وُلد سميح القاسم لعائلة فلسطينية في مدينة الزرقاء الأردنية يوم 11 مايو/ أيار 1939، وبعدها بسنتَين عاد مع عائلته إلى قرية الرامة شمال مدينة عكا الفلسطينية، حيث تعلم في مدارسها ومدارس الناصرة، وهناك بزغ نجم شاعر ثوري أبى أن يسكت إزاء ما يرى من اضطهاد وتنكيل بأهله الفلسطينيين.
ارتبطت أغلب قصائد “شاعر العرب الأكبر”، كما أطلق عليه الناقد المتوكل طه، بالقضية الفلسطينية والمعاناة والمقاومة والكفاح في سبيل التحرر الوطني من الاحتلال الصهيوني، وما أن بلغ الثلاثين من عمره حتى كان قد نشر 6 مجموعات شعرية، حازت على شهرة واسعة في العالم العربي الكبير.
دأب القاسم على نشر إنتاجه الأدبي في مطبوعات الحزب الشيوعي، كصحيفة “الاتحاد” ومجلتَي “الغد” و”الجديد”، كما أسّس منشورات “عربسك” في حيفا، وترأّس فخريًّا صحيفة “كل العرب” الصادرة في الناصرة، ورأس تحرير الفصلية الثقافية “إضاءات”.
سميح القاسم .. الارتباط بالوطن
“متنبي فلسطين”، هكذا وصفته الشاعرة الفلسطينية رقية زيدان، كما لُقّب القاسم بشاعر المقاومة الفلسطينية، وأيضًا شاعر القومية العربية، وشاعر الغضب الثوري، وشاعر الصراع، والشاعر القدّيس، وسيّد الأبجدية، وشاعر العروبة، وكلها ألقاب أطلقها عليه النقّاد باعتباره أحد رواد شعر المقاومة.
سمّى شاعر النضال ابنه البكر “وطن”، كي يبقى دائمًا مناديًا الوطن الساكن في جوارحه وعقله، فقد كان شديد التعلق بفلسطين الحبيبة، رغم المعاناة الشديدة التي واجهها خلال حياته بسبب الاحتلال الإسرائيلي.
حدّثنا سميح القاسم عن الوطن الذي تماهى معه حتى ذاب في تفاصيل حياته، من خلال مقاطع شعرية يتألف كل منها من عدد من الأبيات، تراوحت بين الشعر الحديث متعدد القوافي والوزن، وبين انعدام القافية أحيانًا، وبين قصائد نُظمت وفقًا للنمط الكلاسيكي وزنًا وقافية ودويًّا، فكان الوطن مبتدأ شعر القاسم ومنتهاه، ويظهر ذلك بقوله: “أنا بلادي بذار الحب حنطتها وزيت زيتونها مصباحه وطري.. وعشبها لغتي لو كابرت لغة ولو خبا قمر ليمونها قمري.. وغازلتها شعوب الأرض قاطبة لكنها أثرت عزفي على وتري”.
لم يتنازل ولم يغادر، إنما بقيَ “منتصب القامة، مرفوع الهامة” وشوكة في حلق المحتل، بقيَ هناك مقيمًا على نفسه عهدًا بالصمود والمقاومة والثبات، فقد حمل سميح القاسم – وهو من أبناء الطائفة الدرزية – قضية شعبه على كتفيه، وروحه على كفَّيه، وتعهّد بأن يبقى كالصبَّار في حلق العدو الصهيوني، نتيجة ذلك اُعتقل أكثر من مرة، كما وُضِعَ رهن الإقامة الجبرية والاعتقال المنزلي من قوات الاحتلال الإسرائيلي، وطُرد من عمله عدة مرات، وسخّروه للعمل في غرفة الموتى بمستشفى رمبام وفي الأشغال العامة بهدف كسر شموخه.
يذكر أن سميح القاسم قاوم التجنيد الذي فرضه الإسرائيليون على الطائفة الدرزية التي ينتمي إليها، وشكّل أول تنظيم سياسي يعارض تجنيد الشباب الدروز باسم الدروز الشباب الأحرار، فواجه تهديدات بالقتل، جعلت البعض يدعوه إلى مغادرة وطنه فلسطين، فرفض تركه للصهاينة.
وفي حوار له مع صحيفة “عمون” الأردنية نُشر بتاريخ 18 يونيو/ حزيران 2009، قال سميح القاسم: “جدّي مواليد سوريا وأبناء عمي يعيشون بلبنان، لكن الرامة بلدنا أبد الدهر وفلسطين وطننا وقصور العالم لا تكفيني بيتي الصغير في الجليل، فالبيت لا يعوّض”.
وعن ذلك يقول سميح القاسم أيضًا في قصيدة “انتظرني”: “عنقي على السكين يا وطني ولكني أقول لك: انتظرني ويداي خلف الظهر يا وطني مقيدتان ولكني أغني لك.. آه يا جرحي.. أغني.. أنا لم أخنك.. فلا تخني.. أنا لم أبعك.. فلا تبعني”.
الدفع إلى المقاومة الفعلية
ركب الطفل الصغير مع عائلته القطار عائدًا إلى وطنه، في أوج الحرب العالمية الثانية، وفي القطار بكى فذُعر ركّاب القطار خشية أن تهتدي إليهم الطائرات الألمانية، فهدّدوا بقتله وإسكاته إلى الأبد، لكن الطفل أقسم ألا يسكت أبدًا، فكتب:”حسنًا، لقد حاولوا إخراسي منذ الطفولة، سأريهم، سأتكلّم متى أشاء وفي أيّ وقت وبأعلى صوت، لن يقوى أحد على إسكاتي”.
لم يسكت سميح القاسم طيلة حياته وصدع صوته بالحق، ومع الانتفاضة الأولى للقدس سنة 1987 كتب القاسم “قصيدة الانتفاضة” المستوحاة من أطفال الانتفاضة الفلسطينية، عندما كانوا يملأون محافظهم بالحجارة ويرجمون الجنود الإسرائيليين، فقال:”تقدموا بناقلات جندكم وراجمات حقدكم وهددوا وشردوا ويتموا وهدموا لن تكسروا أعماقنا لن تهزموا أشواقنا نحن القضاء المبرم”.
استنهض القاسم في قصائده الفلسطيني المصادَر، وسار معه ودفعه إلى المقاومة الفعلية، والكفاح من أجل نصرة الوطن المغتصب، والدفاع عنه في وجه المحتل الصهيوني الذي لا يؤمن بالقانون ولا الحريات.
يقول سميح قاسم في قصيدة “30 آذار” ذكرى يوم الأرض: “آن يا أخوتي.. آن أن نبعث الثائر المصطفى.. آن أن تشهر الثورة الرمح والمُصحفا.. آن أن يعلم اللصُّ والقاتلُ.. أنَّه زائل.. زائل.. زائل”.
وهو اليوم الذي يعتبَر رمزًا للتشبُّث بالأرض والهوية والوطن، ويُحييه الفلسطينيون في 30 مارس/ آذار من كل سنة، وتَعود أحداثه إلى مارس/ آذار 1976، عندما هبَّ أهالي الجليل والمثلث والنقب احتجاجًا على قرار الاحتلال الإسرائيلي بمصادرة 21 ألف دونم من أراضي الجليل، واستشهد حينها 6 فلسطينيين وأُصيب واُعتقل المئات، وهي المرة الأولى التي ينظِّم فيها العرب في فلسطين منذ عام 1948 احتجاجات منظَّمة، ردًّا على السياسات الصهيونية بصفة جماعية وطنية فلسطينية.
الذاكرة الوطنية
لم يفصل القاسم في أشعاره بين القول ووطنه، كما لو كانت فلسطين مفتاح القول، حتى لامست قصائده القلب والفكر والروح، وتحولت القصيدة عند القاسم إلى ذاكرة وطنية من خلالها قدّم الرواية الفلسطينية، فكتب: “أحكي للعالم أحكي لَهْ عن بيتٍ كسروا قنديلَهْ عن فأسٍ قتَلَتْ زَنبقَةً وحَرِيقٍ أودى بجديلَهْ”.
ساغ “قنديل فلسطين” الوقائع والأحداث الوطنية التي مرّت بها فلسطين شعرًا، فكانت قصائده تأبى النسيان لجمال كلماتها وقوة بيانها، وارتباطها بأحداث عظيمة عاشتها البلاد، من ذلك قصائد “أطفال رفح”، و”كفر قاسم”، و”أطفال 1948″، و”رسالة من المعتقل” وغيرها الكثير.
يتحول الشعر عند سميح القاسم إلى أداة للتأريخ، يقوم بتسجيل الوقائع وتوثيق مجريات المجتمع الفلسطيني وأحداثه الاجتماعية، وما يتخلّله من تفاصيل، تحفظ ذاكرة الشعب الفلسطيني بمختلف تحولاتها الفكرية والسياسية، لمواجهة سعي الثقافة الإسرائيلية المؤدلجة بالصهيونية لطمس الوجود الثقافي العربي في فلسطين.
ذكّر سميح القاسم في قصائده الجماهيرية الفلسطينيين ببيوتهم المقوّضة، وأحلامهم القادمة، وجرائم الاحتلال الصهيوني والخذلان العربي، كما ذكّر العرب بوجع إخوانهم وكفاحهم لتحرير أرضهم، مستعينًا بكلمات وعبارات ملاصقة للواقع ومعبّرة عنه بعيدًا عن البلاغة الزائفة.
وتعرّض الفلسطينيون منذ عام النكبة وقبلها إلى محاولات مستمرة لمحو الذاكرة الوطنية، وغسل للدماغ وطمس للشخصية الثقافية، وإلغاء للّغة العربية الفصحى، حتى يستطيع المستوطن توطيد احتلالهم للأراضي الفلسطينية.
ارتباطها بالواقع جعل قصائد سميح القاسم تدخل القلوب والعقول وتحرك المشاعر، وتوقد نيران الانتفاضة في نفوس الفلسطينيين، وقد كان القاسم من مؤسِّسي أدب المقاومة، وله مسيرة بارزة في الكفاح والإبداع والحياة، وكل قصيدة له تمثّل لوحدها أيقونة وجزءًا من أدبيات القضية الفلسطينية، ومظهرًا من مظاهر النضال والمقاومة في سبيل التحرر.
ظلَّ سميح القاسم يغني منتظرًا فجر الحرية والتحرر، لكن وافته المنية قبل أن يعيش تحرر وطنه، إذ توفي يوم 19 أغسطس/ آب 2014 عن عمر ناهز 75 سنة، بعد صراع طويل مع مرض عضال، وشارك في جنازته الآلاف الذين رفعوا خلالها الأعلام الفلسطينية واستمعوا لأشعاره الوطنية، وترك القاسم أكثر من 60 كتابًا في الشعر والقصة والمسرح والترجمة، كما ترك بصماته على مرحلة مهمة في تاريخ الشعب الفلسطيني عقب النكبة.