“هل لديك جار عربي؟ لا تنتظر حتى يدخل عليك بيتك، بل اقتحم منزله وأطلق النار عليه، انتصروا ودمروهم بكل قدر ممكن كي لا يبقى منهم أحد، امحوا ذكراهم فلا يبقى منهم أحد، لا أسرهم ولا أمهاتهم ولا أطفالهم في غزة، افعلوا بهم كل ذلك، هذا ما أتمنى أن يفعله الجيش الآن، أن يضع حدًا لهؤلاء النازيين (العرب) اليوم الذين ليس لديهم الحق في العيش على أرضنا المقدسة”.
هذه الكلمات التي تفوح منها رائحة التحريض والكراهية والعنصرية قالها أكبر جندي احتياط في “إسرائيل” لجنود الاحتلال، وهو عزرا ياشين، الذي قدَّم خلاصة تاريخه الملطخ بدماء الفلسطينيين بعد أن استنجدت به حكومة بنيامين نتنياهو كواحد من مئات آلاف جنود الاحتياط الذين تمت تعبئتهم في “إسرائيل” منذ بداية عملية “طوفان الأقصى”، فارتدى الرجل التسعيني الخوذة والزي العسكري، لا للمشاركة في العمليات العسكرية ضد الفصائل الفلسطينية بل ليكون مصدر إلهام للجنود الذين يقاتلون الآن في غزة “حيوانات لا تستحق العيش بعد اليوم”، بحسب ما وصفه.
في ريعان شبابه، كان ياشين – البالغ الآن من العمر 95 عامًا – عضوًا في عصابة “شتيرن” أو “ليحي”، وهي واحدة من أخطر العصابات الصهيونية، التي ضمت “إسرائيل” قواتها رسميًا في صفوف الجيش بعد النكبة، بعد أن ارتكبت اغتيالات ومجازر راح ضحيتها مئات الفلسطينيين، وشارك فيها ياشين بنفسه، وعُرف منذ ذلك الحين بكرهه الشديد للفلسطينيين والعرب، إذ طالب اليهود مرارًا خلال مقابلاته التلفزيونية بقتلهم واغتيالهم.
في السطور التالية، نحاول تقصى جذور هذه العصابة المتطرفة التي أفرزت أمثال ياشين الذين يغذُّون العنصرية والمجازر والإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال اليوم في غزة، والتي لا تختلف عن تلك التي اُرتكبت بحق الفلسطينيين عندما كان ياشين عضوًا نشطًا في منظمة إرهابية يُكافأ أفرادها لاحقًا بأعلى المناصب، وما زالت بصمتهم العنصرية باقية حتى اليوم داخل جيش الاحتلال.
نواة المنظمات الصهيونية
في عام 1925، قدم أفراهام شتيرن، وهو يهودي من أصل بولندي ولد عام 1907، مهاجرًا من بولندا إلى الأراضي الفلسطينية، وكان يدرس الآداب في الجامعة العبرية التي تأسست في ذلك العام، أيام الانتداب البريطاني بمبادرة الحركة الصهيونية، وحصل على منحة لدراسة اللغات والأدب في جامعة فلورنسا بإيطاليا، لكنه عاد إلى فلسطين عام 1929.
في ذاك العام، قرر أفراهام العمل ضمن عصابات المستوطنين، فانضم إلى منظمة “الهاغاناه”، الذراع العسكرية للوكالة اليهودية، ظنًا منه أنها الوحيدة التي قد تحمي اليهود، لكنها كانت حذرة في علاقتها مع سلطات الانتداب البريطاني، ففي بعض الأحيان رفضت سياسات الانتداب، وفي أحيان أخرى تعاونت مع البريطانيين، وفي النهاية لم يرق له ما يفعلونه.
اعتقدت مجموعة داخل الهاغاناه أن بريطانيا عدو الصهيونية، ورأوا أن تأسيس دولة يهودية على أرض فلسطين التاريخية لا يقتصر على التخلص من الفلسطينيين، بل يجب أيضًا إجبار البريطانيين على الخروج من فلسطين.
كانت المجموعة الأولى التي انفصلت عن الهاغاناه في عام 1935، ورفضت سياساتها المتحفظة تجاه البريطانيين هي عصابة “الأرغون” بقيادة زئيف جابوتينسكي الذي أعلن بنيامين نتنياهو أنه تلميذه، وكان والده مساعده الشخصي، ومناحم بيجن الذي أصبح لاحقًا الرجل الأول في “إسرائيل”، لذلك انضم إليهم أفراهام، وكرس حياته لما اعتقد أنه “القتال من أجل إسرائيل”.
بعد سنوات، ألقت السلطات البريطانية القبض على زعيم الحركة السرية الصهيونية وأحد مؤسسي منظمة الأرغون ديفيد رازيل، وفي نهاية أغسطس/آب عام 1939، وقبل يوم واحد من اندلاع الحرب العالمية الثانية، شنت القوات البريطانية حملة اعتقالات ضد قيادات الأرغون، واحتجزتهم في تل أبيب.
في اليوم ذاته الذي قرر فيه الألمان الحرب، اضطرت الأرغون للدخول في هدنة مع البريطانيين، وقرر جابوتينسكي أن أعضاء عصابته لن يقاتلوا البريطانيين حتى يتمكنوا من التعاون في القتال ضد ما أسموه “أكبر عدو للعبرانيين في العالم”، في إشارة إلى ألمانيا النازية بقيادة أدولف هتلر.
لم يتفق أفراهام مع هذا القرار، فقاد مجموعة من زملائه للانشقاق عن الأرغون، وتشكيل مجموعته الخاصة، وهي منظمة “لحمي حيروت إسرائيل” أو “المحاربون من أجل حرية إسرائيل” المعروفة اختصارًا باسم عصابة “شتيرن” أو “ليحي”، التي بلغ عدد أعضائها بضع مئات من أشد المتطرفين الصهاينة، وتبنوا أفكارًا قومية صهيونية متطرفة ترى أن فلسطين هي وطنهم الوحيد.
استحوذت المنظمة في بداية انشقاقها عن الأرغون على كمية كبيرة من الأسلحة والذخيرة المملوكة للهاغاناه والأرغون، وبدأت بمزاولة السطو المنظم على البنوك للحصول على التمويل اللازم لعملياتها، ولم تستطع الشرطة البريطانية مجابهتها.
في يناير/كانون الثاني عام 1942، حاولوا سرقة مصرفٍ في تل أبيب، وتسببوا في مقتل العديد من الأشخاص المدنيين بسبب عدم احترافيتهم، كما أصابوا وقتلوا العديد من الجنود والضباط البريطانيين، ما أثار سخط معظم السكان اليهود ضدهم، وتطوع البعض للقضاء عليهم، وعلَّق البريطانيون في كل شوارع تل أبيب صورًا لقادة مطلوبين من عاصبة شتيرن، وكانت هناك مكافاة قدرها ألف جنيه إسترليني للقبض على أفراهام.
رغم التضييق البريطاني على حركة المنظمة الإرهابية اليهودية في فلسطين، ومع الإجراءات المشددة التي اتخذتها سلطات الانتداب لتجفيف منابع التمويل، استطاعت العصابة الحصول على تمويل لمزاولة نشاطها من مصادر غير تقليدية، من خلال اللجوء إلى وسائل مختلفة للعنف والبلطجة للحصول على الأموال الضرورية لمواصلة نشاطها، بالإضافة إلى أموال طائلة يجري ابتزازها من أشخاص أثرياء لا يجرؤون على رفض دفع المساهمات المفروضة عليهم خوفًا من تعرضهم للانتقام.
على عكس الصهاينة الآخرين، لم يكذب شتيرن على نفسه، ولم يقل إن فلسطين كانت أرضًا خلاء، لكن كتاباته المبكرة تشير إلى وصفه الصريح للفلسطينيين بأنهم “غرباء”، وإيمانه بأنهم لم ينتموا إلى فلسطين، وأنهم “استولوا على الأرض التي هي حق لليهود فقط”، ولم يرَ أي علاقة بين الفلسطينيين وفلسطين.
رأى أبراهام نفسه مناهضًا حقيقيًا للإمبريالية الممثلة في الانتداب البريطاني، وشبَّه نفسه بالحركات المناهضة لها في إفريقيا والهند، وكان يؤمن بأن السبيل الوحيد للم شتات يهود العالم أجمع هو محاربة بريطانيا العظمى حتى ترحل عن أرض فلسطين، ولم تكن رؤيته للبريطانيين هي الشيء الغريب، لكن رؤيته للفلسطينيين كجزء من السلطات البريطانية ومحاربتهم من أجل الحصول على الاستقلال هي الشيء الأكثر غرابة، وفي ذلك تشويه كامل للتاريخ والواقع.
لهذا لم تقتصر عمليات شتيرن على الأراضي الفلسطينية، واعتمدت في الترويج لأفكارها على الفلسفة والتاريخ وعلى أسلوب أدبي سلس نابع من المدرسة الأوروبية، وأن عددًا كبيرًا من أعضائها من دول أوروبية، وعلى وجه الخصوص من شرق ووسط أوروبا، وتتمحور أهدافهم حول الفكرة القومية اليهودية والحرب من أجل تحقيق وطن يهودي.
التحالف مع النازية والفاشية.. “عدو عدوي صديقي”
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، كان الجدل القائم داخل العصابات الصهيونية يدور حول مسألة وقف العمليات العسكرية ضد الإنجليز، ومواجهة عدو مشترك (الألمان) أو الاستمرار في معركتهم، وفي حين كانت أغلبية اليهود ترى الوقف الشامل لكل الأنشطة ضد الإنجليز، استمرت شتيرن في شن هجماتها ضد البريطانيين طيلة سنوات الحرب لإجبارهم على الرحيل عن أرض فلسطين.
في سبيل ذلك، تبنت عصابة “شتيرن” خيار العمل المستقل المخالف لمنهج المنظمة الصهيونية العالمية، وسعت للتحالف مع ألمانيا النازية، فقد اعتقد أبراهام بسذاجته المطلقة أنه قادر على تشكيل تحالف مع هتلر ضد البريطانيين، وأنه إذا توصل لاتفاق مع النازيين كي يرسلوا اليهود أو يسمحوا لهم بالخروج من أوروبا، فإنه سيتمكن من إنقاذ اليهود مقابل مساعدة عصابته للألمان عبر قتال البريطانيين.
كانت هناك بعض الأماني الغريبة بأن تقاتل عصابته “العدو المشترك” (بريطانيا) بمساعدة الألمان، فكتب اقتراحًا، وأرسل مبعوثًا إلى السفارة الألمانية في بيروت، وسلَّم مبعوثه رسالته وعرضها على السفير الألماني، لكن الألمان لم يجيبوا قط، ولم تتطور هذه المحاولة الساذجة إلى ما هو أبعد من ذلك، ولم يكن هناك أي نوع من التعاون مع النازيين على الإطلاق.
بالنسبة لإيطاليا، تجاهل شتيرن الجانب المعادي لليهود من الفاشية، وركز على محاولة بناء تحالف ضد البريطانيين، لذلك في عام 1940، حاول في البداية لقاء الفاشيين الإيطاليين، وعقد اتفاقية تسمى “اتفاقية القدس”، صاغتها عصابة شتيرن، حددت فيها أنها ستكون أحد الأطراف وإيطاليا الطرف الآخر.
وافق شتيرن على الاعتراف بالإيطاليين الفاشيين كقوة سيادية في معظم المنطقة مقابل اعترافهم بشتيرن كقوة مماثلة وحيدة في فلسطين، لكن الجزء الأكثر إثارة للاهتمام في تلك الاتفاقية أنها تلزم الإيطاليين باستخدام قواتهم العسكرية الفاشية لحل مشكلة ما أُشير إليه بـ”الشتات اليهودي”، وهذا يعني إجبار اليهود الذين لا يعيشون في أوروبا على الذهاب إلى فلسطين بالقوة.
لكن في بعض الأحيان تم اعتراض هذه الرسائل من منافسيه في عصابة الأرغون، الذين أظهروه على أنه “رجل عصابات وخائن يتعاون مع العدو”، وأصبح في نظرهم مثل مفتي القدس الحاج أمين الحسيني الذي طرده البريطانيون من فلسطين، فتعاون مع عدوهم هتلر وموسوليني، لكن في حين كان من المفهوم أن يتخذ مفتي القدس هذا الموقف، فلا يمكن لشتيرن أن تتخذه مع علمهم بأجندة النازيين المناهضة لليهود، ومع هتلر الذي قال إنه بنهاية الحرب سيقضي على اليهود في أوروبا.
ومع ذلك، تشير سجلات الاستجواب البريطانية واعترافات أفراهام وأعضاء عصابة “شتيرن” إلى رغبته في التعاون التكتيكي مع أي دول أجنبية أو قوى عسكرية تساعد في إقامة وطن لليهود، بشروط محددة للحصول على السلاح والمال لتنفيذ العمليات ضد الإنجليز، حتى لو كانت تلك الدول ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية اللتان تطاردان اليهود.
لأن عصابة “شتيرن” لم تكن كبيرة العدد، كانت عملياتها تتركز جغرافيًا في القدس ويافا، وكانت مهمتها الرئيسية هي الاغتيالات
كما تشير بعض الوثائق إلى أن أفراهام أراد التعاون مع ألمانيا وإيطاليا ضد بريطانيا رغم علمه بالمحرقة والاضطهاد الممنهج ضد يهود أوروبا، وعلمه أيضًا بأن اليهود كانوا محكومين بنظام عنصري يقاطع الشركات اليهودية ويطرد اليهود من الجامعات وأماكن الخدمة العامة، وكان يعرف أيضًا عن هذا التحريض النازي ضد اليهود لإجبارهم على الخروج من ألمانيا، وهذا شيء أراد شتيرن أن يحدث على أي حال، ومع ذلك، سعى للتحالف مع ما يعتبره المؤرخون الصهاينة “أشهر مجرم معادٍ للسامية في التاريخ”.
كانت الهاغاناه والتيار الصهيوني وحتى الأرغون يدركون أن عليهم انتظار هزيمة ألمانيا قبل أن يواصلوا القتال ضد البريطانيين، وكانت فكرة التفاوض مع النازيين مقبولة، ففي عام 1933 تفاوضت الهاغاناه مع النازيين على اتفاقية النقل التجارية “هعفراه” التي كسرت المقاطعة اليهودية لألمانيا النازية، لذلك لم يكن هناك اختلاف من حيث المبدأ، لكن الاختلاف حول تطبيق الوسائل، وهذا يعني أن أفراهام لم يكن صبورًا بما يكفي لإدراك أنه لا يمكنه فعل كل شيء في وقت واحد.
إرهاب ضد الحليف الاستراتيجي
ظنت السلطات البريطانية أن مقتل شتيرن في سن الـ34، بعد القبض عليه في مكان اختبائه داخل شقة في تل أبيب في فبراير/شباط عام 1942، سيكتب نهاية المنظمة الإرهابية لكن يبدو أنها كانت مخطئة، فالأشخاص الثلاثة: إسحق شامير وناتان يالين مور وإسرائيل إلداد، الذين خلفوه في القيادة كانوا أكثر منهجية وتطرفًا فيما فعلوه، كالهجوم على المنشآت البريطانية واغتيال الضباط البريطانيين وتخويف اليهود الذين لم يكونوا عدوانيين للبريطانيين بما فيه الكفاية أو المتعاملين معهم.
واحتجاجًا على سياسة “الكتاب الأبيض” لعام 1939، والذي كان أحد بنوده الرئيسية ينص على تقييد انتقال الأراضي العربية إلى اليهود، تصاعدت الأعمال الإرهابية الصهيونية التي كان العنف فيها موجهًا ضد السلطات البريطانية الحاكمة في فلسطين للإطاحة بالانتداب، وضد الأهالي العرب في كل أنحاء فلسطين لدفعهم إلى الهجرة وإحلال مهاجرين يهود محلهم.
بعد عام 1943، كانت العلاقة بين الأرغون وشتيرن تشير إلى أن لديهما عدوًا جديدًا، ليس بريطانيا ولا الفلسطينيين بل الهاغاناه أيضًا، التي بدأت حملة لمحاولة تقويض قوة العصابات الأخرى لأنهم رأوهم خطرًا كبيرًا على “القضية الصهيونية”، فيما تُعرف هذه الفترة في التأريخ الصهيوني باسم “سايزون”، أي “موسم الصيد”، وهي الفترة التي استشهد بها الجناح اليميني بعد عقود، ولا يزال البعض يستخدم هذا المصطلح لوصف اليساريين والليبراليين كأشخاص لا يمكن الوثوق بهم.
ومع ذلك، يبدو من الواضح أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة البريطانية في مواجهة الحراك الإرهابي الصهيوني الذي تصاعد ضد الانتداب البريطاني منذ خريف عام 1944 لم تكن كافية أو ناجحة وقت هذا الإرهاب، خاصة عمليات منظمة “شتيرن”، التي حددت أهدافها في “تحقيق حلم إنشاء دولة إسرائيل بالتخلص من جميع المحتلين العرب، وتمتد الحدود الجغرافية لهذا الحلم من نهر الفرات شرقًا إلى نهر النيل غربًا، ولا يتحقق إلا بجلاء قوات الانتداب البريطانية عن أرض فلسطين”.
على طريق تحقيق هذا الحلم، راحت “شتيرن” تخطط لتنفيذ عملية جديدة كانت العاصمة المصرية القاهرة مسرحًا لها، وكان موعدها في 6 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1944، وضحيتها وزير الدولة البريطانية اللورد والتر موين المقيم في القاهرة، الذي يحرص المؤرخون لسيرة حياته على الإشارة لما عُرف عنه من ميول عربية ومواقف معارضة للصهيونية.
كان موين أحد رموز السياسة البريطانية، وقد اغتاله عضوان في عصابة “شتيرن” تحت إمرة إسحق شابير، رغبة منهم في الهجوم على هذه الرموز، واُستهدف بسبب آرائه وانتقاده لمواقف الصهيونية المتطرفة من ناحية، وبسبب أفعاله عندما كان وزيرًا للمستعمرات من ناحية ثانية، بالإضافة إلى دعمه للاتحاد العربي في الشرق الأوسط.
منذ ذلك الحين، حظي نشاط “شتيرن” بتوصيفات مختلفة، فوصفته إنجلترا بـ”الإرهاب”، في وقت تتهمها فيه الأحزاب الصهيوني اليسارية مثل هاشومير هاتزئير، وهو الحزب الاشتراكي الماركسي، بمحاكاة الفاشية، في حين تدعى “شتيرن” أنها “تخوض حرب تحرير وطنية”.
اعتمدت هذه الفكرة قبل كل شيء على ادعاءات تتمحور حول “تحرير كل الأرض من القوات البريطانية المحتلة”، وترى أنه “يجب أن تُشن الحرب ضد البنى التحتية (القواعد العسكرية) لهذه الإمبريالية، بجانب نقاط تمركز كتائبها وخطوط الأنابيب التابعة لها”.
الأمر لا يتعلق هنا ببرنامج بسيط، إذ يسجل بيان لمنظمة “شتيرن” في الفترة بين 1 أكتوبر/تشرين الأول و21 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1946، 31 عملية ضد القوات البريطانية، كما تكبدت بريطانيا العظمى خسائر فادحة دفعتها في النهاية إلى التخلي عن انتدابها على فلسطين والتخلص من ملف الصراع برمته وتحويله إلى الأمم المتحدة التي أقرت تقسيم فلسطين وقيام “دولة إسرائيل”.
ولأن عصابة “شتيرن” لم تكن كبيرة العدد، كانت عملياتها تتركز جغرافيًا في القدس ويافا، وكانت مهمتها الرئيسية هي الاغتيالات، وأشهر عملية اغتيال ارتكبتها في أعقاب انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين هي اغتيال وسيط الأمم المتحدة الدبلوماسي السويدي الكونت فولك برنادوت التي ارتكبها أفراد من عصابة “شتيرن”.
كانت مذبحة دير ياسين، القرية الواقعة غربي القدس المحتلة، في يوم 9 أبريل/نيسان عام 1948، أفظع جرائم “شتيرن” ونقطة تحول وعملًا وحشيًا يشهد على حقيقة الاحتلال والإجرام الصهيوني بعد النكبة
اُختير برنادوت وسيطًا بين العرب واليهود، بعدما أنقذ عشرات آلاف اليهود من معسكرات الإبادة النازية أكثر مما فعلت الحركة الصهيونية، واستطاع أن يحقق الهدنة الأولى في فلسطين، ومهدت تحركاته لمفاوضات “رودس” نهاية عام 1948، ووضع على طاولة الأمم المتحدة اقتراحات لحل القضية.
اقترح برنادوت – الذي كان يُنظر إليه كصانع سلام منصف – إنشاء اتحاد من عضوين عربي ويهودي في حدود فلسطين التاريخية، والسماح للاجئين الفلسطينيين بالعودة من دون قيد، وتنظيم هجرة اليهود دوليًا لتبديد مخاوف العرب، وبقاء القدس بأكملها تحت السيادة العربية، والتنازل عن صحراء النقب – التي منحتها الأمم المتحدة قبل عام واحد من قرار التقسيم – لصالح العرب.
حظيت خطة برنادوت بقبول عربي مبدئي، لكن لم يكن يُنظر إليه على أنه منصف للقضية الصهيونية، وأثارت خطته حفيظة الجماعات الصهيونية المتطرفة، ورأوه عدوًا يجب التخلص منه، فاغتالوه في اليوم التالي لإعلان الخطة، ففي 17 سبتمبر/أيلول 1948، تعرض موكبه لكمين في القدس، وأطلق أعضاء عصابة “شتيرن” اليهودية النار عليه من مسافة قريبة، وكان الاغتيال بأمر من إسحق شامير الذي قاد فترة من الصراع مع البريطانيين خلال الأربعينيات.
أثارت هذه العملية استياء حكومات العالم، وضغطت على حكومة الاحتلال لملاحقة أعضاء التنظيم ومعاقبتهم، وهذا ما تم بالفعل، حيث اعتبرت الحكومة الإسرائيلية عصابة شتيرن “منظمة إرهابية”، وحوَّلت بعض أفرادها للمحاكة قبل أن تقرر الإفراج عنهم وتمنحهم عفوًا عامًا في العام التالي.
وفي عام 2012، صدر كتاب “جريمة اغتيال فولك برنادوت” يوثّق ملابسات مقتل الوسيط الأممي، كشف أن برنادوت كتب وصيته الأخيرة لزوجته إستيل، واتفق معها قبل سفره الأخير إلى فلسطين على مراسم جنازته، لإدراكه الأخطار التي تهدد حياته في مناطق الإسرائيليين.
واتهم مؤلف الكتاب يوران بورين الأمين العام للأمم المتحدة حينها بالتواطؤ مع “إسرائيل” على المبعوث الأممي، وكتب: “أظن أن اهتمامه بقضية اللاجئين كان السبب الذي دفع الحكومة الإسرائيلية إلى أن تترك المجال مفتوحًا للقتلة من عصابة “شتيرن”، وهكذا بعد التخلص من برنادوت اختفى اللاجئون وقضيتهم”.
بعد ذلك، امتد صراع عصابة “شتيرن” مع بريطانيا إلى أوروبا والولايات المتحدة، ونفذت الكثير من العمليات منها تفجير السفارة البريطانية في روما عام 1946، وبدأت بمحاولة أن تكون أكثر حزمًا في الدفاع عن الجاليات اليهودية مما تسميها الهجمات المعادية للسامية في الخارج، وهو ما جعلهم أكثر عنفًا في تكوين اليهودي الذي ليس مجرد ضحية للمذابح ومعاداة السامية، ويستطيع الدفاع عن نفسه، لكنهم استخدموا هذا العنف ضد العرب لتعزيز سيطرتهم على فلسطين.
سجل “شتيرن” الدموي
شكلت عصابة “شتيرن” التهديد الإرهابي الأكبر في فلسطين على سلطات الانتداب البريطاني من جهة وعلى السكان الفلسطينيين المدنيين العزَّل من جهة أخرى، وكانت عملياتها داخل فلسطين وخارجها هي التي أوقعت العدد الأكبر من القتلى والجرحي في صفوف البريطانيين والفلسطينيين على حد سواء.
وخلال الحرب العالمية الثانية، لم تتفق عصابة “شتيرن” مع الأرغون والهاغاناه، فكانت تنفذ عملياتها بشكل منفصل ضد الأهداف البريطانية، وبمجرد انتهاء الحرب أنشأت العصابات الصهيونية الثلاثة ما أطلقوا عليه بالعبرية “نواتاميري”، وتعني “حركة التمرد” أو “الحراك الثوري”، وبدأوا في تنسيق عملياتهم ضد الفلسطينيين.
كان الفلسطينيون الأسوأ حظًا من إرهاب العصابات الصهيونية أكثر من أي طرف آخر، وكانت مذبحة دير ياسين، القرية الواقعة غربي القدس المحتلة، في يوم 9 أبريل/نيسان عام 1948، أفظع جرائمها ونقطة تحول وعملًا وحشيًا يشهد على حقيقة الاحتلال والإجرام الصهيوني بعد النكبة، فقد اُرتكبت المجزرة التي نفذّتها العصابة الصهيونية في القرية قبل شهر واحد فقط من الإعلان عن تأسيس الكيان المحتل رغم الهدنة التي تم الاتفاق عليها آنذاك.
لكن دير ياسين لم تكن المجزرة الوحيدة، ولم تكن حتى أسوأ المجازر التى رأى فيها أفراهام أسلوبًا فعالًا لإبادة الفلسطينيين وطردهم من أرضهم، فقد نفَّذت “شتيرن” مجزرة السرايا القديمة في يافا 4 أبريل/نيسان 1948، التي حصدت أرواح عشرات الشيوخ والأطفال الذين كانوا في ملجأ للفقراء والأيتام، وتسببت في نكبة يافا، وأدَّت إلى هجرة كبرى بين السكان الذين أدركوا بشاعة جرائم العصابات الصهيونية.
كما شاركت “شتيرن” في العديد من المجازر وعمليات التهجير القسري بحق الفلسطينيين والتحريض عليهم، وارتكبت مع غيرها من العصابات الصهيونية خلال احتلالها 400 قرية فلسطينية عام 1948 أكثر من 80 مجزرة ومذبحة بحق الفلطسينيين تُصنًّف في إطار جرائم الحرب والإبادة الجماعية، وساهمت هذه المجازر في تهجير أهالي المناطق المجاورة والتمهيد لاحتلال القدس.
ولخص الصهاينة أنفسهم الطريقة التي طردوا بها الفلسطينيين، حيث تنص وثيقة مفصلة على استخدام الأعمال العدائية المباشرة التي نفذتها شتيرن والأرغون ضد الجاليات العربية وتأثيرها على المجتمعات المجاورة التي يعيش فيها المهاجرون، ونشر الشائعات لإثارة خوف الناس واستخدام إنذارات الإخلاء وعمليات القصف لدفع العرب إلى الفرار.
تفضح هذه الوثيقة أحد أهم الأساطير الإسرائيلية، التي لا تزال مقبولة في مناطق عدة من العالم، وتقول إنه “في يوم 15 مايو/أيار 1948، أرسل العالم العربي جيوشه إلى فلسطين لتدمير الدولة اليهودية، وطلبوا من الفلسطينيين المغادرة، فأصبحوا لاجئين لأن العالم العربي طلب منهم ذلك”.
لكن ما يكشفه المؤرخ الإسرائيلي المعادي للصهيونية إيلان بابيه في كتابه “10 أساطير عن إسرائيل” يدحض هذه الخرافات، فحتى قبل أن يدخل جندي عربي واحد إلى فلسطين في ذلك اليوم طردت القوات الصهيونية مئات آلاف الفلسطينيين، واستخدمت الحرب من أجل استمرار التطهير العرقي الذي بدأ قبل الحرب، في حين دخلت القوات العربية لوقف التطهير العرقي.
ومع الإعلان عن قيام “إسرائيل”، أُستخدم تعبير النكبة لوصف عمليات التهجير القسري التي قامت بها العصابات الصهيونية لطرد أكثر من 750 ألف فلسطيني من أصل مليون ونصف تقريبًا من بيوتهم وأراضيهم في فلسطين وإحلال اليهود مكانهم.
وشاركت “شتيرن” في سيطرة العصابات الصهيونية على 774 قرية ومدينة فلسطينية، وطردوا سكانها الفلسطينيين بالقوة، ودمرت 531 منها بالكامل، وطمست معالمها الحضارية والتاريخية، وما تبقى تم إخضاعه إلى كيان الاحتلال وقوانينه، وبهذا صارت أكثر من ثلاثة أرباع مساحة فلسطين التاريخية تحت الاحتلال الإسرائيلي.
مكافأة الإرهاب
قد يبدو للوهلة الأولى أنه لا يمكن تفسير أن نفس الأشخاص الذين نجوا من أهوال المحرقة قد يقومون بعد ذلك بتجريد الأشخاص الآخرين في فلسطين من حقوقهم، ومسح قرية تلو الأخرى بسبب عرق أهلها، وهذا يعني أن العصابات المسلحة نقلت بشكل منهجي الهوية النازية من النازيين الذين يؤلهون الجنس الآري إلى الإسرائيليين الذين يعتبرون أنفسهم “شعب الله المختار”.
ومع ذلك، أصبحت منظمات مسلحة متهمة بارتكاب جرائم ومجازر، وعصابات صهيونية أفرادها من المهاجرين القادمين إلى أرض الميعاد المزعومة، تتصف بالبطولة، وأصبح من كانوا إرهابيين إسرائيليين أُناس آخرين ومقاتلين من أجل الحرية وفق منطق الصهيونية.
ورغم امتلاك معظم أفراد “شتيرن” سجلاً دمويًا زاحرًا، فإنهم اندمجوا فيما يُعرف الآن باسم “جيش الدفاع الإسرائيلي”، وشكلوا – إلى اجنب العصابات الصهيونية الأخرى – في نهاية المطاف الجزء الأكبر من جيش الاحتلال، وحصلوا على رواتب التقاعد المستحقة لهم، ومنحت حكومة الاحتلال بعضهم وسام محاربي الدولة.
كما تدرَّج إسحق شامير في المناصب العليا من العمل في الموساد ودخول الكنيست مرورًا بتوليه وزارة الشؤون الخارجية حتى اُنتخب رئيسًا للوزراء لفترتين منفصلتين خلال الثمانينيات وبداية التسعينيات، وسبقه زعيم الأرغون مناحم بيجن الذي أصبح رئيسًا لوزراء “إسرائيل” عند إعلان “دولة إسرائيل”.
كما كوفئ أفراهام شتيرن وعصابته، فحصل أعضاؤها المدانون في القضاء على عفو عام، وغيَّرت حكومة الاحتلال اسم الشارع الذي يُزعم أن شرطة الانتداب البريطاني قتلته فيه إلى شارع “شتيرن”، وفي عام 1985، تم تغيير المبنى الذي قُتل فيه إلى متحف يخص الحركة باسم “بيت يائير”، ويخضع لإشراف وزارة الدفاع الإسرائيلية، ويقدم عروضًا عن حياة أفرهام شتيرن ونشاط منظمته للزائرين.
كما تم إصدار طابع بريدي يحمل صورة مؤسس المنظمة، ويتم إحياء ذكراه في حفل رسمي يحضره ممثلون عن الحكومة، وحصل مؤخرًا ابنه الوحيد على ميدالية من جيش الاحتلال لما يقول إنها بسبب مشاركته الجيش في الحرب.
وفي عام 1975، وبعد 30 عامًا من تنفيذ حكم الإعدام في قاتلي اللورد موين، ومن داخل مقبرة في ركن اليهود بمدافن البساتين شمال شرقي ضاحية المعادي في القاهرة، جرى تجميع رُفاتهما، وفور وصول الرفات، أمر إسحق رابين رئيس الوزراء آنذاك بإقامة جنازة عسكرية لقاتلي اللورد موين، وتم دفن الرفات في مقابر خُصصت للمكرمين من قادة الاحتلال في قمة جبل هرتزل.
وبعد سنوات قليلة، أقامت حكومة الاحتلال أبنية فوق أراضي قرية دير ياسين، وأطلقت أسماء العصابات الإسرائيلية عليها، وسبق أن أسمَّاها المستوطنون اليهود “جفعات شاؤول” بعد احتلال فلسطين في 1948، فيما تواصل المؤسسات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية إخفاء تفاصيل المجزرة وطمس معالم القرية.
ما زالت أفكار “شتيرن” حاضرة بقوة في الأوساط اليهودية، ويشكل إرهابها إلهامًا للمستوطنين المتطرفين ضد الفلسطينيين، وتتصرف الحكومة اليمينية الحالية اليوم وكأن عصابة “شتيرن” لا تزال تقاتل، لكن لديها كل قوة المؤسسات والأجهزة الأمنية التي لم تكن متاحة للعصابة ذاتها.