مهرجانات التمور تمنح الحياة لمحافظات الجنوب التونسي

زغاريد هنا وهناك، سيارات رباعية الدفع ممتلئة بصناديق بلاستيكية حمراء وصفراء اللون ذات أحجام مختلفة اكتظت بها الطرقات الضيقة داخل أحياء المدن والقرى، أعمدة دخان تتصاعد من واحات الجهة، الجميع يسارع الخطى كأنه يسابق الوقت، هذا حال الجنوب التونسي هذه الأيام، منذ انطلاق موسم جني التمور هناك. موسم، ينتظره سكان محافظتي قبلي وتوزر جنوب تونس، تتحول أثناءه مظاهر البؤس وفقدان الأمل التي تلازم سكان الجهة طوال السنة إلى مظاهر فرح وأمل واستبشار، خاصة وأن كميات التمور التي توفر لتونس عائدات مالية هامة، حققت هذه السنة تطورا مهما من حيث الكمية والجودة.
في هذا الموسم، تتحول مناطق الجنوب الغربي التونسي إلى خلية نحل ومهرجانات فرح، فالجميع، الفلاحون وأصحاب بساتين النخيل وأهل المنطقة، يتوجهون بعد راحة دامت لأشهر إلى واحات النخيل حيث الخير الوفير، في هذا التقرير، ترافق “نون بوست” أربعة من المزارعين يعملون على جني التمور في إحدى واحات قرية بشري التابعة لمحافظة قبلي جنوب البلاد، حيث أشجار النخيل الباسقات الشامخات والسواقي الجارية.
التجمّع في المقاهي
عند الساعة الثامنة صباحا بتوقيت غرينتش، السابعة بالتوقيت تونس، وصل “علي” المشرف على المجموعة إلى إحدى مقاهي قرية “بشري” التي تحدّت طبيعة الصحراء وقساوته بواحاتها الغناء ونخيلها الباسقة الشاهقة، بدأ “علي” في احتساء فنجان القهوة الذي كان في انتظاره بيد النادل، ببطء، ينتظر وصول باقي زملائه واكتمال المجموعة للذهاب إلى عملهم.
في تلك الأثناء، امتلئ المقهى بالشباب الذي يترشف قهوة الصباح ويتبادل أطراف الحديث في نفس الوقت قبل الذهاب إلى الواحة لجني التمور، وما هي إلا دقائق حتى وصل زياد وقليعي ووليد، والتحقوا بالطاولة التي يجلس فيها “علي”، جلس الأربعة بعض الدقائق حتى انتهوا من ترشّف فناجين القهوة، ثمّ خرجوا من هناك والتحقوا بالسيارة التي كانت أمام المقهى في انتظارهم، متوجّهين إلى إحدى الواحات التي تبعد عن القرية أقل من كيلومترين.
عند الوصول هناك، فرش “القليعي” غطاء بلاستيكيا كبيرا لوضع عراجين التمر فوقه حتى لا تلتصق بالتربة والعشب، فيما توجّه “زياد” إلى وسط الواحة وأشعل قليلا من الحطب اليابس لطهي الشاي الذي لا يستقيم العمل دونه، وغير بعيد منه وقف “علي” يرتّب صناديق التمر التي يأتي بها “وليد” من السيارة، ثمّ بدأ العمل.
بداية العمل
أخذ “علي” عدّته وصعد إلى النخلة الأولى، ووقف “زياد” أسفل النخلة يأخذ العراجين التي يقصّها “علي”، ثمّ يتوجّه بها إلى الغطاء البلاستيك لوضعها هناك، أين ينتظره “القليعي” و”وليد” لترصيف تمرها في الصناديق المعدّة للغرض لتصديرها أو بيعها في الأسواق الدّاخلية. ووفقا لإحصائيات رسمية، من المنتظر أن تكون صابة التمور لهذا الموسم في تونس “قياسية”، إذ يتوقّع أن يتطور إنتاج التمور بنسبة 26.3 % مقارنة بالموسم الماضي ليصل إلى 305.251 ألف طن مقابل 241.666 ألف طن خلال موسم 2017/2016.
نفس المشهد يتواصل طوال اليوم، علي فوق النخل يقص العراجين، زياد يأخذها إلى الغطاء البلاستيكي حيث ينتظره القليعي ووليد يرصفها في الصناديق، وبين الفترة والأخرى يتوقف الأربعة عن العمل لترشّف كأس من الشاي الأخضر الذي أشرف زياد على تجهيزه وصوت القهقهات تتعالى في استراحة يرتفع فيها الطرب والفرح بينهم.
رزق وفير
يعتبر قطاع التمور، أهمّ ثروة لأهالي الجنوب التونسي منه يقتاتون ويعيشون، حيث يوفر القطاع مليوني يوم عمل ومورد رزق لأكثر من 50 ألف عائلة في أربع محافظات جنوب البلاد هي: “قبلي” و”توزر” و”قابس” و”قفصة”، حسب بيانات رسمية.
وتعتبر تونس من بين الدول العشر الأوائل المنتجة للتمور، حسب المنظمة العالمية للتغذية والزراعة، فيما تصنّف أوّل مصدّر للتمور في العالم من حيث القيمة المالية وأول مزوّد لأوروبا، حيث تمّ تسجيل ارتفاع بنسبة 21 % في قيمة صادرات التمور، قبل أسبوع من انتهاء موسم التصدير 2016/2017، وبلغت كمية التمور المصدرة 109 طن بقيمة 565 مليون دينار، وفق بلاغ لوزارة الفلاحة.
ويعد المغرب الوجهة الأولى لصادرات التمور التونسية بأكثر من 29.6 ألف طن منذ بداية الموسم (01 أكتوبر 2016) إلى غاية شهر سبتمبر الماضي، حسب معطيات لوزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري التونسية، تليه فرنسا بـ 7.2 ألف طن ثم ايطاليا بـ 5.8 ألف طن فإسبانيا وماليزيا وإندونيسيا والولايات المتحدة الأمريكية بكميات متقاربة تفوق أربعة آلاف طن.
واحات غناء
إلى جانب مشهد العمّال، وكأنهم خليّة نحل، يشدّ انتباهك وأنت في واحات الجنوب التونسي ذلك البساط الأخضر الكثيف والعيون الطبيعية الجارية، ومنظر أشجار النخيل الباسقة التي تسبح أغصانها في الفضاء، وتمتشق قامتها لتقف رمزاً للنبل والصمود والتحدي، تصارع قسوة الصحراء والكثبان العاتية، والرمال الممتدة، والصخور الكبيرة. وتبلغ مساحة الواحات التونسية أكثر من 40 ألف هكتار فيها قرابة 5.4 مليون نخلة منها 3.55 مليون نخلة من الأصناف الجيدة لإنتاج التمور، وتعتبر واحات “نفزاوة” و”الجريد” أهم الواحات المنتجة للتمور التونسية الجيدة، حيث تنتج واحات منطقة “نفزاوة” (محافظة قبلي) قرابة 60% من الإنتاج التونسي، وتأتي واحات الجريد (محافظة توزر) في المرتبة الثانية، ثم تأتي واحات أخرى أقل أهمية بمحافظات قفصة وقابس وتطاوين.
ويقسم سكان الواحات مياه الريّ بنظام صارم ظلوا يحترمونه جيلاً بعد جيل. ويتم توزيع المياه عن طريق قنوات تجعل الواحة أشبه بأرض تتقاطع فيها الأنهار الصغيرة، فكل فلاح يحق له الحصول على الماء بشكل دوري، وفي اليوم المحدد لسقياه يقوم بإغلاق الحاجز بين القناة وحقل جاره، ليفتح المجرى الذي يصل حقله بالقناة.
وتوجد في واحات الجنوب التونسي العشرات من أنواع التمور مختلفة الجودة، التي ما تنفك تعطي ثمراً يسمن ويغني من الجوع ويعود بالمال على الجيوب، تتصدرها الدقلة المعروفة تجاريا بدقلة النور التي تجد إقبالا كثيفا في الأسواق العالمية في كل أوقات السنة، أمّا بقية الأنواع (الفطيمي، لخــوات، الحمراية، القصبي، الكنتة…) فلا تكاد تعرف خارج مناطق الواحات كونها لا تروّج ولا تستهلك إلا محليا أو أن إنتاجها قليل.