في الأسبوع الماضي، وأمام جمهور متحمس في مؤتمر للاستثمار، بدا ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان متجهما، حينما تعهد بأن “يسحق المتطرفين”، وبإعادة “الإسلام المعتدل” إلى المملكة العربية السعودية. لقد توعد قائلا: “سوف ندمرهم، الآن وعلى الفور.” وأعلن خلال المؤتمر ذاته عن مشروع طموح لمنطقة حرة بتكلفة 500 مليار دولار، من شأنه أن يحول منطقة بمساحة ماساشوستس إلى مركز للتقنيات العالية المستقبلية.
يعكس ولي العهد ما يشعر به كثير من السعوديين من غضب وإحباط، وهم الذين طالما تشوقوا إلى التخلص من المؤثرات السلبية التي ابتليت بها بلادهم. كنا بانتظار زعيم يدرك أن التطرف، سواء الاقتصادي أو الاجتماعي، ضار بالبلاد. ولعل إمارة دبي، التي بدأت مسيرتها نحو المكانة العالمية المرموقة في 1980، تصلح نموذجا لمعرفة كم خسرت المملكة خلال الأربعين عاما، على الرغم من أنها صاحبة الاقتصاد الأكبر في المنطقة.
أعرف تماما لماذا يحتد الأمير الشاب محمد. فالوهابية السلفية، تلك الحركة الإسلامية الإصلاحية، انتشرت في أرجاء البلاد، وتمكنت من مفاصلها، وتحولت إلى حركة معادية للحداثة وكارهة للأجانب، وبشكل خاص بعد حدثين سياسيين هزّا المملكة في عام 1979؛ كان الأول قيام مجموعة من السلفيين المتطرفين بالاستيلاء على المسجد الحرام في مكة المكرمة، أقدس بقاع الأرض عند المسلمين. أما الحدث الثاني، فكان استيلاء آية الله الخميني على السلطة في إيران.
داخل المملكة العربية السعودية، يمكن للمرء أن يلمس النفوذ الضار لهذه الحركة المتزمتة التي ولدت في القرن الثامن عشر في كل أنحاء البلاد، حيث بإمكان الشرطة الدينية التي ترعاها الدولة التدخل حتى في أخص خصوصيات الناس، وأما مناهج التعليم فديدنها التحذير من الكفر والكافرين، بينما يصدح وعاظ التلفزيون بآرائهم المعارضة لحقوق النساء والأقليات، ويستمر الحظر المفروض على استيراد بعض السلع، مثل لعبة الشطرنج وعرائس باربي.
هل بإمكاننا أن ننجح في تقديم صورة مقنعة لمجتمع عصري، مجهز بالروبوتات ومزدحم بالأجانب والسياح، بينما تكمم أفواه السعوديين على بعد أميال من “نيوم”؟
ما من شك في أن الأمير محمد محق في تعقب المتطرفين، لكنه في الواقع يلاحق الأبرياء، حيث ألقي القبض خلال الشهرين الماضيين على العشرات من المفكرين وعلماء الدين والإعلاميين ورموز مواقع التواصل الاجتماعي داخل السعودية، وأغلبية هؤلاء في أسوأ الأحوال إذا صدر منهم نقد للحكومة فهو من أخف أنواع النقد. أما أصحاب الأفكار المتطرفة، فستجدهم داخل هيئة كبار العلماء.
خذ على سبيل المثال الشيخ صالح الفوزان الذي يكن له الأمير محمد كل الاحترام والتقدير، رغم أنه أعلن عبر التلفزيون أن الشيعة ليسوا مسلمين. وهناك أيضا الشيخ صالح اللحيدان، وهو كذلك يحظى بكثير من التقدير، الذي أصدر فتوى تقول بأن الحاكم المسلم غير ملزم باستشارة الآخرين. لهؤلاء آراء رجعية حول الديمقراطية والتعددية وقيادة المرأة للسيارة، ومع ذلك فهم ينعمون بفضل مرسوم ملكي بالحصانة من النقد أو الدحض.
كيف يمكن لنا أن نصبح أكثر اعتدالا إذا كانت السلطة تتسامح مع مثل هذه الآراء المتطرفة؟ وكيف يمكن لنا كأمة أن نتقدم حينما يتعرض للإقصاء والتهميش كل من يقدم نقدا بناء أو معارضة (في أغلبها من باب الفكاهة والمداعبة)؟
توجد صفحة في حساب تويتر بعنوان @m3takl_en مكرسة للكشف عن الاعتقالات التي تقع داخل المملكة. وتحتوي الصحفة على معلومات عن الأفراد الذين يقع اعتقالهم، وكثيرون منهم مضى عليهم في الاعتقال أسابيع دون أن توجه إليهم تهم أو يعرضون على محكمة. ويمكن للمتصفح أن يجد هناك تفاصيل عن آرائهم ومواقفهم، كلها مستمدة مما هو منشور في اليوتيوب وفي مواقع الإنترنيت.
وهؤلاء جميعا يؤيدون التعددية ويرون التنوع داخل الإسلام، على النقيض تماما مما تراه الوهابية. وتجدهم يدعون إلى الانفتاح، والسماح بالتسلية والترفيه، والسماح للنساء بقيادة السيارات، ويعربون عن تأييدهم لحقوق الأقليات. بل لقد ذهب بعضهم إلى حد المطالبة بوضع نهاية لولاية الرجال على النساء، وهي قضية ما تزال موضع خلاف كبير. باختصار، معظم هؤلاء يحملون أفكارا تؤهلهم لأن يكونوا شركاء للأمير محمد في برنامجه الطموح.
المفكرون الاثنان والسبعون، الذين يحتجزون الآن وراء القضبان دون توجيه أي تهم لهم، والكثيرون غيرهم ممن حظر عليهم السفر، فربما يتساءلون إذا ما باتوا هم وآخرون مثلهم منبوذين داخل بلادهم
إذن، لماذا ألقي القبض عليهم؟ التفسير الوحيد لذلك هو أنهم أيضا طالبوا بهدوء بالحقوق السياسية. صحيح أن بعضهم مسلمون وهابيون تقليديون، يشتركون في بعض الآراء مع أعضاء هيئة كبار العلماء التي تحميها وترعاها الدولة، إلا أنهم رغم ذلك يختلفون عن أقرانهم في أنهم يعبرون عن معارضتهم لإصلاحات ولي العهد. ورغم أنني شخصيا أختلف معهم، إلا أن من حقهم أن يعبروا عن وجهات نظرهم طالما أنهم لا يحرضون على العنف.
هل بإمكاننا أن ننجح في تقديم صورة مقنعة لمجتمع عصري، مجهز بالروبوتات ومزدحم بالأجانب والسياح، بينما تكمم أفواه السعوديين على بعد أميال من “نيوم”؟ هل هذه فعلا هي السعودية “الحديثة”؟
عندما دشن رؤيته المعروفة باسم “نيوم” للمملكة العربية السعودية المستقبلية، قال ولي العهد: “أنا واحد من عشرين مليونا، أنا لا شيء من دونهم.” أما المفكرون الاثنان والسبعون، الذين يحتجزون الآن وراء القضبان دون توجيه أي تهم لهم، والكثيرون غيرهم ممن حظر عليهم السفر، فربما يتساءلون إذا ما باتوا هم وآخرون مثلهم منبوذين داخل بلادهم.
المصدر: واشنطن بوست