شعب الكرد بلغتهم وثقافتهم من أقدم شعوب المنطقة حضارة وثقافة، ولقد لاقوا الكثير من المتاعب في سبيل ذلك، منّ الله على أكثرهم بالدخول إلى الإسلام فدخلوا فيه طواعية، وسجلت كتب التاريخ أن أول صحابي دخل عمق كردستان هو سيدنا عياض بن غنم القرشي في عهد عمر بن الخطاب، فكانوا خير جنود للخلافة الإسلامية في شتى عصورها، كان منهم العلماء والقادة، وما سجله التاريخ لهم من بطولات بصدهم هجمات الصليبيين والباطنيين بقيادة صلاح الدين الأيوبي، لهو خير دليل على إخلاصهم لدينهم.
يعتنق غالبية الأكراد الدين الإسلامي، وغالبيتهم من أتباع المذهب الشافعي، كما يوجد عدد من العشائر الكردية من أتباع المذهب الشيعي، ومع مرور الزمن دخلت عليهم أفكارًا شتى، لكن يبقى بينهم أصلًا وعاملًا واحدًا مشتركًا (عُجَرهم وبُجَرهم) وهي “القوميّة”، سبيلًا لإيجاد الدولة الكردية المنشودة.
محطات في تاريخ الكرد
من أهم وأبرز المحطات في تاريخ الكرد، والتي لم تكلل حتى الآن بوجود دولة كردية معترف بها دوليًا في المنطقة، بعد مرور كل هذا الزمن، والتي عانى خلالها الشعب الكردي بجميع طوائفه من الكثير من الصّعاب، ومن ثم أخمدت كل هذه التحركات الساعية لإيجاد وطن معترف به، وهي:
– اتفاقية “سايكس بيكو” والتي بموجبها تم تقسيم كردستان بين دول الجوار.
– معاهدة “لوزان” التي لم تذكر اسم الكرد واقتصرت على ذكر الحقوق الثقافية والدينية للأقليات.
– ظهور الكثير من الحركات الكردية على فترات متقاربة من الزمن في شتى مناطق كردستان، والتي كانت باستمرار تطالب بالحقوق الكردية، كان من أبرزها على سبيل المثال:
– حركة الشيخ محمود الحفيد سنة 1920 في السليمانية ضد الاحتلال البريطاني.
– حركة الشيخ سعد بيران 1925 – 1931 في تركيا.
– حركة البارزانيين لأحمد ومصطفى البارزاني 1930 – 1975 شمال العراق.
– إعلان جمهورية مهاباد 1946 غرب إيران.
– وأخيرًا وليس آخرًا، استفتاء أيلول/سبتمبر 2017 من قبل مسعود بارزاني، تمهيدًا لإعلان انفصال كردستان العراق.
القوميّة هي المحرك
وليست القومية بعيدة عن الأيدلوجية الفكرية للكرد، بل تعتبر المحرك الرئيسي والأساسي لجميع الكرد، سواء اليساري منهم أو الاشتراكي أو حتى الإسلامي، وليس ذلك عيبًا فحسب، بل العيب جعل تلك الحميّة والقوميّة فوق ما سواها من الأمور، ضاربة بكل شيء عرض الحائط ودون النظر لمآلات وعواقب الأمور.
البارزاني والإملاءات الخاسرة
أقدم رئيس حكومة إقليم كردستان العراق السيد مسعود بارزاني، بعد إملاءات من بعض الدول والتي من مصلحتها استمرار اشتعال المنطقة، على إعلان الاستفتاء في الوقت الحاليّ، غير ملزم في أيلول/سبتمبر2017، للسعي من خلاله إلى انفصال إقليم كردستان العراق، رغم التحديات التي تمر بها المنطقة من خطورة التقسيم والتجزئة والاحتلال، وعلى إثر إعلان هذا الاستفتاء، دخلت القضية الكردية مرة أخرى في أزمة كبيرة سواء من داخل الإقليم مع المعارضين أو من خارجه مع دول الجوار.
أكبر الخسائر التي مُني بها بارزاني من وجهة نظري خسارته لـ”تركيا” الحليف الاستراتيجي، هذا ما دعا السيد أردوغان بأن يصف ما أقدم عليه بارزاني، بمثابة خيانة
لقد لعب البارزاني قبيل الاستفتاء مع جميع طوائف الشعب الكردي حتى الإسلاميين منهم، على حبل “القوميّة” كي يصل إلى مآربه الخاصة، وذلك من خلال الموافقة على تمرير الاستفتاء تحت مظلة خدّاعة شعارها “إما مع التصويت لصالح الاستفتاء، وإما غير ذلك فتكون الخيانة”.
وقد حاول بهذه الخطوة أن يصنع لنفسه “تمثالًا” لدى الشعب الكردي، وأن يصنع ما لم يصنعه غيره للقضية الكردية، أو من وجهة نظر أخرى بأن يخوّل له الاستفتاء إن مرت الأمور بسلام، من اكتساب تأييد شعبي كردي يؤهله للاستمرار في حكم رئاسة الإقليم.
ما بعد الاستفتاء.. المكاسب والخسائر
رغم التحفظات الدولية والإقليمية وخاصة من دول الجوار (العراق وتركيا وإيران)، أصرّ البارزاني على المضي في الاستفتاء والتصويت لصالح انفصال إقليم كردستان العراق وإقامة الأفراح الغامرة وإعلانها، والتي لم يخفيها أحد من الكرد، اللّهم إلا فئة قليلة كانت متحفظة وفقط على توقيت الاستفتاء، وليس على الانفصال، وكانت متخوفة من وضع الإقليم وما سوف تؤول إليه الأمور بعد ذلك.
ولعلّ أكبر الخسائر التي مُني بها بارزاني من وجهة نظري خسارته لـ”تركيا” الحليف الاستراتيجي، هذا ما دعا السيد أردوغان بأن يصف ما أقدم عليه بارزاني بـ”الخيانة”.
ثم جاءت ردود الفعل قوية وفورية من دول الجوار باتخاذ بعض التدابير والإجراءات، لمواجهة خطر التقسيم وفرض بعض العقوبات، من إغلاق للمعابر وتحرك عسكري من الحكومة العراقية ومعها مليشيات الحشد الشعبي المدعوم إيرانيًا، بل والسيطرة على مناطق متنازع عليها بالاتفاق مع بعض القوى الكردية الأخرى أنصار طالباني على الدخول إليها دون مواجهات تذكر، وغيرها من المكاسب على الأرض لصالح الحكومة العراقية.
ما صنعه البارزاني لإرضاء غروره، مسح تاريخة بجرة قلم حتى بين الشعب الكردي نفسه، وأجبر تركيا بأن تتخلى عنه وتبحث عن غيره بديلًا
وتوالت الخسائر على الإقليم، إلى أن رضخ البارزاني للمطالب وعرض التفاوض وقبِل بإلغاء نتيجة الاستفتاء، مما وضع الشعب الكردي الذي صوت لصالح الانفصال في حالة “خيبة أمل كبرى” وتم كسر الحلم المنشود الذي يُراود الأكراد في إقامة دولة كردية مرة أخرى.
أصبح البارزاني وقتها في وضع لا يُحسد عليه أمام شعبه، وأصبح ينتظر مدد وعون الشركاء الذين أملوا عليه ماذا يفعل وكيف يتصرف، لكن لا فائدة، فأصبح حاله حينئذ يقول: “أكلت يوم أكل الثور الأبيض”.
أكلت يوم أكل الثور الأبيض
الحق يقال إن التعامل مع البارزاني وحزبه، كان من أفضل المكونات والقوى الكردية لتركيا الحليف، إذ كانت الأخيرة تعتبره “حليفًا استرتيجيًا” لمواجهة الحكومة العراقية الطائفية من جهة، وحزب العمال الكردستاني في المنطقة من جهة أخرى، لكن ما صنعه البارزاني لإرضاء غروره، مسح تاريخة بجرة قلم حتى بين الشعب الكردي نفسه، وأجبر تركيا بأن تتخلى عنه وتبحث عن غيره بديلًا.
ومن جانبها دعت بعض القوى الكردية المعارضة لإقالة البارزاني من منصبه كرئيس للإقليم، وحمّلته كل ما آلت إليه الأمور في الإقليم جراء هذا الاستفتاء، وفي هذا الصدد نقلت مجلة نيوزويك الأمريكية “أن توتر العلاقات بين بغداد وأربيل قد يؤدي إلى تنحية بارزاني من منصب رئيس الإقليم”.
الإقبال على مثل هذه الخطوة غير المدروسة، حطّمت معها آمال وطموحات الشعب الكردي، وتراجعت معها مؤشرات المطالبة بحقوق الأكراد في الإقليم إلى عهود مضت
وعلى مدار الساعة من المدولات التي عُقدت داخل أروقة الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم، لم يمض الكثير من الوقت حتى بعث بارزاني برسالة إلى البرلمان قال فيها: “أرفض الاستمرار في المنصب بعد 1 من نوفمبر/تشرين الثاني 2017″، وطالب أن يعقد البرلمان جلساته واجتماعاته في أقرب وقت، لملء الفراغ القانوني الذي قد يحدث في واجبات وسلطات رئيس الإقليم، وكذلك لحل هذا الموضوع بشكل كامل، على إثره وافق برلمان الإقليم على قرار نقل وتوزيع صلاحيات بارزاني إلى الحكومة والبرلمان والسلطة القضائية.
ويبقى القول بأن الإقبال على مثل هذه الخطوة غير المدروسة، حطّمت معها آمال وطموحات الشعب الكردي، وتراجعت معها مؤشرات المطالبة بحقوق الأكراد في الإقليم إلى عهود مضت، ولعل أبرز الأسئلة التي سوف تجيب عنها الأيام القادمة هي: من سيخلف بارزاني لرئاسة إقليم كردستان العراق خلال المرحلة القادمة ؟
لقد مرت القضية الكردية بمنعطفات تاريخية أصابها ما أصابها من إخفاقات، ومرت بسنوات طوال من الصراعات، وأنتجت خلالها محاولات مضنية لإقرار الوجود وحق المصير الكردي، وتحالفات مع هذا وذاك، وأيدلوجيات وأفكار شتى داخل البيت الواحد، وشعارات ونعرات قومية وتجاذبات سياسية وزيارات مكوكية دبلوماسية سواء كانت معلنة أو مخفية ووعود وإغراءات بالمكاسب الرمادية، لكن لا تزال القضية الكردية تحتاج إلى أُناس أكثر عقلانية.