تفرض أصداء الميناء البحري الذي أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن في 7 مارس/آذار 2024 عن تدشينه على ساحل غزة لإيصال المساعدات لسكان القطاع، أجواءها على المشهد الفلسطيني الإسرائيلي المصري، تزامنًا مع الخطوات العملية التي بدأت واشنطن اتخاذها بالفعل لتنفيذ هذا المشروع.
بعد يومين فقط من تصريحات بايدن غادرت سفينة عسكرية أمريكية المياه الأمريكية باتجاه ميناء غزة المزعوم محملة بالمعدات والمواد اللازمة لبناء رصيف لتفريغ شحنات المساعدات، وهو المشروع المحتمل أن يستغرق ما بين 30 – 60 يومًا حسب التصريحات الأمريكية.
كانت التجربة الأولى لاختبار هذا المشروع حين أبحرت أول سفينة محملة بالمساعدات من ميناء لارنكا في قبرص باتجاه قطاع غزة في 12 مارس/آذار الجاري، وتحمل على متنها مئتي طن من المساعدات، وسط شكوك ومخاوف من الأهداف الحقيقية وراء هذا المشروع المرحب به إسرائيليًا، ويتناغم مع ما طرحه وزير خارجية الكيان المحتل، يسرائيل كاتس، خلال اجتماع وزراء خارجية الدول الأوروبية في بروكسل، يناير/كانون الثاني الماضي، حين عرض إقامة مع مشروع “جزيرة اصطناعية” بمساحة 8 كيلومترات مربعة قبالة شواطئ غزة لتحقيق عدة أهداف من بينها نقل نحو نصف مليون فلسطيني من القطاع.
بعيدًا عن المخاوف الفلسطينية وراء هذا المشروع الخبيث الذي يستهدف تصفية القضية الفلسطينية عبر تفريغ قطاع غزة والقضاء على المقاومة من خلال تجفيف منابع الدعم من كل الاتجاهات، إلا أنه يتضمن تداعيات كارثية على الجانب المصري حيث احتمالية أن تتعرض القاهرة – إذا تم تنفيذ المشروع فعليًا – لواحدة من أقوى الضربات التي من الممكن أن تفقدها دورها الريادي العربي وتزيد تقزيم حضورها الإقليمي وتجردها من أوراق نفوذها إزاء القضية الفلسطينية ومحاور ملف الصراع العربي الإسرائيلي الذي كانت تتبوأ فيه مصر مرتبة الريادة.
نائب بريطاني: #نتنياهو يريد استغلال ميناء غزة لترحيل الفلسطينيين#حرب_غزة pic.twitter.com/5OWpLiLjfy
— قناة الجزيرة (@AJArabic) March 23, 2024
بداية.. من أين تستمد مصر نفوذها إزاء الملف الفلسطيني؟
تستمد القاهرة تاريخيًا نفوذها بشأن الملف الفلسطيني تحديدًا، والصراع العربي الإسرائيلي بصفة عامة، من خلال 3 محاور رئيسية:
الأول: المحور الجغرافي، وهو المحور الأهم، حيث الاشتراك الحدودي مع قطاع غزة، معقل المقاومة الفلسطينية، والشوكة الأبرز في ظهر الاحتلال، بعد خضوع بقية المناطق الفلسطينية بين كماشة السيطرة والاستئناس، وهو الاشتراك الذي يمنح القاهرة ميزة غير ممنوحة لغيرها من دول المنطقة ذات الثقل والنفوذ.
كذلك تعد مصر – عبر معبر رفح – النافذة الوحيدة لسكان القطاع على العالم الخارجي بعد السيطرة الكاملة للاحتلال على المعابر الخمس الأخرى، والرئة الأساسية التي يتنفس من خلالها أكثر من مليوني فلسطيني داخل غزة بما فيهم عناصر المقاومة وممثلي الوكالات الدولية والأطقم الصحفية الأجنبية والعربية الموجودة بالقطاع.
الثاني: المحور السياسي، إذ تعد مصر الدولة العربية الوحيدة التي أبرمت اتفاق تطبيع مع الاحتلال، وتتمتع بعلاقات في أغلبها مقبولة مع حكومات الكيان المختلفة، كما أنها الدولة الوحيدة التي ظلت لسنوات محافظة على قنوات التواصل مع المحتل، ويعتمد عليها الإسرائيليون في توسيع حضورهم العربي واتساع رقعة انخراطهم في الجسد الإقليمي.
وساعدت تلك العلاقة – بالتوازي – على تعزيز العلاقات مع واشنطن، والتناغم مع مختلف الإدارات الأمريكية المتعاقبة، حتى تلك التي تنتاب علاقاتها مع النظام الحاكم في القاهرة بعض التوترات بين الحين والآخر، إيمانًا من أن تل أبيب هي الترمومتر الأكثر دقة لقياس علاقات الدول العربية بالولايات المتحدة، وهو ما تعيه القاهرة وتل أبيب وواشنطن على حد سواء.
وسمح القرب الجغرافي هذا وما يفرضه من تداعيات تتحكم في الحركة والاقتصاد والتنقل من وإلى القطاع، في أن يكون للقاهرة علاقات جيدة مع الفصائل الفلسطينية المختلفة، حتى تلك التي تعاني علاقاتها مع الجانب المصري من توتر، وتلك ميزة إضافية عززت على مدار سنوات من دور مصر كلاعب مؤثر في المشهد ووسيط قادر على التواصل مع الأطراف كافة.
الثالث: المحور التاريخي واللوجستي، فمصر هي أكبر بلدان المنطقة العربية من حيث تعداد السكان، وثاني أكبر اقتصاديات المنطقة، كما أن لها ثقل إقليمي محوري – وإن تراجع مؤخرًا – بحكم جغرافيتها وحضارتها الضاربة في أعماق التاريخ، فضلًا عن علاقاتها التاريخية بملف الصراع العربي الإسرائيلي والحروب التي خاضتها مع الاحتلال والعلاقات التشابكية التي تجمع بين الطرفين.
الميناء العائم في غزة إلى جانب كونه نقطة مراقبة لتهريب السلاح إلى غزة سيكون أيضا نقطة عبور التهجير القسري والطوعي للغزاويين إلى قبرص خاصة بعد عجز اسرائيل وامريكا والغرب والمنافقين العرب والمسلمين في تهجيرالغزاويون بالقوة والجوع وبكل الأساليب الهمجية.
— ياسين الحمادي (@ysynlmdy360148) March 12, 2024
تقزيم الدور المصري
ماذا يعني تدشين ميناء بحري على شواطئ غزة لإدخال المساعدات مع الوضع في الاعتبار الإبقاء على تجميد عمل معبر رفح؟ هذا يعني أن المعبر رويدًا رويدًا سيخرج بعيدًا عن المعادلة، أو على الأقل يقتصر دوره على البعد الإداري فقط لإدخال وإخراج الفلسطينيين، وذلك لوقت محدد، ويتم الاستعاضة عنه بالميناء.
ويعني كذلك أن نفوذ مصر المستمد في جزئية منه من التواصل مع الفصائل الفلسطينية والسلطة التي تحكم القطاع ربما يتراجع كذلك، بحكم أن المعبر كان حلقة الوصل بين الطرفين، وفي حال الانتقال إلى الميناء الذي قد يتوقع أن يتمدد عمله ليصبح نافذة بديلة لخروج الفلسطينيين ودخولهم من وإلى غزة، فإن دور المعبر سيكون أشبه بالكلاسيكي غير المعتمد عليه.
هذا بخلاف احتمالية أن تتعرض محورية مصر كقبلة للقوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الأزمة لهزة عنيفة، ففي الحرب الحالية تحولت سيناء والعريش إلى وجهة الدول الراغبة في تقديم مساعدات للقطاع، لكن مع دخول الميناء الجديد حيز العمل فإن القبلة ستتحول من الأراضي المصري إلى ميناء لارنكا في قبرص ومنه إلى شواطئ غزة تحت حماية الأمريكان والإسرائيليين معًا، فيما تخرج القاهرة خارج المعادلة، فاقدة المحور الأهم لنفوذها إزاء الملف الفلسطيني.
في انتظار حدث كبير من مصر لكسر الحصار و غمر مساعدات لعموم غزه وبالأخص شمال غزه
ليس كبيرا علي مصر
ليس كبيرا علي من اقتحم ودمر خط بارليف
ليس كبيرا علي من عبر قناة السويس في عز النهار
ليس كبيرا علي من أعاد اسري الكيان الحقير العنصري بالبچامات الكستور
مصر اولي بأصلح ميناء غزه الحالي
— Mamdouh Hamza (@Mamdouh_Hamza) March 18, 2024
تهديد الأمن القومي المصري
يمهد مشروع الميناء المزعوم لتنفيذ الأجندة الإسرائيلية في القطاع والتي تتمحور في تفريغه من سكانه والقضاء على المقاومة وإحكام سيطرتها الكاملة عليه، حيث إن الميناء بشكله المزعوم يقضي تدريجيًا على عمل وكالة الأونروا داخل القطاع ويعيق عمل معبر رفح كما ذُكر سابقًا، وبالتالي يتحكم الكيان وحليفه الأمريكي في جسور المساعدات المقدمة للغزيين، بما يضمن لهم عدم وصول أي مساعدات للمقاومة وهذا هو الهدف الأول.
أما الهدف الثاني فيتعلق بتجريد المقاومة من ظهيرها الشعبي، أحد أبرز مصادر القوة لها، من خلال تهجير سكان القطاع، فالسفن القادمة من لارنكا والمحملة بالمساعدات لا يتوقع أن تعود فارغة، حيث أبدى الكثيرون مخاوفهم من أن تعود محملة بمئات الفلسطينيين الراغبين في المغادرة هربًا بحياتهم المهددة قصفًا وجوعًا، ومن قبرص إلى اليونان وإيطاليا والبلدان الأخرى التي قد توفر – بالتنسيق مع تل أبيب وواشنطن – فرص إقامة مغرية للمهاجرين.
الميناء كذلك سيمنح الولايات المتحدة موطئ قدم لها في القطاع، ويحولها إلى خنجر في ظهر أي قوى إقليمية تهدد مصالحها أو حليفها الإسرائيلي، اليوم أو مستقبلًا، خاصة إذا ما تطور الأمر إلى ما يشبه قاعدة عسكرية على شواطئ غزة تحمي مصالح الأمريكان في الشرق الأوسط، لتُضاف إلى بقية القواعد الأمريكية في الخليج والبحر الأحمر.
أمريكا تتستر بالإنسانية فمع الصهاينه تمدهم بالسلاح ومع أهل غزه تلقى عليهم الطرود الغذائيه وها هي تتستر بالانسانية في الميناء العائم على بحر غزة لتحتل غزة ونفطها وتمكن لليهود بما لم تستطع بالحرب فعله.. أي وقاحة هذه إن أمريكا هي الدجال بعينه.. الا لعنة الله على أمريكا ومن حالفها
— عبد الحي سليم عبد الحي الدويك (@1sqfVqSsefmR68c) March 11, 2024
وشكل القطاع على مدار سنوات طويلة عمقًا أمنيًا للدولة المصرية، وظلت المقاومة ظهيرًا قويًا للأمن القومي المصري حيث حالت بين الجانب المصري والإسرائيلي، ووسعت من مسار احتمال الصدام والاشتباك بين الطرفين.
غير أن الوضع بالتطورات المحتملة بعد تدشين الميناء، وسيطرة الاحتلال على قطاع غزة وتفريغه من سكانه، سيكون مغايرًا تمامًا، فمن المتوقع أن يتلاشى البعد الأمني الذي كانت تشكله المقاومة والقطاع معًا، ليجد المصريون أنفسهم في مواجهة الإسرائيليين دون أي حواجز أو خطوط فاصلة كالتي عليه الآن.
وعليه، وسواء كان الميناء مؤقتًا كما تزعم أمريكا أم دائمًا كما يتخوف البعض، فالأمر يتطلب تحركًا مصريًا عاجلًا للحفاظ على محاور نفوذها إزاء القضية الفلسطينية وعدم التفريط في أي منها مهما كانت الضغوط، وأن تبذل القاهرة كل مساعيها لإبقاء معبر رفح على قيد الحياة بكامل قوته ونشاطه، وأن تتصدى لمشروع الميناء المزعوم وعدم الانخداع بشعارات الدعم الإنساني وتقديم المساعدات، فمن أراد إدخال المساعدات فأمامه المعبر، الأقصر وقتًا والأكثر جدوى وتأثيرًا والأرخص كلفة.
وفي الأخير وبعد التعثر المصري إزاء عدد من الملفات الحيوية خلال السنوات الأخيرة، لم يتبق أمام الدولة العريقة حضاريًا سوى الملف الفلسطيني للحفاظ على نفوذها وحضورها الإقليمي الذي لو فقدته ستتغير معادلة التوازن في المنطقة، وتتسلق كيانات أخرى لا تساوي في حساب الزمن لحظات على حساب دولة بحجم مصر.