السودان: ماذا يحدث في الجزيرة؟

ينفي قادة مليشيا الدعم السريع في السودان ضلوع أفرادها في ممارسة انتهاكات ضد المدنيين في ولاية الجزيرة جنوبي العاصمة الخرطوم، في الوقت الذي تمتلئ منصات التواصل الاجتماعي بمنشورات كثيرة عن الفظائع التي ترتكبها هذه القوات طيلة الأشهر المنصرمة، وصولًا إلى إطلاق وسم على هيئة استغاثة #انقذوا_ولاية_الجزيرة.

أدى التجاهل العالمي، وتراجع أزمة السودان في الأجندات الإعلامية، بالتزامن مع انقطاع خدمة الاتصالات والإنترنت عن ولاية الجزيرة التي اجتاحتها مليشيا الدعم السريع عقب عملية انسحاب مفاجئ للجيش السوداني في 18 ديسمبر/كانون الأول العام الماضي، إلى غياب الحقائق وانتشار الشائعات والمعلومات المضللة، مع زيادة ملحوظة في وتيرة النشر الموجهة لخدمة أطراف النزاع.

بناءً على هذه الظروف، سيكون هذا التقرير بمثابة شهادة مطولة من صحفي عايش كل تلك الأهوال، قبل خروجه في رحلة محفوفة بالمخاطر، ليحكي قصة الجزيرة.

أهمية ولاية الجزيرة

تقع الجزيرة في قلب السودان، وتبرز على نحو خاص في السياقات الاقتصادية، حيث تحتضن أكبر مشروعات الري المروي بإفريقيا، ما أهلها لأن تكون سلة غذاء البلاد.

انتظم شباب القرى في دوريات يمتشق أفرادها العصي والهراوات، ضمن محاولات يائسة لوقف التفلتات الأمنية، ويعتمد تكتيك الشباب على الحشد، حيث يتنادى الأهالي عبر الصافرات ومكبرات المساجد

عقب اندلاع الصراع الدموي على السلطة بين الجيش والدعم السريع، بدايةً من 15 أبريل/نيسان العام الماضي، تحولت الولاية المتاخمة للخرطوم، إلى وجهة مفضلة للفارين من أتون الحرب في العاصمة، وتقدر إحصائيات أممية النازحين للولاية بـ300 ألف نسمة، استقر معظمهم في حاضرة الولاية، مدينة ود مدني.

بُعيد ساعاتٍ من اجتياح عاصمة الولاية في 18 ديسمبر/كانون الأول 2023، توغلت قوات الدعم السريع في أنحاء الولاية المختلفة باستثناء مدينة المناقل وضواحيها (غربيّ الولاية) التي ما زالت تحت سيطرة الجيش، وعليه، خيمت حالة من الكآبة المشوبة بالخوف بين أهالي الولاية، حيث يعيش الناس أيامًا عصيبة إزاء ما يمكن توصيفه بأنه أكبر عملية احتجاز جماعي في التاريخ المحلي.

سلسلة جرائم

وسط غياب تام لكل مظاهر الدولة، مارس عناصر المليشيا والمتحالفين معهم عمليات نهب واسعة للأعيان المدنية، شمل ذلك المقار الحكومية ومراكز الشرطة والبنوك والمصارف، وصولًا إلى الأسواق والمحال التجارية.

وفي القرى المنثورة غربيّ ضفة النيل الأزرق، حيث تنعدم كل المظاهر العسكرية، واصلت المليشيا نهجها المعتاد في اقتحام منازل المواطنين بحثًا عن السيارات، ولاحقًا المحاصيل والمدخرات وصولًا إلى الأثاث المنزلي، ويجري التسويق لتلك الهجمات بأن أصحاب هذه الأموال إما موالون لنظام الرئيس المعزول عمر البشير (يونيو/حزيران 1989 – أبريل/نيسان 2019)، وإما ناشطون في المؤسسات العسكرية.

ومن أسباب زيادة الانتهاكات، استعانة المليشيا بالأطفال مع وجود عدد من المرتزقة المنتمين لدول غرب إفريقيا أو المنحدرين من الهضبة الإثيوبية، علاوة على أصحاب الجنسيات الليبية واليمنية.

بعد تنامي الهجمات والاقتحامات، انتظم شباب القرى في دوريات يمتشق أفرادها العصي والهراوات، ضمن محاولات يائسة لوقف التفلتات الأمنية، ويعتمد تكتيك الشباب على الحشد، حيث يتنادى الأهالي عبر الصافرات ومكبرات المساجد مع كل محاولة اقتحام، لتشكيل حاجز لمنع المسلحين من دخول المنازل والمتاجر، وإن نجح ذلك في حمل المهاجمين تارات على الانسحاب خشية المذابح، فإنه يفشل في تارات أخرى جراء العنف الشديد الذي ينتهي بسقوط مصابين وأحيانًا قتلى في أوساط المدنيين. وتؤكد مراصد حقوقية، سقوط 248 قتيلًا بالولاية، خلال الـ90 يومًا الأخيرة.

من الحوادث التي كنت شاهدًا عليها، إطلاق الرصاص الحي على تجمع للأهالي الساعين لحماية منزل أحد كبار تجار قريتهم من محاولة لنهب منزله تحت تهديد السلاح.

اعتقال وتجنيد

لا توجد تقديرات دقيقة لأعداد المعتقلين في يد الدعم السريع بالجزيرة، لكن شهود عيان أكدوا أن مصنع سور بمدينة الحصاحيصا يضم في ثناياه مئات المعتقلين في ظروف بالغة القسوة، تشمل التكدس والتجويع والتعرض المستمر لمختلف وسائل التعذيب بما في ذلك الضرب المبرح. ورصدنا إطلاق سراح معتقلين بعد دفع ذويهم فدية مالية ضخمة.

في سياق متصل، تستخدم المليشيا كرتيّ الإغراء والترهيب لحمل الشباب على الانضمام إلى صفوفها، فتعد المنضمين بالغنائم وتوفير الحماية لأهاليهم، بينما تفرض الحصار والتجويع والغرامات على القرى التي ترفض تجنيد شبابها أسوة بما جرى في قرية الولي قُبيل أيامٍ.

مع مرور الأيام، وتزايد وتيرة الانتهاكات حدث أمران مهمان: الأول هو توسع عمليات النهب لتشمل المحاصيل والهواتف النقالة والأموال وحتى السيارات التي تعاني من أعطابٍ، أما الثاني وهو امتداد للأول فتمثل في ما بدا أنه انحناء قادة المليشيا للضغوط الممارسة عليهم بضرورة وقف تصرفات جنودهم بحق المدنيين، ما اضطرهم إلى نصب ارتكازات في عدد من القرى بزعم حماية أهلها من المتفلتين والعامدين إلى تشويه صورة الدعم السريع.

ومع وجود تحسن نسبي في الوضع الأمني بالقرى التي شهدت وجودًا منظمًا للمليشيا، فإن بقية القرى سجلت فظائع ترقى إلى جرائم الحرب، تشمل القتل والنهب والاغتصاب والتهجير القسري. وفي الآونة الأخيرة زادت وتيرة الفرار من الجزيرة بشكل ملحوظ، ويظهر ذلك في عدم قدرة وسائل النقل على استيعاب حركة المسافرين.

الاقتصاد والصحة: ملامح الحياة اليومية اختفت

يمكن القول بيقين شبه تام، إن عجلة الاقتصاد توقفت بشكل كامل في ولاية الجزيرة، فقد تعطل دولاب العمل بالقطاعين العام والخاص، وأغلقت الأسواق الكبرى أبوابها وهي الوجهة الرئيسية لمنتجات القرى، بعدما طالتها أعمال السلب والتخريب، إلا من أنشطة هامشية وبيع للمنهوبات.

فيما يخص الزراعة، يشكو المزارعون من عدم توافر المدخلات (التقاوي والأسمدة)، وتوقف الآليات الزراعية – خاصة الحاصدات – مخافة تعرضها للنهب، وسط صعوبات جمّة في الحركة والنقل، بالإضافة إلى الضرائب العشوائية التي تفرضها الدعم السريع على كل المحاصيل.

وبداهةً فقد أدى توقف النشاط التجاري والزراعي، وعمليات سرقة المحاصيل، وشح السيولة النقدية، إلى سيادة حالة من الكساد غير المسبوق في ظل بوادر مجاعة تتهدد واحدًا من أغنى الأقاليم السودانية.

وفاقم غياب الاتصالات من أزمات الأهالي الاقتصادية، فقد أدى إلى توقف التطبيقات البنكية، للحؤول دون استلام التحويلات المالية الواصلة من الأهل والأصدقاء.

باتت العربات التي تجرها البغال وسيلة النقل الرئيسية بعد توقف أصحاب المركبات عن الحركة خشية النهب والضرائب

وقبل مغادرة محطة الاقتصاد، تلزمنا الإشارة إلى استغلال المليشيا لانقطاع خدمات الاتصال والإنترنت، لتوفير مصادر دخل جديدة لها، من خلال توفير الإنترنت الفضائي للجمهور بمقابل مادي يصل يتراوح بين 3 – 5 آلاف جنيه (2.5 – 4.5 دولار) للساعة الواحدة.

كما يلجأ أفراد المليشيا للربا، بتحويل مدخرات المواطنين البنكية إلى سيولة نقدية، مقابل استقطاعات تصل أحيانًا إلى 30% من جملة التحاويل، وتتنامى الدعوات بضرورة توخي الحذر في مسألة تسييل الأموال، نتيجة دخول كميات كبيرة من العملات المزيفة للولاية.

بعد 18 ديسمبر/كانون الأول العام الماضي، خرجت معظم المرافق الصحية عن الخدمة بما فيها التي تقدم الخدمات المنقذة للحياة (مراكز علاج السرطان وغسيل الكلى، إلخ).

لا تنتهي مآسي المرضى عند هذا الحد، فتمتد لتشمل صعوبات كبيرة في الوصول إلى المشافي القليلة التي ما زالت تقدم خدماتها، وباتت العربات التي تجرها البغال وسيلة النقل الرئيسية بعد توقف أصحاب المركبات عن الحركة خشية النهب والضرائب، هذا بالإضافة إلى انعدام الأدوية المنقذة للحياة، والمستهلكات الطبية، وحتى السيولة النقدية لمواجهة تكاليف العلاج المتزايدة.

توقف كثير من المرضى بما في ذلك أصحاب الأمراض المزمنة عن تلقي جرعات العلاج، وفي أحسن الأحوال الاستعاضة عنها بالأعشاب والطب البديل، فيما يسارع ميسورو الحال إلى إخراج مرضاهم من الولاية بصورة عاجلة. ومن دون إحصائيات دقيقة، رصد “نون بوست” تسجيل عدة وفيات في أوساط مرضى السكر والكلى والنساء الحوامل.

خروج غير آمن

الخارج من ولاية الجزيرة نحو الولايات المجاورة، سيقطع طرقًا تستغرق في الأحوال العادية ساعتين إلى ثلاث ساعات في يومٍ كامل أو نصفه بأحسن الأحوال، حيث نصبت قوات الدعم السريع عشرات نقاط التفتيش، وفي طريق الحصاحيصا – القضارف رصدنا قرابة 20 ارتكازًا، يتم فيها تفتيش المسافرين والتأكد من هوياتهم، وسط استفزازات وتحرشات كبيرة، مع مطالبة أصحاب المركبات بدفع مبالغ طائلة للمرور.

ويجري اتهام المسافرين، لا سيما الشباب بأنهم مستنفرون جرى تجنيدهم للقتال في صفوف الجيش، ويتم اعتقال كل من يشتبه فيه، وكل من يبدي اعتراضًا على نهج الجنود الغليظ.

في ظل تمسك الجيش بالخيار العسكري كخيار أوحد للتعاطي مع الدعم السريع، وضربه طوقًا أمنيًا حول ولاية الجزيرة على أمل استعادتها قريبًا، فإن على المواطن هناك أن يتهيأ لدفع فاتورة وضعه مع جنود المليشيا في ذات المصيدة.