لم تكفَّ حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة عن كشف التناقضات بين القول والممارسة التي يعاني منها العالم، بدءًا من دعوات نصرة غزة واقتصارها على دعوات دون إنفاذ فعل حقيقي، وليس انتهاءً بكبرى الألعاب السياسية التي تحاول الولايات المتحدة الأمريكية لعبها، من خلال إبداء قلقها المحدود على حياة المدنيين في حياة غزة وتوريدها الأسلحة لـ”إسرائيل” لمساعدتها في الإبادة.
آخر التناقضات كانت خطابات متلاحقة من عدد من الدول منها الأردن والولايات المتحدة، على ضرورة إدخال المساعدات إلى قطاع غزة، وتحوّل الأمر إلى إنزال صناديق شحيحة من المساعدات جوًّا، والبدء في تدشين الولايات المتحدة لميناء بحري مؤقت يكون ممرًّا للمساعدات وفق قولهم، لكن الغريب أن مصر التي شاركت بحلفة إسقاط المساعدات جوًّا، لديها حدود برّية بمعبر حدودي سيادي تتحكم فيه والفلسطينيون، دون وجود سيطرة للاحتلال كما يسيطر على الأجواء الفلسطينية.
ولو تجاوزنا أن المساعدات قتلت عددًا من الفلسطينيين أثناء سقوطها مباشرة فوق روؤسهم، وأن بعضها نزل في الأراضي المحتلة عام 1948 عند المستوطنين، وأن أخرى سقطت في البحر فظهر منظر الناس الجوعى المستعدين للغرق لأجل لقمة تسدّ ألم حصارهم العربي العالمي، لو تجاوزنا كلّ ذلك بدورنا، فإن العالم مُصرّ على تجاوز معبر رفح بين مصر وفلسطين كأنجع المنافذ لإدخال المساعدات، أي بكلمات أخرى يصرّ العالم على إيجاد بدائل خاطئة عن الخيار الصحيح: المساعدات البرية.
اجتياح رفح: البحث عن البدائل
يمكن أن نقرأ إصرار العالم على إيجاد بدائل للمساعدات البرية، بسيناريو اجتياح مدينة رفح آخر المدن الفلسطينية في القطاع التي لم يدخلها الاحتلال الإسرائيلي، والتي تجمّع فيها أكثر من مليون و400 ألف نازح، والأهم المدينة الحدودية التي تقع على طرفَيها معابر يمكن أن تدخلها المساعدات، على الحدود الشرقية مع الأراضي المحتلة حيث معبر كرم أبو سالم الذي تسيطر عليه “إسرائيل”، وتدخل المساعدات الإغاثية الدولية وفقًا لضغوط المفاوضات، والحدود الجنوبية حيث معبر رفح.
وعليه، إن بدء عدوان عسكري إسرائيلي برّي على مدينة رفح، يعني بالضرورة تعطيل هذين المعبرَين، وبالتالي تبدُّد أي إمكانية لدخول المساعدات برًّا إلى قطاع غزة، وهو ما يدفع الدول إلى إيجاد بدائل عن هذه المساعدات قبل الاجتياح من خلال المساعدات جوًّا أو بحرًا، مع الإشارة إلى أن ذلك لا يعني حرصًا يبديه العالم على الفلسطينيين في غزة، بل الخوف من أن تنقطع وسائل الضغط بأيديهم على الفلسطيني، وأن يفقدوا ورقة المساعدات وإدخالها كورقة قوة يمنحونها للاحتلال خلال مفاوضات وقف إطلاق النار.
من خلال الجو والبحر، يظنّ العالم والاحتلال أن باستطاعته إفقاد العناصر الأمنية الفلسطينية في القطاع جدوى وجودها، وإمكانية سيطرتها على الحالة ومنع تجمهر الناس، وتوزيع المساعدات بشكل عادل على العائلات
وقد يشكّل إيجاد البدائل حلًّا للاحتلال الإسرائيلي الذي تبدو رغبته حاضرة في إطالة أمد الحرب ورفض وقفها، وهو ما يتضح من خلال عدم القبول بأي عرض لوقف إطلاق نار شامل، بل سعيه لطرح عروض توقف الحرب لفترة مؤقتة، على أن يتم استكمالها بعملية برية واسعة النطاق في رفح ومخيمات الوسطى بقطاع غزة.
ويتمسّك الاحتلال الإسرائيلي بكل عرض لا يشمل وقف كامل لإطلاق النار، ويقبل بالعروض التي تطرحها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، والتي تؤدّي إلى وقف إطلاق نار لا يزيد عن 6 أو 8 أسابيع فقط، يتضمن استعادة الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة.
خلق حالة الفلتان
بشكل واضح، تعلن “إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية وأطراف أوروبية وعربية عن بحثها في اليوم التالي للحرب في قطاع غزة، من خلال القضاء على حركة حماس وحكمها في القطاع، بما يشمل دخول المساعدات عبر معبر رفح أو حتى شمال قطاع غزة، وقد ظهر بعد 6 أشهر من الحرب والتبجُّح الإسرائيلي “بالقضاء على حماس” في الشمال، أن الحكومة التي تنتمي إلى الحركة استطاعت السيطرة على المشهد، من خلال أجهزة الأمن والتفاف العشائر والعائلات حولها.
ويتضح هذا الأمر من خلال استهداف الاحتلال الإسرائيلي لطواقم الشرطة المدنية، التي كانت تتولى عملية تأمين الشاحنات المحمّلة بالمساعدات خلال عملية التوزيع الخاصة بها في مدينة رفح، ما تسبّب في استشهاد عدد من أفراد الأجهزة الأمنية، تبعه استهداف العميد فائق المبحوح الذي نظّم عملية إدخال المساعدات وتوزيعها في شمال قطاع غزة بمشاركة العشائر واللجان الشعبية، وخلق حالة منظَّمة على عكس “الفوضى” التي يريدها الاحتلال.
ومنذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة المتواصلة للشهر السادس، استشهد نحو 15 من قادة وعناصر الشرطة في مدينة رفح جرّاء غارات جوية إسرائيلية استهدفت سياراتهم الشخصية، وسيارات رسمية مميزة بألوان وعلامات الشرطة، تعمل على ضبط الحالة الأمنية وتأمين شاحنات المساعدات الواردة من معبر رفح البرّي مع مصر، وتضع أوساط فلسطينية هذا الاستهداف في سياق “مخطَّط ممنهَج”، هدفه إرباك الجبهة الداخلية وخلق حالة من الفوضى والفلتان الأمني تسعى إليها “إسرائيل”.
الجميع معنيّ باستمرار حالة الحرب في غزة، ووضع بدائل من شأنها إضعاف حكم حماس التي تدير شؤون أكثر من مليونَي نسمة منذ عام 2007
ويرى الاحتلال في عناصر الأجهزة الشرطية تابعين أو محسوبين على حركة حماس منذ عام 2007، حيث سبق أن استهدفهم عدة مرات كان أبرزها المجزرة التي افتتح بها حرب عام 2008-2009، والتي لقي فيها المئات مصرعهم جرّاء القصف الإسرائيلي، بعد استهداف مقر الشرطة في القصف الأول خلال تلك الحرب.
ومن خلال الجو والبحر، يظنّ العالم والاحتلال أن باستطاعته إفقاد العناصر الأمنية الفلسطينية في القطاع جدوى وجودها، وإمكانية سيطرتها على الحالة ومنع تجمهر الناس، وتوزيع المساعدات بشكل عادل على العائلات، حيث يبدو أنه راقَ للطائرات العربية والأمريكية المحلقة فوق قطاع غزة وهي تُسقط مساعداتها منظر الناس الجياع، وهي تحاول “إذلالهم” لأجل صندوق بائس.
والجانب الآخر لخلق حالة الفوضى هو الفارق الكبير بين كمّ حمولة المساعدات الداخلة برًّا وجوًّا وبحرًا إلى قطاع غزة، فمثلًا طائرة سي-30 التي انطلقت من الأردن في رحلة مدتها ساعتَين، كانت تحمل 3.2 أطنان فقط من المواد الغذائية، وهي بالكاد تكفي لإطعام 4 آلاف شخص وفقًا لصحيفة “وول ستريت جورنال”، على افتراض سقوطها بشكل صحيح، في حين يحتاج نحو 2.2 مليون نسمة في قطاع غزة إلى المساعدات الإنسانية، وللمقانة فإنّ حمولة شاحنة واحدة فقط تصل إلى 17 طنًّا.
حول ذلك، شددت 25 منظمة دولية عاملة في قطاع غزة على أنه لا يمكن للدول الاختباء وراء عمليات الإنزال الجوي، وجهود فتح ممر بحري للإيهام بأنها تفعل ما يكفي لدعم الاحتياجات الإنسانية في غزة، وأكّدت أن عمليات الإنزال الجوي للمساعدات لا تلبّي احتياجات القطاع، كما لا يمكنها إطعام وشفاء نحو مليونَين و300 ألف شخص يعيشون في حالة كارثية.
تجاوز حركة حماس
لا يمكن الفصل بين عمليات الاستهداف المتكررة والمتلاحقة لمنظّمي المساعدات البرية، بين جهود المساعدات البحرية والجوية، وبين الخطط الإسرائيلية الأمريكية العربية في تجاوز حركة حماس تمامًا، وعدم وجود أي دور لها يبقيها في دائرة المعادلة.
يسعى الاحتلال والولايات المتحدة إلى الاستعاضة عن حركة حماس، وعن “الأونروا” التي أبلغتها العشائر بشكل رسمي أن لا مساعدات إلا عبر التنسيق مع أمن غزة، فقابلها الاحتلال بقرار منع إدخال “الأونروا” للمساعدات إلى شمال القطاع، وإحلال لاعبين آخرين محليين مثل عائلات قد تتواصل مع الاحتلال، أو من خلال رئيس المخابرات في السلطة الفلسطينية ماجد فرج، أو مؤسسات دولية مثل شركات تأمين دخول المساعدات، وبالتالي تجاوز حركة حماس كسلطة على أرض الواقع.
لا تخفي هذه الأطراف رغبتها في وجود جسم بديل يدير حياة السكان، في ظل غياب السلطة الفلسطينية عن المشهد، وعدم وجود قوة تنحاز إلى صالح الاحتلال على أرض الواقع
يتضح أن الجميع معنيّ باستمرار حالة الحرب في غزة، ووضع بدائل من شأنها إضعاف حكم حماس التي تدير شؤون أكثر من مليونَي نسمة منذ عام 2007، وهو أمر يتحقق بإفراغها من أدوات القوة التي تمتلكها عبر المواجهة العسكرية أولًا، وثانيًا من خلال الملفات الحكومية التي تدير بها حياة السكان.
ولا تخفي هذه الأطراف رغبتها في وجود جسم بديل يدير حياة السكان، في ظل غياب السلطة الفلسطينية عن المشهد، وعدم وجود قوة تنحاز إلى صالح الاحتلال على أرض الواقع، من شأنها أن تساعد في توزيع المساعدات على السكان في مدينة غزة أو مناطق شمال القطاع.