لقد قالوا عن البيروقراطية أنها آلة عملاقة يديرها الأقزام، وأن الشيء الوحيد الذي يحمينا منها هو أننا لسنا على المقدار الكافي من الكفاءة على كل حال، كانت تلك هي الثقافة السائدة في القرن الثامن عشر وبدايات التاسع عشر، ذلك عقب الثورة الصناعية وتوسع البشرية في الاعتماد على الماكينة، في الوقت الذي كانت فيه البيروقراطية حجر الأساس لتكوين ما يُعرف الآن باسم المنظمات أو المؤسسات.
تتسم البيروقراطية بثلاثة سمات أساسية، وهي التسلسل الهرمي، التخصص، والرسمية، وتكون الخيار الأفضل بالنسبة للمؤسسات التي تعتمد على الروتين في أداء مهامها اليومية، أو المؤسسات التي ترغب في إبقاء العلاقات بين زملاء العمل هادئة و متزنة في حدود إطار واضح من المهمات الروتينية، كان ذلك ناجحًا في وقت كانت فيه المتغيرات محدودة وذات إيقاع بطيئ، ولكن السؤال الأهم بالنسبة لعلم الإدارة الحديث هو هل تحرم البيروقراطية البشر من إنسانيتهم في العمل؟
لا يمكن تشويه صورة البيروقراطية بشكل كامل ولا تحسين صورة المؤسسات المرنة التي لا تحتوي على تسلسل هرمي روتيني بشكل كامل أيضًا، إلا أن علم الإدارة الحديثة يطرح جدلية البيروقراطية بشكل واضح على أنها إحدى معوقات الإدارة المبدعة بشكل واضح بسبب هوسها بضبط إيقاع العمل بغض النظر عن النتيجة أو الجودة.
تهتم البيروقراطية بإيقاع العمل المنضبط، حيث يأتي في المرتبة الأولى، ليحل في المرتبة الثانية تطلعات ومبادرات الأفراد، فترى أن مفتاح النجاح هو التسلسل الهرمي في المؤسسة، وتفترض أن منظمي إيقاع العمل في مرتبة أعلى من العاملين أنفسهم، وتفترض أن المنظمات التي لا تتبع نظامًا من القواعد المحددة تفشل حتمًا.
إن كانت هناك بعض المؤسسات العريقة الناجحة التي تهيمن على بعض الصناعات في بعض المجالات وسر نجاحها هو الالتزام بإيقاع العمل المنضبط في منظومة البيروقراطية الخاصة بها، فهناك أيضًا بعض المؤسسات الناجحة التي كان سر نجاحها الأكثر تأثيرًا هو التخلص من كل آثار البيروقراطية في منظومة العمل، إليك من استطاعوا هزيمة البيروقراطية في مؤسساتهم.
“يبقى مجانين العظمة وحدهم على قيد الحياة”
يتحدث في كتابه (Only The Paranoids Survive) أو “يبقى مجانين العظمة وحدهم على قيد الحياة” آندي غروف الرئيس التنفيذي لأكثر الشركات نجاحًا في مجال التكنولوجيا، شركة إنتل، عن ما يمكن أن تفعله الشركات كي تحقق الخلود في مجال صناعتهم هو اختيار من بين اثنين للتكيّف مع المتغيرات، إما أن تختار الشركة التكيف السهل وهو اتباع التعليمات والقوانين ضمن إيقاع العمل للتكيف مع المتغيرات بأقل خسائر وليس بالضرورة لتحقيق مزيدًا من الأرباح، أو أن تختار الشركة أن تكون مرنة مع المتغيرات وهو ما يتطلبها أحيانًا أن تقوم بتغيير القواعد بشكل جذري قد يُحتم عليها تغيير مجال الصناعة الخاص بالشركة كليًا.
هناك أيضًا بعض المؤسسات الناجحة التي كان سر نجاحها الأكثر تأثيرًا هو التخلص من كل آثار البيروقراطية في منظومة العمل
لم يكن حديث غروف عن تغيير القواعد بشكل جذري، والتعامل مع المتغيرات في البيئة المحيطة على أنها متغيرات جذرية من فراغ، حيث مرّت شركة إنتل تحت إدارة آندي غروف بالنوع الثاني من المتغيرات، والذي حتّم عليه أن يتعامل معها مُختارًا الحل الثاني المذكور سابقًا، وهو تغيير القواعد كليًا والاستعداد للمغامرة بأسلوب غير اعتيادي في فن الإدارة، يسميه “غروف” بـ “نقطة الانعطاف الاستراتيجية”، بعدما تم سحب السوق منها أكثر من مرة لصالح المنافسين، لينتهي بها المطاف بواحدة من أضخم الشركات في العالم حتى الآن.
بيكسار: حينما يكون الكل رئيسًا
مقر شركة بيكسار
ربما قد سمعت عبارة أن السفينة التي لها أكثر من رئيس تغرق حتمًا، هكذا أيضًا المؤسسات التي تتبع الإدارة البيروقراطية، لا تحتمل أن يكون هناك تسلسل هرمي أفقي الشكل، ولا تفضل اللامركزية، بل تفضل التسلسل الهرمي رأسي الشكل حيث تتركز السلطة في قمة الهرم وتتدرج من أعلى إلى أسفل، ولكن هل سألت نفسك من قبل، ماذا سيحدث لو صار الكل رئيسًا؟ تسائلت شركة “Pixar” نفس السؤال، ولم تكن الإجابة مرعبة كما تتخيل.
تتبع شركة “بيكسار” ثقافة معينة داخل إطار العمل، فهي تُقدر الحديث الصادق، ربما يبدو هذا ساذجًا بعض الشيء، إلا أنه لا يُتبع في كثير من المؤسسات بسبب صعوبة تطبيق
تعتبر شركة “بيكسار”، شركة إنتاج أفلام الرسوم المتحركة”، من أكثر الشركات التي لا تتبع التسلسل الهرمي على الإطلاق، حيث مكاتب المدراء من أسهل المكاتب التي تصل إليها في الشركة، كما ستجد مكاتبهم مليئة بالشخصيات الكرتونية، وستجدهم يتحدثون إليك بشكل ودي وهم يعدون القهوة لأنفسهم.
تتبع شركة “بيكسار” ثقافة معينة داخل إطار العمل، فهي تُقدر الحديث الصادق، ربما يبدو هذا ساذجًا بعض الشيء، إلا أنه لا يُتبع في كثير من المؤسسات بسبب صعوبة تطبيقه، إلا أن “بيكسار” تقدر الحديث الصادق وهذا يعني عدم خوف الموظفين من الحديث عن أي أفكار تخطر ببالهم حتى ولو كانت غبية أو غير اعتيادية، كما أن لديهم الحرية الكافية من التعبير عن نقدهم في العمل بطلاقة عن طريق وضع الغرور والاعتزاز بالنفس جانبًا حينما ينتقد أي منهم عمل الآخر في اجتماعات تطلق عليها بيكسار اسم “اجتماعات المساحة الآمنة” “safe zone” meetings، هذا ما تعتبره بيكسار جوهر الثقافة الخاصة بالشركة.
نيتفليكس: سر النجاح المستمر لأجيال
“أن تسعى من أجل مصلحة نيتفليكس، وليس لمصلحتك أو مصلحة فريقك” هذا هو إحدى الشعارات المهمة في فلسفة شركة نيتفليكس إحدى شركات رواد التكنولوجيا في السنوات الأخيرة، وهذه الفلسفة تضمن أن يضع الموظف غروره على جنب حينما يحاول أن يعمل لمصلحة الشركة، بحيث يكون أكثر صراحة وتعاونًا مع زملائه.
الانتقاد أمر عادي في فلسفة الشركة، على ألا يعتبره الموظف بمثابة حرب في الآراء السياسية، كما أن التجديد في نمط العمل واجب على كل فرد، على أن يثبت ذلك التجديد فائدته للمصلحة العامة للشركة، وكل فرد مجبور على ضمان سير العمل بأكثر طريقة مبسطة وعليه أن يبعد عن التعقيدات، حيث لا يكون مكان العمل الرائع بسبب تصميمه الجيد أو قهوته المجانية جيدة المذاق، بل يكون رائعًا إن كان من فيه أفراد يستحقون الاحترام والعمل معهم.
“أن تسعى من أجل مصلحة نيتفليكس، وليس لمصلحتك أو مصلحة فريقك”
تُقدر نيتفليكس الصراحة الكاملة بين الموظفين وبعضهم وبين الموظفين والمدراء، لدرجة أن في التعليمات العامة في ثقافة الشركة أن من الطبيعي أن يأتي الموظف للمدير ويسأله ماذا سيحدث إن أخبرتك أنني أفكر في ترك الشركة قريبًا، ما الذي ستفعله لتجعلني أبقى!
Airbnb وأكثر المقرات راحة للموظفين
مقر الشركة في سان فرانسيسكو
تحتل راحة الموظفين في شركة airbnb المرتبة الأولى في نمط عمل ثقافة الشركة، وهذا يعني أن مبادراتهم وأفكارهم تأتي في المقام الأول، وهذا ما تطلب من الشركة حينما قررت أن تصمم مقر شركة airbnb في سان فرانسيسكو أن تدعو المصممين لمكتب الشركة وأن تجعلهم جزءًا من إطار العمل العام لمدة أربعة شهور.
كان الهدف هو أن يفهم المصممين طبيعة موظفي الشركة، وأن يشاركوهم نشاطاتهم اليومية لمدة أربعة شهور كاملة، وعلى أساسه يكونوا هم أيضًا جزءًا من ثقافة شركة airbnb، ولهذا كان تصميم مقر الشركة في سان فرانسيسكو رائعًا، حيث لا يُعتبر مكانًا رسميًا للعمل بطابعه المألوف من المكاتب و أجهزة الحاسوب، بل يبدو وكأن غرفة الاجتماعات جزءًا من غرفة المعيشة لدى منزل أحد الموظفين، ويبدو المطبخ وكأنه جزء من منزل كبير وليس مطبخ شركة، ذلك لأن الشركة تُقدر الثقافة أكثر من البيروقراطية، وتعمل على البحث عن كل ما يحفز الموظفين على العمل بدلًا من حرمانهم من إنسانيتهم بمجموعة من القوانين.
تحتل راحة الموظفين في شركة airbnb المرتبة الأولى في نمط عمل ثقافة الشركة، وهذا يعني أن مبادراتهم وأفكارهم تأتي في المقام الأول
الأمر لا يقتصر على تغيير تصميم مقر الشركة، أو كيفية جعل الموظفين أكثر سعادة، بل يعتمد على تحديد أكثر نموذج مناسب تتبعه الشركة من أجل مصلحتها أولًا بما يتضمنه ذلك من مصلحة الموظفين، وهذا يعتمد في الأساس على قدرة الشركة على توظيف أفضل الأفراد الملائمين لنموذج عملها سواء كان يتبع نظام بيروقراطي تقليدي أو يحاول بشكل ما محو آثار البيروقراطية فيه.