيم، فكما حدث مع الأنبياء نوح وموسى ومحمد، يحدث مع التنظيم الآن، من اللافت رسم تشبيهات وروابط ضمنية وصريحة بين معارك النبي محمد وأصحابه وبين تنظيم الدولة، والتشبيه بين ابتلاء النبي ابراهيم وابتلاء البغدادي زعيم التنظيم، والتشابه بين الشهداء الأوائل في الإسلام والروايات عن رجال مثل أبو عبد الله البريطاني.
وعلى نفس هذا المسار تم تأبين قادة التنظيم المقتولين، والتذكير بأن موتهم دليل على سيرهم على نفس مسار الأنبياء ووقوف الله إلى صفهم. وبالتالي فالنكسة التي يعيشها التنظيم، يجب أن تُفهم على أنها ابتلاء من الله كما فعل بأنبيائه وبعباده في مكة قبل الهجرة، وليست من التنظيم نفسه:
“لا نهاية لهذه المعركة بيننا وبين المشركين إلا أن يدمر أحدنا الآخر، إما أن نفنيهم بحول الله وقوته، فيخسروا الدنيا والآخرة، أو نموت ونحن نحاول، فنلقى الله ثابتين على دينه، مجاهدين أعداءه، ناجحين كأصحاب النبي محمد”.
وهنا لا بد من الانتباه إلى أن تنظيم الدولة يثبت شرعيته من خلال الاعتماد الطاغي على عدسة التاريخ، فهو يبني مستقبل مع إحياء صورة معينة عن الماضي، ويوظف صراعات الماضي وقصص عمرها قرون، لكن بطرق جديدة ومن خلال إعادة إنتاجها في مفاهيم وسياقات جديدة، مع ذلك فلا يبدو أن استقطاع النصوص من سياقها تم بشكل متعمد.
ومن الملاحظ، أن تنظيم الدولة لا يؤدلج النص وينتزعه من سياقاته الفقهية والتاريخية فحسب، بل يبني عالمًا طوباويًا مثاليًا ترتبط فيه الصور الدينية للأنبياء بالواقع المادي، وبالتالي تتشابك الروايات بين عالم الأنبياء وعالم التنظيم، في تجاهل تام للسياق الثقافي والتاريخي والسياسي، أو التفريق بين المادي وغير المادي، وتتلخص هذه السردية في المقتطف التالي من العدد الثامن:
“اعلموا يا أهل الإسلام أن الابتلاء تاريخ وقصة طويلة منذ أن نزلت لا إله إلا الله على هذه الأرض، فابتلي الأنبياء والصادقون والأئمة الموحدون، فأين أنت والطريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل، واضطجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونُشِر بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد هذا هو سبيل الموحدين في كل زمان ومكان”.
وفي الواقع ما يميز هذه الموضوعات، هو تشابك التخيلات والروايات العاطفية مع حبكة السرد التاريخي والحجج الفقهية والأحداث الواقعية الجارية، والجمع بين الواقع والعقيدة في شكل نهائي يحث الأتباع على الصفاء والراحة بعد الموت والتأكد من النصر الحتمي الذي سيشهده غيرهم. وقد تكون حبكات هذه القصص وفرت بعض الراحة الداخلية لأفراد التنظيم المحاصرين، وطمأنة أولئك الذين قد بدأوا في الشك بسردية التنظيم.
وحقيقة، برع التنظيم في رسم سردية “الراحة بعد الموت”، ولجعلها معززة أكثر، تم التركيز بشكل لافت على صور الأطفال “أشبال الخلافة”، ففي معظم هذه الصور، يكون لدى الأطفال تعبيرات وجه إيجابية، وتواصل جسدي وعاطفي مع المقاتلين، كإشارة إلى جيل جديد سيخوض القتال في المستقبل.
على سبيل المثال في العدد التاسع من العمود المنتظم بالمجلة “من المؤمنين رجال”، تم تخصيص 7 صفحات عن حياة وفكر أبو سليمان الشامي وهو مواطن أمريكي خريج جامعة ماساتشوستس، كان شخصية رئيسية في الجهاز الإعلامي للتنظيم، تظهر صورة أبو سليمان كغلاف العدد مع ابنه الرضيع الذي يرتدي عصابة التنظيم كإشارة ضمنًا إلى استمرارية الصراع واليقين من النصر المستقبلي.
استدعاء السلطة.. بين حلفاء الرحمن وأولياء الشيطان
في الواقع، كان تنظيم الدولة قادرًا بشكل مذهل على إعادة إنتاج وتجديد سرديته الخاصة طبقًا لطبيعة الموقف الذي يمر به، ولكي تبدو حجج التنظيم مقنعة في كل الأحوال، فقد سعى بشكل طاغي إلى استدعاء مثلث “سلطة الله، الرسول، أقوال السلف”.
كل رأي أو أمر اعتمد بشكل أساسي على فهم التنظيم للحجج المستمدة من السلطات الـ3، وعادة ما كانت المصادر عن الأجيال الـ3 الأولى من المسلمين (السلف الصالح) محورية في خطاب رومية. ومن المهم الإشارة إلى أن الفقه ليس مجموعة من القوانين المقننة وإن سعى التنظيم لتحويل الشريعة إلى قانون.
استدعاء مثلث السلطة العليا وتقديم كل الأفكار من خلالها يؤدي إلى نتيجة إيجابية، إذ لا يجعل الأتباع يمتثلون فقط للأوامر بكل إخلاص، خاصة الذين ليس لديهم خلفية دينية تفسيرية، بل يؤكد أيضًا على تفوق التنظيم الأخلاقي والديني على الآخرين، ويضفي شرعية حتى على بعض الأفكار التي قد تبدو مستهجنة ويصعب استيعابها.
وبما أن جنود التنظيم قد “أسلموا أنفسهم لأوامر الله” فإن الآخرين استسلموا للبشر، وبالتالي ما يحدث هنا ليس فقط خلق شعور قوى بالأصالة وهوية فوقية، وإنما النظر إلى كل من يقف ضد التنظيم على أنه يقف ضد المصدر الإلهي، فالاعتراف بخلافة التنظيم يقع في جوهر طاعة السلطة العليا، وبالتالي ليس من المستغرب أن تكون أكثر الكلمات التي استخدمت بكثرة في “رومية” كلمات الأمر والنهي الإلهي: “حكم الله – حلال – حرام – طاعة لله ولأمر الرسول”.
“إن معسكرات الفصائل التي تقاتلها الدولة الإسلامية هي أحزاب تقاوم بشدة تطبيق شرع الله.. يقاتلون معًا في خندق واحد ضد دولة لا يشك أحد في حكمها بالشرع، ويحرضون على قتالها بكل الوسائل، ويسعون إلى إزاحة سلطانها من الأرض، لتحل شريعتهم محل شريعة الله”.
وفي الواقع، فإن التمثيلات المفاهيمية والخطابية المتضادة في “رومية” لا تعكس فقط المشاعر تجاه الآخر، بل ترسم بوضوح علاقة التنظيم بالآخر، وتخلق معنى عميقًا للصراع، إذ تشير إلى عالم ثنائي أبيض وأسود على وشك الانفجار، ويُفرض على المرء الاختيار بينها، إما مع وإما ضد.
العالم الأول يشمل التنظيم، ويعبر عنه بمتكئات لغویة بارعة: (جماعة المسلمين، المؤمنين، الموحدين، المجاهدين، الشهداء، الصالحين، الصابرين، أسود الأمة، النفوس الصالحة) في مقابل الآخر: (أعداء الله، الكفار، المشركين، المرتدين، الطواغيت، أهل الباطل، علماء السوء، الرافضة، يهود الجهاد، أنجاس، صحوات، صليبين).
واللافت هنا أن التنظيم يُظهر نفسه ليس فقط باعتباره صاحب سلطة الخطاب باسم السلطة العليا على أعضائه، وإنما يتمتع أيضًا بسلطة كافية للسيطرة على السرد والحكم والتحدث نيابة عن جميع المسلمين في أنحاء العالم، لذا أطلق الأسماء والعموميات اللامعة، واعتبر نفسه الممثل الشرعي المختار للأمة.
أحد أهم الموضوعات المثيرة في “رومية”، التي سنأخذها كدراسة لما سبق، موضوعان: الأول موجود في العدد الأول، مكون من 19 فقرة حمل عنوان “أحُل لكم دم الكافر فاسفكوه” والثاني موجود في العدد الخامس حمل عنوان “المذبحة الجانبية”. هذان الموضوعان مكملان لبعضهما، الأطروحة الرئيسية تهدف من زاوية إلى إقناع المسلمين في الغرب بعدم الشك والارتياب في قتل غير المسلمين المدنيين، وأن قتلتهم عبادة وأمر عادل، ومن زاوية أخرى تحدد النظرة إلى المخالف ومن له حق العيش في هذه الحياة.
يلاحظ من عنوان المقالة أن الأمر بقتل غير المسلم مبني على أمر مباشر من الله، لكن كي يبدو الموضوع عادلًا وغير جنوني، تم اقتباس أقوال بعض الصحابة وإيراد آيات وأحاديث وتفسيرات لبعض الفقهاء المشهورين كابن حزم والشافعي، لخلق شعور بالمصداقية وجعل الحجة المقدمة باعتبارها مأخوذة مباشرة من مصادر موقرة ولها أساس ديني تاريخي.
ففي البدء تقر “رومية” على أن المجاهد يجب أن يتصرف ضمن الحدود المشروعة التي سمح الله بها، ثم تقسم البشر إلى فريقين: الأول هم المسلمون المؤمنون ذوو الفضائل، وهؤلاء لهم صفات خاصة غالبًا لا تنطبق إلا على إخوة السلاح في التنظيم ومحبيه.
أما الثانية، فعلى الترتيب بعد الكفار، يأتى حلفاء وعبيد القوى الصليبية، ثم الحركات السياسية والصوفية والإسلامية والجماعات الجهادية المنافسة وعلماء الشر، وصولًا إلى “المسلمين الساقطين”. وما يلفت الانتباه هنا، إطلاق مصطلح “الطاغية” بشكل عام، فبحسب رومية فالطاغية هو كل من ليس بمسلم.
ثم يقدم موضوع “أحُل لكم دم الكافر فاسفكوه” رأي أبي حنيفة وبعض فقهاء الحنفية بأن قتل المسلم للكافر غير الذمي لا عواقب له، أي لا يترتب عليه قصاص أو دفع الدية. وينقل الموضوع اقتباس آخر من بداية المجتهد لابن رشد وتفسير القرطبي.
كذلك يعرض الموضوع وجهة نظر ابن حزم الذي أباح قتل المشركين داخل وخارج ساحة المعركة باستثناء النساء والأطفال، وأيضًا تم اقتباس نص ابن قدامة في “المغني” على أن الكفار الذين لا يأوون في أرض الإسلام تحل دماؤهم كالخنازير. الاستشهاد بأقوال هؤلاء العلماء يعطي إشارة قوية إلى أن التنظيم يستند إلى مجموعة كبيرة من الكتابات السابقة، وقد فسرت كل هذه الأقوال لتبرير القتل ضد غير المسلمين من المدنيين في واقع اليوم.
لكن مع ذكر “رومية” للقيود الشرعية على قتل النساء والأطفال، إلا أنها رأت أن هذه القيود لا يقصد منها عدم جواز القتل، فالتقيد هو عدم جواز سفك دماء النساء والأطفال عمدًا، أما اليوم، فإن هذا القيد بحسب رومية من الصعب تطبيقه.
ويستشهد الموضوع على ذلك بأن النبي محمد استخدم المنجنيق عند غزوة الطائف وتقبل الضرر الحتمي لغير المقاتلين من النساء والأطفال، كما تقدم رومية شكلًا جديدًا من تبرير القتل، فتشير إلى أن النبي محمد لم يحزن أو يندم على قتل غير المسلمين، مما يعني أن على المسلمين اليوم ألا يحزنوا أيضًا، لكن كالعادة لم تحدد “رومية” السياق، وبهذه البساطة ذهبت إلى أن استخدام التكتيكات القديمة كالمنجنيق في المعارك يعادل اليوم القتل الجانبي للنساء والأطفال باستخدام تكتيكات “الإرهاب العادل”.
“أما بالنسبة للنساء والأطفال الكفار الذين لا يقاتلون أو يشاركون في الأعمال العدائية، فالأصل عدم قتلهم عمدًا.. ونرى – والله أعلم – أن القيد موجود كي يكونوا عبيدًا، إذ هو أنفع من قتلهم، كما أنه لا يضر العدو.. لكن عندما لا يكونون معزولين بشكل واضح عن الكفار أو لا يمكن تمييزهم عنهم بسهولة، ففي هذه الحالة قتلهم الجانبي هو جزء مبرر من الجهاد ضد الكفار”.
مع ذلك، فإن رومية لم تعتمد فقط على فهمهم للقرآن والسنة وتفسيرات الفقهاء، إنما اعتمدت بشكل كبير على العواطف، على سبيل المثال، عبر تفسير مفاده أن الأفراد غير المسلحين الذين لم يشاركوا في الحرب، كالمدنيين والأساقفة، يجب أن يتعرضوا للقتل، اعتمد الموضوع هنا على خلق مبرراته الخاصة اعتمادًا على أمرين: الأول، أن اللوم المباشر يقع على المدنيين لأنهم يشاركون في الحرب من خلال دفع أموال الضرائب والتصويت لقادتهم في الانتخابات.
والثاني أن دماء المسلمين في كل مكان في العالم رخيصة، وبالتالي فهذا يبرر استحقاق الآخرين للقتل، وهنا يبدو الخيار الثاني كأنه طريق نحو العدالة، وقائم على التضامن تجاه المسلمين الآخرين: “كيف يمكن للكفار أن يحلموا بالأمن والأمان بينما يعاني المسلمون في كل مكان بالعالم؟”
ومن خلال هذا التصور، حاول تنظيم الدولة خلق حجج ضد أعدائه وبناء مجتمع يتقاسم قيمًا وأهدافًا متقاربة.