في الـ5 من يونيو الماضي، اندلعت أعنف أزمة يمكن تصور تداعياتها بين البلدان العربية وليس فقط الخليجية، بعدما قررت أربع دول عربية هي السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة والبحرين قطع وشائج القربى مع قطر، وفرض عقوبات وجودية تستهدف اقتلاع نظامها السياسي وليس فقط معاقبته سياسيًا واقتصاديًا.
وبعيدًا عن مصر التي لا تلتحف بمظلة السياج الحامي لمجلس التعاون الخليجي، كانت الأزمة كاشفة عن حجم الدور الضئيل الذي يلعبه المجلس في الأزمات المفصلية بين بلدانه، خصوصًا أن حصار قطر والسعي لتغيير نظام الحكم وإن كان الأكثر فجاجة في الخصومة بين أعضائه، إلا أنه لم يكن أول الاختبارات الكاشفة عن “مارد من ورق” لا يجيد وقت الخلافات الطاحنة إلا الاستدارة الإجبارية والسباحة في الرمل.
الحرب العراقية الإيرانية.. أول اختبار مزعج لـ”التعاون الخليجي”
في يوم خريفي معتدل من شهر نوفمبر عام 1981، جرى إعلان إنشاء مجلس التعاون الخليجي، كانت فوبيا تمدد الثورة الإسلامية الإيرانية إلى البلدان الخليجية المجاورة لها، هاجسًا تتزايد نزعاته لتوحيد دول الخليج ضد الرغبات التوسعية التي تقرها أدبيات وأفكار الخميني، فيلسوف ومؤسس الجمهورية الإيرانية.
مع بداية تدشين المجلس كانت الحرب العراقية الإيرانية أول اختبار كاشف له، فلم يكن قد مضى على اندلاعها إلا تسعة أشهر فقط، لذا اهتم مؤتمر القمة الأولى لدول مجلس التعاون الخليجي الذي انعقد في أبو ظبي، بالحرب المشتعلة، وأكد البيان الختامي السعي إلى وقف هذه الحرب بوصفها من المشاكل التي تهدد أمن المنطقة.
وضح جليًا من البيان أن الخلافات والمصالح والتربيطات حسب طبيعة كل دولة وحساباتها، هي اللغة الأعلى صوتًا من البوق الكلي لمجلس التعاون، وسجلت الكواليس والشواهد على الأرض، كيف لعبت المصالح الاقتصادية والعلاقات الممتدة لبعض دول المجلس وخصوصًا الإمارات التي يربط بين إمارتيها دبي والشارقة تاريخ طويل من العلاقات مع إيران، فضلاً عن الخوف الذي سيطر على حكام الدولة الخليجية من قدرة دول المجلس مجتمعة على مواجهة الانتقام الإيراني حال الاستمرار في دعم العراق عسكريًا واقتصاديًا لسحق الجمهورية الفارسية.
تزامن رفض الإمارات المطالبة بإعادة الجزر المحتلة لمحاصرة إيران دوليًا مع رفض سلطنة عمان الدعوة إلى مقاطعة إيران وعزلها دبلوماسيًا خلال اجتماعات المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية عام 1987
ورغم دعم مجلس التعاون للعراق ضد إيران بـ200 مليار دولار، والمساهمات الفردية للسعودية والكويت عبر 300.000 برميل نفط يوميًا لتعويض العراق عن تراجع إنتاجه النفطي، بسبب الدمار الذي لحق بحقوله ومنشآته النفطية، وبناء خط أنابيب قادر على نقل 1.5 مليون برميل نفط يوميًا يصب في ميناء ينبع على الساحل السعودي في البحر الأحمر، فإن كل هذه الأموال لم تمنع من تطور موقف دول مجلس التعاون الخليجي خلال سنوات الحرب 1980 ـ 1988 مع مجريات الحرب، فكلما زاد تأثير خطرها على أمن هذه الدول ومصالحها، ازدادت ردود فعلها السياسية والدبلوماسية.
كان نظام صدام حسين الرئيس العراقي الأسبق، يعي جيدًا ما يدار خلف الغرف المغلقة والحسابات السياسية التي تجمع بعض دول المجلس بإيران، وتبلور ذلك في رد فعل العراق الساخط على الاجتماعات الاستثنائية للمجلس الوزاري لمجلس التعاون في 1982، وهاجم طه ياسين رمضان النائب الأول لرئيس الوزراء حينها ما آلت إليه هذه الاجتماعات، خصوصًا أنه طالب بإثارة قضية الجزر الثلاثة التي احتلتهم إيران في 30 من نوفمبر عام 1971 وقبل أيام من إعلان استقلال الإمارات العربية المتحدة في 2 من ديسمبر 1971، إلا أن الإمارات نفسها رفضت الطلب العراقي.
تزامن رفض الإمارات المطالبة بإعادة الجزر المحتلة لمحاصرة إيران دوليًا مع رفض سلطنة عمان الدعوة إلى مقاطعة إيران وعزلها دبلوماسيًا خلال اجتماعات المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية عام 1987، كما رفضت السلطنة أيضًا السماح للعراق باستخدام أراضيها أو تقديم تسهيلات عسكرية في شن هجمات على الجزر الثلاثة أو مشاركة العراق التخطيط في مثل هذه الهجمات، وهي القرارات التي لم تحد من نجاحات صدام حسين على جبهات القتال والذي استطاع تحرير شبه جزيرة الفاو في 1987، بل وقصف الجيش العراقي المدن الإيرانية بصواريخ بعيدة المدى بما فيها العاصمة طهران، ولم تكن إيران وقتها تستطيع الرد في ظل عدم امتلاكها العدد الكافي من الصواريخ أو الخبرة اللازمة.
القصف العراقي لطهران ترك أثرًا معنويًا وسياسيًا كبيرًا، فنظام صدام من ناحية عزل العاصمة الإيرانية عن باقي الجمهورية الإسلامية، مما خلف تاثيرات اقتصادية ونفسية بعيدة المدى، كما كشف أيضًا عن حجم قوته في مقابل مجلس دول الخليج مجتمعة، وفضح هشاشة مجلس التعاون الخليجي وعدم قدرته على اتخاذ موقف موحد، أو إجبار الدول الخاضعة له على الالتزام بقراراته.
ذهبت السوق الواحدة أدراج الرياح، لم تكتمل أيضًا فكرة إنشاء اتحاد جمركي التي ظلت المشاورات بشأنه مستمرة 18 عامًا من تأسيس المجلس
ظلت تداعيات الحرب العراقية الإيرانية، وتأثيراتها السياسية قائمة لفترات طويلة، وكان للإمارات وسلطنة عمان نصيب الأسد من الانتقادات بسبب الزيارات الكثيرة المتبادلة بين المسؤولين من كلا البلدين مع إيران طوال حربها مع العراق، وحتى تخمد روح الفتنة خرج وقتها الأمين العام المساعد للشؤون السياسية في المجلس سيف بن هاشل المسكري لتبرير الزيارات بين إيران وبعض الدول الأعضاء، وأوضح أنها كانت تهدف لإنهاء الحرب وتخفيف التوتر في المنطقة.
حاول المسكري توصيف الدور الحقيقي للمجلس أمام الجميع حتى تبقى الأمور واضحة، وقال إن التعاون الخليجي لا يخرج عن كونه طابعًا تعاونيًا وتنسيقًا مشتركًا في مواقف سياسية، وهذا لا يمنع أن تكون لكل دولة اجتهاداتها ووجهات نظرها في كيفية معالجة الأمور، وهو التصريح الذي يوضح استنساخ تجربة جامعة الدول العربية في العمل الجماعي المشترك بكل مساوئها، فهي الأخرى لا تأخذ قرارًا وليس لها أدنى تأثير سياسي في القضايا الإقليمية أو الدولية، بسبب مثل هذه الافتراضات التي لا مثيل لها في العالم.
سوق وعملة واحدة.. لمن؟
كانت اتفاقية السوق الواحدة التي جرى توقيعها عام 2008، لعمل نوع من التكامل الكامل بين أسواق دول الخليج كاملاً، برهانًا قويًا على فشل المجلس، فرغم قوة المشروع، فإن الأزمة العالمية التي اندلعت في نفس العام وتركت بصماتها على الاقتصاد الخليجي، جعلت كل دولة تهرول لسن برامج منفصلة للنجاة من الأزمة رغم اتفاقها سابقًا على توقيع الاتفاقات ككتلة، وبدأت مسيرة مخالفة بروتكول التعاون من السعودية التي عقدت اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي لتسويق منتجات المملكة من البتروكيماويات إلى الأسواق الأوروبية.
وردت عليها الإمارات العربية المتحدة بتوقيع اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة بشكل منفرد، ليضيع حلم المشروع التكاملي لمواجهة الأزمة العالمية والتي مرت دون أن تترك تأثيرًا واضحًا يمنع إعادة تدوير أفكار الشراكة بين دول الخليج، إلا أن انعدام الرغبة السياسة وسيطرة النزاعات على مستقبل أي مشروع طموح في المنطقة وخصوصًا بين العرب وبعضهم البعض أدى إلى تأجيل المشروع للأبد.
أصرت جميع الدول على تعيين مندوب عنها للمنصب، ولكن ثقافة الأخ الأكبر حكمت النزاع في النهاية، واستطاعت السعودية تغليب رأيها وتم تعيين الأمين العام من أبنائها
وكما ذهبت السوق الواحدة أدراج الرياح، لم تكتمل أيضًا فكرة إنشاء اتحاد جمركي التى ظلت المشاورات بشأنه مستمرة 18 عامًا من تأسيس المجلس، ووضعت أولى تصورات العمل بالمشروع عام 2003، ولأسباب غير مقنعة لم تمض الفكرة إلى مساراتها التي استهلكت كل هذا الوقت لإنجازها، وبنفس المقاسات لم تنته أيضًا إشكالية صك عملة موحدة على غرار اليورو، بسبب الخلافات التي أخذت طابعًا قبليًا سيطر على بدايات ونهايات التفاهمات، وانشطر المجلس لجبهتي موافقة وممانعة، حيث دعمتها السعودية البحرين وقطر الكويت، بينما وقف التوجس الإماراتي والرفض العماني ندًا حاسمًا أمام التعامل وفق منطق ومفاهيم الكبير والصغير التي فرضت نفسها على الاقتصاد كما في السياسة لتقف في النهاية حائلاً أمام إتمام الإنجاز.
ولم تفلح 3 سنوات من النقاش والتشاورات الدائمة في وضع حد لهذا للخلاف عم اسم العملة الموحدة وشكلها وقيمتها، لتأخذ في النهاية مكانها الطبيعي في الأدراج المغلقة.
في ميثاق مجلس التعاون.. الأخ الأكبر يراقبكم
واجه المجلس مساوئ ثقافة القبيلة في أغلب أزماته سواء فيما يتعلق بالطموحات الاقتصادية وتوسيع نفوذ المجلس أو في القضايا السياسية التي فرضت نفسها على البلدان العربية منذ مطلع عام 2011، وسيطرت روح الانغلاق والرغبة في تنقية العرق الخليجي على محاولات بعض الأعضاء لتوسيع المجلس وإعطائه قوة إضافية عبر ضم الأدرن والمغرب إلى عضوية المجلس، وتمسكت كل من الإمارات وعمان برفض انضمام الدولتين، في حين رحبت الكويت بالمقترح بدعم مباشر من السعودية.
دب الخلاف بين الجميع بشأن أغلب الملفات المفتوحة، في اليمن وسوريا ومصر والعلاقة مع إيران التي تدعمها سلطنة عمان بشدة وتدفع في اتجاه تعزيزها وتميل إلى هذا الطرح إمارة قطر
كما أدى الخلاف الظاهر والمعلن عن شخص أمين عام مجلس التعاون إلى تعقد المزاج السياسي وشيوع حالة من الإحباط بين الأعضاء، ولم تفلح محاولات بعض الدول لإزكاء اعتبارات منطقية وتغليب معايير الكفاءة في الترشح للمنصب، وكان واضحًا إصرار جميع الدول على تعيين مندوب عنها للمنصب، ولكن ثقافة الأخ الأكبر حكمت النزاع في النهاية، واستطاعت السعودية تغليب رأيها وتعيين الأمين العام من أبنائها.
بنفس المقاربة عالجت دول المجلس مواقفها من الأزمات الإقليمية بعد ثورات الربيع العربي، وأثرت هذه الخلافات ورغبة كل طرف على تغليب رأيه على دعم جماعات غير سلمية على الأرض، وتورطت بعض بلدان المجلس في دعم حركات متطرفة، وهي “الذلة” التي أقحم بها كل طرف الآخر بعد أزمة حصار قطر الأخيرة، وانكشف المستور عن بصمات الأصابع الخليجية في تزكية الصراعات والحروب الأهلية في البلدان العربية، بسبب رغبة هذا أو ذاك في تشكيل الدول العربية الكبرى ما بعد الثورات وفق مصالحه ورؤاه الأيدلوجية والسياسة.
دب الخلاف بين الجميع بشأن أغلب الملفات المفتوحة، في اليمن وسوريا ومصر والعلاقة مع إيران التي تدعمها سلطنة عمان بشدة وتدفع في اتجاه تعزيزها وتميل إلى هذا الطرح إمارة قطر، بينما تأخذ الكويت موقفًا محايدًا، فيما تعلن السعودية والإمارات مواقف متشددة تجاه الدولة الفارسية ومن يؤيد خطوات التقارب معها.
دعم الإسلام السياسي.. هذا فراق بيني وبينكم
قبل عامين من الآن، اندلعت أزمة كبرى تسببت في إرباك مجلس التعاون بسبب سحب كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين سفرائها من الدوحة، وهو الحدث الأول من نوعه على مر العلاقات الخليجية، وكان علامة فارقة في طبيعة الخلافات بين دول المجلس.
كانت المخاوف المحتملة من إيران والعراق خلف تدشين المجلس عام 1981، ومن وقتها لم تختلف هذه الأسباب كثيرًا عن المخاوف الحالية من شيوع الإرهاب وتمدد تنظيم داعش إلا داخل الأراضي الخليجية
يمكن القول إن هذه الأزمة مثلت بداية التهديد الحقيقي للعمل الخليجي المشترك، خصوصًا بعد الزوابع التي أثارتها أزمة سحب السفراء لأول مرة في تاريخ الخليج، والتساؤلات التي فرضت نفسها بسبب إحساس الدول الخليجية الكبرى بتغير موازين القوى في المنطقة، وظهور قطر بقوة غير مسبوقة جعلتها تتمسك بمواقفها حتى عاد السفراء إلى الدوحة دون تحقيق أي شرط من التي تم الاتقاق عليها فيما عرف بـ”اتفاق الرياض الأول” والذي لم تعلن تفاصيله كاملة إلا بعد الأزمة الثانية مع قطر والتي لجأت فيها دول التحالف الخليجي لأساليب جديدة من نوعها لتحجيم الدوحة وإبقائها خارج الصورة والقرار الإقليمي والدولي.
مثّل دعم الدوحة لتيار الإسلام السياسي في عدد من دول الربيع العربي، خصوصًا الإخوان المسلمين التي استفادت من هذه الثورات وتمكنت من الفوز في غالبية الانتخابات التي جرت في بلدان الربيع العربي بعد نجاح الثورات في اقتلاع الأنظمة الاستبداية بالمنطقة، تهديدًا استراتيجيًا للأنظمة العتيقة في الخليج، مما حملها على مواجهة الثورات العربية لتغيير بوصلتها السياسية، وإعادتها إلى مربع الأنظمة العسكرية القريبة من الأنظمة الملكية، والتفرغ بعد ذلك لمعاقبة قطر التي تمسكت بدعمها اللامحدود لتيارات الإسلام السياسي، وبشكل خاص في مصر.
ظلت المنابر الإعلامية القطرية مفتوحة للإخوان المسلمين، ولم تلق الدوحة بالاً للضغوط التي حاولت دول التحالف من خلالها فرض تصورات وأجندة سياسية على الأداء القطري بما يتسق مع مصالح الأنظمة الخليجية التي وحدتها من جديد مخاوف الإرهاب والتهديدات الأمنية التي كانت على مدى التاريخ العامل المشترك الذي يجمع دول مجلس التعاون الخليجي على مائدة واحدة، دون النظر إلى الخلافات القائمة بينهم.
لا توجد محكمة خليجية أو سياسات هيكلية تسعى إلى جعل التعاون الخليجي بعيدًا عن أهواء القادة
كانت المخاوف المحتملة من إيران والعراق خلف تدشين المجلس عام 1981، ومن وقتها لم تختلف هذه الأسباب كثيرًا عن المخاوف الحالية من شيوع الإرهاب وتمدد تنظيم داعش إلا داخل الأراضي الخليجية، والزحف الإخواني الذي أخذ شكلاً ديمقراطيًا بعد الربيع العربي، بما كان يهدد شرعية هذه النظم.
ورغم التوحد الفيزيائي بين دول الخليج، ووحدة الأهداف العامة وتقاسم مربعات الخطر، فإن آلية حل النزاعات بين الدول الأعضاء ما زالت معطلة أو غير موجودة من الأساس، بما يحول بين تطور مجلس التعاون إلى مؤسسة قوية، تعتمد الآليات العصرية في حل الخلافات بين أعضائه، فلا توجد محكمة خليجية أو سياسات هيكلية تسعى إلى جعل التعاون الخليجي بعيدًا عن أهواء القادة، يحكم بالنظم والقوانين والتشريعات بما يعبر في النهاية عن صوت المواطن الخليجي، وهو ما لا يمكن حدوثه، فالمواطن الخليجي نموذج للمواطن العربي وكلاهما إما أن يذعن بشكل كامل للأخ الأكبر ويتمسك بالسلم أو يركب الخطر ويعرض نفسه وأهله لأوجاع المرحلة.