ما بدأ فعليًأ كوسيلة تواصل، أصبح لاحقًا وسيلةً أساسيّةً في تعزيز الأنا عند الأفراد وتضخيمها والتركيز عليها بشتى الطرق والوسائل، فالكثير من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي هم ثلّة أشخاص يبحثون عن الاهتمام وجذب الانتباه بشكلٍ مفرط يكاد في كثيرٍ من الأحيان يصل لدرجة الهوس والخلل النفسيّ، وليس بعيدًا عن ذلك الخبر المتداول في هذه الأيام عن السوريّ محمد بايزيد، الذي فبرك موضوع اغتياله في إسطنبول، في سبيل الحصول على الشهرة وتسليط الضوء على نفسه وفيلمه الذي يزعم.
العديد من الدراسات والأبحاث في السنوات القليلة الأخيرة سلطت الضوء على الرابط بين استخدام مواقع التواصل الاجتماعي والكثير من المشكلات النفسية مثل الأنانية والنرجسية والأنا المضخّمة وخلق هويّات مزيفة وحياة غير واقعية وغيرها الكثير، فما الذي يدفع مستخدمي تلك المواقع لذلك؟
مبدئيًّا، يفتقر الكثيرون منهم لشيءٍ ما في حياتهم الحقيقية سواء على المستوى الشخصيّ أو على مستوى العلاقة العاطفية أو العملية أو الاجتماعية، لذلك فإنّهم يبحثون عن طريقة تجعلهم يعيشون ما يفتقرون إليه ويعجزون عن تحقيقه والتعويض عن أوجه القصور التي يواجهونها في ذواتهم وحياتهم الشخصية من خلال خلق صورةٍ منمّقة عن أنفسهم على تلك المواقع.
يعمل فيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي على تشجيع الأفراد للوصول إلى ذواتهم المتخيلة بطرقٍ غير صحية ترتبط بشكلٍ مباشر بالعديد من الاضطرابات النفسية والعقلية
وفقًا للكثير من علماء النفس، تنشطر الذات الفرديّة إلى نوعين مختلفين؛ “الذات الحاليّة” و”الذات المتخيّلة” أو ما قد تُسمّى أحيانًأ “الذات الممكنة”، وهي التي يسعى كلّ فردٍ إليها ويحلم أن يكون عليها، كما يسعى الأفراد لتقليص الفجوة بين الذاتين المختلفتين بطرقٍ مختلفة، ليصبحوا أقرب لذواتهم المتخيلة.
على مستوىً شخصيّ، يعمل فيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي على تشجيع الأفراد للوصول إلى ذواتهم المتخيلة بطرقٍ غير صحية ترتبط بشكلٍ مباشر بالعديد من الاضطرابات النفسية والعقلية، التي قد تكون بالنهاية أسبابًا أو نتائج لاستخدام تلك المواقع بتلك الطرق، مثل ادّعاء شخصية ما، أو نسب صفةٍ وتعريفٍ ما كأنْ يسمّي نفسه كاتبًا أو أديبًا أو صانع أفلام أو خبيرًا نفسيًّا، وهو لا يمتَ لتلك المجالات بأيّ صلةٍ كانت.
ينمّي أولئك الأفراد شعورًا نرجسيًّا كبيرًا يدفعهم أكثر فأكثر للظهور خاصّة بعد التمام آلاف أو مئات الآلاف من المتابعين أو الجمهور، الذين يصبحون شيئًا فشيئًا أشبه بالقطيع لهم، يصدّقون كلّ ما يكتبون وينبهرون بهم وبصورهم وبحياتهم، ثمّ يبدأون بحسدهم أو تمنّي ما هو عندهم.
أزواج السوشيال ميديا: حبٌّ حقيقيّ أم زيفٌ كبير؟
قد يكثر الحديث عن الأسباب والنتائج فيما وراء مشاركة الأزواج والشركاء العاطفيين لصورهم وتفاصيل حياتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، وينحصر الموضوع في سؤالٍ أساسيّ مهمٍ وكبير: هل ما ينشرونه حقيقيٌّ أم خداعٌ ظاهر؟
غالباً ما يسعى الأزواج الذين يشاركون أكثر من غيرهم تفاصيل حياتهم على وسائل التواصل الاجتماعيّ إلى إعادة الطمأنينة وخلق الأمان حول علاقتهم من تفاعل الآخرين معهم وردودهم عليهم. فيمكن للإعجابات والتعليقات أن تخلق جانبًا زائفًا من الرضا والثقة بالنفس وبالعلاقة وبالشريك في نفوسهم.
ووفقًا لإحدى الدراسات الحديثة، وجد باحثون من جامعة نورث وسترن الأمريكية أنّ أولئك الذين ينشرون كثيرًا عن أنفسهم وعلاقاتهم على وسائل التواصل الاجتماعية، يشعرون في الواقع بعدم الأمان في علاقاتهم ومن مشاعر شركائهم تجاههم، فعندما كان الأشخاص المشاركون بالدراسة يشعرون بعدم الأمان والتأكد حول مشاعر شريكهم، كانوا يميلون إلى جعل علاقاتهم ظاهرة للآخرين في فيسبوك أو انستجرام.
وبكلماتٍ أخرى، فإنهم من خلال نشر صورهم وتفاصيل حياتهم يحاولون إقناع الآخرين بعلاقتهم الصحية غير أنهم بالأصل وبشكلٍ لا واعٍ يسعون لإقناع أنفسهم بذلك، إنها حيلة لإقناع الجميع بحبّهم وانسجامهم لكنها في الحقيقة مجرّد وسيلة لخداع أنفسهم في التفكير بأنهم سعداء ويشكّلون ثنائيًّا رائعًا مختلفًا عن البقية.
رفع الصور على الفور في انستجرام وفيسبوك يسرق من الأشخاص اللحظات التي يمضونها معًا، وبالتالي يجعلهم الأمر أبعد ما يكونون عن عيش اللحظة معًا والاستمتاع بها كما يجب
يغلب في منشورات أولئك الأشخاص استخدامهم تعريفات مثل “رجلي” و”بطلي” و”أميري” أو الصيغة المؤنثة منها، الأمر الذي قد يكون ما هو إلا دليلٌ على حبّ الاستحواذ واستعراض الملكية للعلن، أيْ أنَّ كلّ كلمة من تلك الكلمة تبطن خلفها رسالةً ضمنية بأنّني أملك ما لا يمتلكه أحدٌ آخر، وأنّ ما امتلكه نفسَه ليس كمثله أحد، فزوجي مميز لإنه زوجي ولأنه لي ولأنني أميرته.
عندما تكون سعيدًا أو حزينًا، لن ترغب بتشتيت انتباهك
هذا صحيح! فأنتَ في لحظات سعادتك الخفيفة أو أوقات حزنك العميقة أو حالات خوفك الشديد، لن تكون في نفسيّةٍ سويّةٍ تسمح لكَ بأن تشارك شيئًا ولو كان ضئيلًا على مواقع التواصل الاجتماعي، نظرًا لأنّ اللحظة الراهنة أقوى من كلّ شيءٍ آخر يُحيط بك. فرغبتك بالاستمتاع مع شريكك أو حزنك معه أو منه، أو خوفك عليه، ستبقى في داخلك أو تشاركها معه هو، أو تشاركها بعد انقضائها على تلك المواقع، إلا إنْ كانت غير حقيقية.
رفع الصور على الفور في انستجرام وفيسبوك يسرق من الأشخاص اللحظات التي يمضونها معًا، وبالتالي يجعلهم الأمر أبعد ما يكونون عن عيش اللحظة معًا والاستمتاع بها كما يجب، لا سيّما أنّ الأمر لا يتوقف فقط على وضع الصور وحسب وإنما متابعة التفاعل معها والردّ عليه وعلى التعليقات، وهلمّ جرًّا.
وجد باحثون من جامعة نورث وسترن الأمريكية أنّ أولئك الذين ينشرون كثيرًا عن أنفسهم وعلاقاتهم على وسائل التواصل الاجتماعية، يشعرون في الواقع بعدم الأمان في علاقاتهم ومن مشاعر شركائهم تجاههم
يصبح الأمر بناءً على ذلك مبنيّ على السعادة البحتة والتباهي بالعلاقة فقط، وبالتالي يصير الظهور والاستعراض أمام الآخرين هو العلامة الوحيدة والدليل القويّ على صحة العلاقة، وغيابه أو خفة وتيرته قد يصبح عندهم علامةً لاختفاء الحبّ وضعف العلاقة، والأمر قد يصل لاعتقادهم ذلك أيضًا حيال أولئك الذين يشاركون شيئًا عن أنفسهم، فهم بالنسبة لهم أزواج تعيسون أو غير متفقين وإلا لماذا لا ينشرون صورهم ومواقف حياتهم ويشاركونها مع الآخرين؟
وبطبيعة الحال، هذا كله بمثابة تذكير بأنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ لا تعكس الحياة الحقيقية والواقع. ففي حين أنّ زوجين قد ينشران صورة شخصية فاتنة الجمال تظهر حبّهما وانسجامهما، إلا أنّكَ لا تعرف أبدًا ما يجري وراء الأبواب المغلقة، أو شاشات الكمبيوتر والهواتف.