تخيل إعلانين لمشروبٍ غازي، يبدأ الإعلان الأول مع مشهدٍ مأخوذ عن قرب للمشروب الفاخر الذي تتدفق غازاته خارج كوبٍ الزجاج الشفاف الطويل، وصوت رجلٍ يجيء عن بُعد: “ما تبحث عنه من طعمٍ غني، فقط بنصف السعرات الحرارية”.
أما الإعلان الثاني فكما الآتي: رجال بمظهرٍ أنيق، يرتدون ثيابًا فاخرة، حولهم اثنتان من النساء الجميلات، يظهرن أجسامهن بطريقة لافتة، أحد الرجال يحمل كوب المشروب الغازي وهو يناظر إحدى الفتاتين، ويقول واصفًا ما يشربه “طعم السعادة”.
يمكنك تخمين ما أرمي إليه، اعتمد الإعلان الأول على الحقائق أو المنطق، فيما اعتمد الثاني على التأثير العاطفي، وهذا هو التصنيف الذي تنقسم إليه عشرات الإعلانات التي تمر عليك يوميًا أينما أدرتَ عينيك، إما عاطفية أو عقلانية، وبكلماتٍ أخرى، فهي تستهدف الطموح والإقناع والعاطفة.
عام 1895 وفي واحدة من المجلات الإعلانية الرائدة في أمريكا، ركزت إحدى الافتتاحيات على أن على كاتب الإعلانات دراسة علم النفس، لأن هدفه الأساسي التأثير على العقل والطبيعة البشرية، فما إذن الدور الذي يلعبه علم النفس في مجال الإعلانات؟
العقلانية مقابل العاطفة
الحديث في عقلانية الإعلانات مقابل عاطفتها طويل جدًا وربما يكون غير حاسم، فمن جهة هناك بعض الدراسات التي تشير إلى أننا نهتم بشكل أكبر بالإعلانات المنطقية للأشياء التي نحتاجها أو نفتقر إليها، مثل الأدوية، وأننا أكثر تقبلًا للإعلانات العاطفية عن الأشياء التي نريدها ونرغب بالحصول عليها، مثل الملابس.
وعلى صعيد آخر، فثمة دراسات أشارت إلى أن المستهلكين صغار السن يفضلون الإعلانات العاطفية للمنتجات المرتبطة بالمُتعة مثل الملابس والطعام والمشروبات، والإعلانات العقلانية للمنتجات النفعية مثل الأدوية ومسكنات الألم، أما المستهلكون كبار السن فيفضلون الإعلانات العاطفية والمؤثرة للمنتجات كافة.
ومما لا شك فيه، تميل الإعلانات التي قد تسعى للتأثير على سلوك الفرد دون تقييم عقلاني إلى تنشيط الدماغ بشكل مختلف عن الإعلانات التي تستدعي اتخاذ القرارات العقلانية والتفكير المنطقي، خاصة في وقتٍ أصبح فيه الأفراد يميلون للإتيان بسلوكات غير عقلانية بشكلٍ يومي أو شبه يومي.
في كتابه “الإعلان اللاوعي: كيف يؤثر علم الأعصاب في التسويق”، أشار دوغلاس برايت إلى أن الأفراد لا يفكرون للوصول إلى حلول وقرارات منطقية، وإنما يفضلون الشعور على العقل، فالعواطف عندهم هي الركيزة ولا تشكل أي عائق في طريق قراراتهم.
جميع الإعلانات تستخدم صورًا أو أشخاص ذوي مظهرٍ حسن، وشكلٍ جميل، من باب جعل المستهلك يصدق أنه إذا امتلك المنتج المُعلَن عنه، فهو أيضًا سيصبح مثلهم
الإعلانات العاطفية ليست مجرد صور وشعارات تحاول تعليم وإقناع المشاهدين بشأن المُنتج، فهي تتلاعب بشكلٍ كبير بمشاعر المستهلكين وتحفز مشغلاتهم العاطفية التي تؤثر على كيفية اتخاذ قراراتهم المتنوعة، فقد يتم تصميم الإعلان العاطفي للتحريض على الغضب أو الحزن أو الفرح أو الشعور بالفخر أو العار، وغيرها الكثير من العواطف المختلفة.
يمكن للعاملين في مجال الإعلانات التأثير على المستهلكين من خلال محاولة إيصالهم لحالات عاطفية إيجابية، أو من خلال محاولة الاستفادة من حالات عاطفية سلبية، قد يُظهِر الإعلان صورًا للأسر السعيدة، والابتسامات الكبيرة والأشخاص المحبوبين أو الأشخاص الذي يلهون وسط حالةٍ من التعزيز والمشاركة الاجتماعية والتي قد تثير كل المشاعر الإيجابية، وبنفس الطريقة، يمكن أيضًا اللعب على المشاعر السلبية، في محاولة جذب انتباه المستهلك بناءً على مشاعر عدة مثل الخوف أو التهديد أو الشعور بعدم الأمان والاستقرار.
وليس ما نقصده بمشاعر التهديد هي اللجوء لاستخدام إعلانٍ مخيفٍ أو إرهابي، وإنما يكفي أنْ يكون الإعلان يحمل رسائل تهديدٍ بالاستبعاد الاجتماعي أو بعدم القبول من المجموعة، أو الخوف من نيل الأحكام السلبية مثل “غير لطيف” أو “غير جميل” أو “غير متحضر” على سبيل المثال.
خذ على سبيل المثال، أحد إعلانات كوكاكولا والذي حمل علامة “تذوق الشعور taste the feeling“، ولاحظ تركيزها على الوجوه السعيدة والضاحكة والمملوءة حيويةً ونشاطًا ومتعةً والمِشاركة لغيرها في تلك اللحظات، إذًا فالشركة تريد أن توصل رسالةً مفادها أن مشروبها كفيلٌ بخلق كل تلك الأجواء واللحظات، كل ما عليك القيام به هو شرب كوكاكولا.
استخدام الوجوه الجميلة: الرغبة في السعادة المثالية
تميل الإعلانات لاستخدام وجوهٍ لا تستطيع وصفها إلا بالجميلة أو السعيدة، نظرًا لأن المستهلكين يرغبون بأنْ يكونوا مثلهم أو يروا أنفسهم وكأنهم يشبهونهم، الأمر النابع من فكرة تسويق “الكمال” و”السعادة المثالية”.
فجميع الإعلانات تستخدم صورًا أو أشخاص ذوي مظهرٍ حسن، وشكلٍ جميل، من باب جعل المستهلك يصدق أنه إذا امتلك المنتج المُعلَن عنه، فهو أيضًا سيصبح مثلهم.
خذ على سبيل المثال إعلانات معجون الأسنان، لن ترى سوى أسنان تامة البياض مستقيمة مع ابتسامة مثالية، وكمستهلك، عندما تذهب إلى المحل وترى اثنين من معاجين الأسنان جنبًا إلى جنب، ربما تحتوي على نفس المكونات بالضبط أو باختلافٍ بسيطٍ لا يكاد يبين، فإنك ستختار المعجون الذي شاهدته بالإعلان، أو المعجون الذي أعلن له ممثلك المفضل أو شخصيتك المشهورة المفضلة، ظنًا منك أنها ستعطيك النتيجة الأفضل.
السلوك الموجه: كيف تتحكم الإعلانات بسلوكياتنا؟
في علم النفس، يُستخدم مصطلح “Rule governed behaviour” لوصف القدرة البشرية على تعلم شيء جديد، أو الانخراط في سلوك ما دون وجود خبرة سابقة أو معرفة به، على سبيل المثال، إذا أخبرك صديقك عن أحد المنتجات التجميلة واصفًا إياه بالرائع ويجب عليك تجربته، فأنتَ إذا قمتَ فعلًا بشرائه وتجربته تكون بذلك قد خضعت للسلوك الناتج عن حُكمٍ ما.
لا يحتاج الأمر أنْ تضع أشخاصًا بهيئة أطباء أو علماء وحسب، فاستخدام شخصية بالغة ذات سلطة في إعلانٍ موجهٍ للأطفال أو للمراهقين قد يكون مصداقية ضعيفةً للإعلان بعكس مما لو تم استخدام شخصيات من الأطفال والمراهقين أنفسهم
تُعد هذه الاستراتيجية إحدى الاستراتيجيات السلوكية الأكثر شيوعًا بين العاملين في مجال الإعلانات لجذب سلوك المستهلكين أو محاولة التأثير به.
خذ أيضًا على سبيل المثال إعلانًا عن مسكن جديدٍ للآلام، يقوم به رجل عجوز غير حسن المنظر يخبرك أن الدواء أفاده كثيرًا وأنك يجب تجربته، هل ستقوم بشرائه؟ المعظم قد لا يفعل ذلك، لأن دماغنا تلقائيًا سيبدأ بالتفكير بأن الإعلان غير منطقي وغير موثوق البتة.
لكن ماذا لو كان طبيبٌ ما، بزيه الأبيض، هو من يقوم بالإعلان، وأضف على ذلك أنْ يكون طبيبًا مشهورًا، هل ستثق بالمنتج أكثر؟ أكاد أجزم بنعم، معظمنا سيشتري الدواء ويجربه، لأن عقولنا مبرمجة على أن الأطباء أكثر ذكاءً وأجدر بالثقة من أي رجلٍ عادي.
إذًا يُمكن للعاملين في مجال الإعلانات، استخدام أفراد يشبهون الأطباء أو الصيادلة أو العلماء وغيرهم من الأمثلة، ليجعلوا إعلانهم يبدو أكثر مصداقيةً وموثوقيةً لدفع المتابعين لاتباع القاعدة المُعلن عنها، وبالتالي التحكم بسلوكهم تجاه شرائها.
وبطبيعة الحال، لا يحتاج الأمر أنْ تضع أشخاصًا بهيئة أطباء أو علماء وحسب، فاستخدام شخصية بالغة ذات سلطة في إعلانٍ موجهٍ للأطفال أو للمراهقين قد يكون مصداقية ضعيفةً للإعلان بعكس مما لو تم استخدام شخصيات من الأطفال والمراهقين أنفسهم، فهم يشبهون الجمهور بالنهاية، وبالتالي سيكونون أكثر مصداقية وموثوقية.
استخدام الوجوه المألوفة: شعور الألفة والمعرفة
يستجيب الأفراد بشكلٍ أفضل حين يتم ربطهم مع شخصٍ يعرفونه أو وجهٍ يألفونه، لذلك فإن الإعلانات التي تستهدف فئة اجتماعية معينة غالبًا ما تستخدم الشخصيات الفاعلة و”المؤثرة” وتجعلها تبدو وكأنها تتحدث بطريقة تستهدف تلك المجموعة.
إذًا فالألفة هي ما يدفع الجهات المُعلنة دفع أموالٍ طائلة لمشاهير هوليود على سبيل المثال لإنتاج إعلانٍ لا يتجاوز النصف دقيقة، فرؤية وجه الممثل تعطي المتابع أو المشاهد شعورًا بالألفة.
يرتبط الأمر أيضًا بالرغبة بالتقليد والتشبه، فالعقل اللاواعي يعمل على جعل الفرد يفكر بأن ذلك الوجه يمتلك ما لا نمتلكه نحن، لذلك فهو سعيد أو مشهور أو جميل وما إلى ذلك.
التوقيت والمكان
لا تكون الإعلانات فعالة بنفس المستوى طوال الوقت بالنسبة للشخص الواحد، فرؤيتك لإعلان لإحدى الوجبات السريعة وأنتَ شبعان لا يجعلك تفكر في شرائها أو بالأحرى لا يحفز لديك الرغبة في أكلها، لكن تخيل لو شاهدت الإعلان في نهاية يوم عملٍ شاقٍ ومتعب لم تستطع تناول أي شيء فيه، بالتأكيد سيصير عقلك يفكر فيما لو حصلت على وجبةٍ مثل التي في الإعلان، وربما لهذا السبب قد تجد الكثير من هذه الإعلانات في الأماكن التي تضج بمكاتب العمل.
الأمر نفسه ينطبق على كل شيء تقريبًا، فقد يتم وضع لوحةِ إعلاناتٍ لمتجرٍ ما قبل وصولك له بعشر دقائق، ما يعني أن لديك تمامًا عشر دقائق لتفكر فيما إذا كنتَ ستذهب له أو لا، أو قد يتم وضع إعلانٍ لأحد متاجر ثياب الأطفال بالقرب من مدارسهم، أو قد يتم عرض إعلانات تليفزيونية خلال برامج أو مسلسلات معينة لبيع منتج يتعلق بما يتم مشاهدته في تلك البرامج والمسلسلات.
بالنهاية، هذه ليست سوى عدد قليل من الاستراتيجيات التي يستخدمها العاملون في مجال الإعلان مستفيدين من علم النفس ونظرياته وفرضياته لتغيير سلوك المستهلك وتفكيره وعاطفته في سبيل بيع منتجاتهم، دون أن يكون المستهلك نفسه مدركًا أنه ضحيةً لدماغه المعقد الذي لا يمكنه فهمه ولا فهم طريقة تعامله مع الأشياء والأمور من حوله.