في سابقة خطيرة في تونس، هددت النقابات الأمنية برفع الحماية الأمنية عن نواب البرلمان ورؤساء الأحزاب الممثلة في مجلس نواب الشعب، في حال لم يتم عرض مشروع قانون زجر الاعتداءات على القوات الحاملة للسلاح أمام أنظار النواب في جلسة عامة في ظرف 15 يومًا، الأمر الذي خلف استهجانًا كبيرًا من الرأي العام التونسي، وأعاد إلى الواجهة مسألة الهدف من وجود هذه النقابات الأمنية التي ما فتئت تثبت في كل مرة تغولها على الدولة، حتى باتت بلا حسيب ولا رقيب حسب منتقديها.
تهديد لمؤسسات الدولة
مباشرة إثر عملية الطعن التي نفذها أحد الإرهابيين وراح ضحيتها رائد بشرطة المرور التونسية، الأربعاء، أمام مقر مجلس نواب الشعب، أصدرت النقابات الأمنية في تونس بيانًا تمهل فيه البرلمان أسبوعين فقط لمناقشة مشروع قانون زجر الاعتداءات على القوات الحاملة للسلاح، وإلا ستعمد النقابات إلى “الإذن لمنخرطيها برفع الحماية الأمنية عن النواب ورؤساء الأحزاب الممثلة في البرلمان”.
تسعى النقابات الأمنية من خلال هذا البيان حسب عديد من السياسيين، إلى فرض إملاءاتها على مؤسسات الدولة
بيان النقابات الأمنية، فُهم على كونه تهديدًا لسلامة أمن البلاد وتمردًا على الدولة يضاف إلى سلسلة من التهديدات السابقة التي أصدرتها هذه النقابات ونفذت بعضها دون محاسبة القائمين عليها لتجاوزهم القانون والأعراف المتفق عليها في البلاد، مما يؤكد تغول هذه النقابات، وتسعى النقابات الأمنية من خلال هذا البيان حسب عديد من السياسيين، إلى فرض إملاءاتها على مؤسسات الدولة وتقزيم عملها أو حتى إلغاء وجودها وأخذ دور بعضها، ولا يتجاوز عدد النواب المهددين بالاغتيال والمتمتعين بحماية أمنية العشرة نواب، على رأسهم رئيس البرلمان محمد الناصر ونائبيه، والنائب عن حركة النهضة (أمينها العام) علي العريض.
مأسسة الإفلات من العقاب
مشروع القانون الذي تسعى النقابات الأمنية للمصادقة عليه وفرضه على التونسيين، يواجه رفضًا وتنديدًا كبيرًا من المجتمع المدني والإعلام وبعض الأحزاب السياسية، منذ عرضه في أبريل/نيسان 2015 من حكومة الحبيب الصيد السابقة، نتيجة تخوفهم من عودة أساليب التضييق القديمة على الحريات، وضرب المكاسب التي جاء بها دستور الجمهورية الثانية في حال إقراره من البرلمان، ويرى فيه عديد من الحقوقيين “مرحلة خطيرة نحو مأسسة الإفلات من العقاب في القطاع الأمني التونسي”.
وينص مشروع هذا القانون على توفير حماية خاصة للأمنيين وعائلاتهم وممتلكاتهم ومقارهم ووسائل عملهم والتجهيزات الموضوعة تحت تصرفهم، ويتضمن 20 بندًا تتضمن أحكامًا وعقوبات جزائية تصل إلى حدود 20 عامًا، ومخالفات مالية تصل إلى 50 ألف دولار للمخالفين، وتتراوح التهم بين تهديد الأمنيين أو أحد أفراد عائلاتهم أو الاعتداء عليهم أو على مقرات عملهم ومحلات سكنهم، في المقابل يرفع مشروع القانون أي مسؤولية جزائية عن أعوان الأمن في حالات القتل والاعتداء في أثناء أدائهم مهامهم.
احتجاجات لأمنيين تونسيين أمام قصر الرئاسة
ويحتوي مشروع هذا القانون، حسب العديد من المنظمات الحقوقية التونسية والدولية، بنودًا تمثل خطرًا على الحقوق والحريات، وتعطي نفوذًا مفرطًا لقوات الأمن لا تتماشى مع دستور البلاد، وسبق أن حذرت منظمة العفو الدولية في يوليو الماضي من مشروع هذا القانون الذي سيجيز استخدام الأمن غير المبرر للقوة القاتلة حتى في حال عدم تعريض حياة الغير للخطر، إذ إن الفصل 18 منه ألغى أي مسؤولية جزائية على عون القوات المسلحة إن بادر بأي فعل أو رد فعل نتج عنه موت أو إصابة مواطن/معتدي لدى محاولته الاعتداء على العون أو على المقرات الأمنية على معنى الفصول 13 و14و16 من مشروع القانون.
مشروع القانون وإن كان مقصده المعلن حماية عون الأمن أو العسكري وغيرهما من العاملين في القوات الحاملة للسلاح من الاعتداء، فإنه ووفقًا لمضمونه الحالي المعروض في البرلمان لا يهدف إلى زجر الاعتداء وإنما تحصين ردود فعل أعوان القوات المسلحة وبشكل أساسي الأمنيين، كما أنه ينازع السلطة القضائية دورها وصلاحيتها وينسف مفهوم “الدفاع عن النفس”، حسب خبراء.
وسبق أن أكدت منظمة “هيومن رايتس واتش” أن المنظومة القانونية التونسية لا تشكو من أي فراغ تشريعي مثلما يدعي المدافعون على مشروع هذا القانون، حيث يحمي القانون بالفعل كل أعوان القوات المسلحة في تونس وموظفي الدولة بصفة عامة، إلى جانب ذلك طالبت النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين مباشرة بعد إقرار حكومة الحبيب الصيد لمشروع هذا القانون، الحكومة بـ”السحب الفوري” لمشروع القانون لأنه يؤسس لدولة ديكتاتورية بوليسية ويستهدف حرية الصحافة والتعبير الوليدة في البلاد.
لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة في غياب المحاسبة
تهديد النقابات الأمنية برفع الحماية الأمنية عن نواب البرلمان ورؤساء الأحزاب الممثلة في مجلس نواب الشعب، لم يكن التهديد الأول لمؤسسات الدولة التونسية ولن يكون التهديد الأخير، في حال لم يتم محاسبة المذنبين والمقصرين من القائمين على هذه النقابات والداعمين لها، حسب عديد من المتابعين، ولنا أن نتذكر حادثة طرد “الرؤساء الثلاث” من ثكنة العوينة سنة 2013، وهم على التوالي رئيس الدولة، حينها، منصف المرزوقي ورئيس الحكومة علي العريض ورئيس البرلمان مصطفى بن جعفر، وهي الحادثة التي كشفت للرأي العام خطورة بعض النقابات الأمنية المسيسة على الانتقال الديمقراطي في البلاد.
لم تكن تلك الحادثة منفصلة ولا شاذة بل جاءت في سياق أحداث ومحطات وتنازلات أكسبت هذه النقابات قوة أكثر، وجرأة أكبر على رموز الدولة، فلم يعد يهمهم أين كان ولا يكترثون لأحد مهما كان منصبهم، حتى ممن كان يساندهم يومًا ما وساهم في تشكلهم وتأسيسهم.
ما فتئت عديد من القيادات النقابية، تصدر بيانات رسمية تحمل طابعًا سياسيًا تنتصر لطرف على حساب آخر
وبعد أقل من 3 سنوات من تلك الحادثة التي تبقى في الأذهان والتي بدأ معها تمرد النقابات على رموز الدولة ومؤسساتها، خرج مئات الأمنيين في مسيرة غاضبة للمطالبة بتحسين أوضاعهم الاجتماعية، لكن سرعان ما تحول الأمر إلى ترديد شعارات سياسية تطالب بطرد رئيس الحكومة حينها، حبيب الصيد، قبل أن يقتحموا قصر الحكومة ويتسلقوا بعض جدرانه، في حادثة دفعت وزارة الداخلية ورئاسة الحكومة إلى فتح بحث تحقيقي بشأن ما حدث لكن دون نتائج تذكر.
هذه الصائفة، حملت معها أيضًا شكلاً جديدًا من تمرد النقابات الأمنية، حيث ألغت هذه النقابات دون وجه حق، حفلات أحد فناني الراب (تونسي) من المهرجانات التونسية، نتيجة تأديته لأغنية راب تنتقد بعض تصرفات قوات الأمن، كما أجبرت هذه النقابات المشرفين على أحد أكبر المهرجانات في تونس على منحهم وعائلاتهم تذاكر دخول مجانية للحفلات بعد أن هددتهم بعدم تأمين حفلات المهرجان حال لم يتم الاستجابة لمطلبهم.
بعض النقابيين الأمنيين رفعوا شعار “ارحل” أمام الرؤساء الثلاث لتونس
إضافة إلى ذلك، ما فتئت عديد من القيادات النقابية، تصدر بيانات رسمية تحمل طابعًا سياسيًا تنتصر لطرف على حساب آخر، وتحمل بعضها دعوات واضحة لتصفية معارضي سياساتهم المشبوهة، الأمر الذي أثر سلبًا على السلم الأهلي والانتقال الديمقراطي الهش في البلاد، كما تصدرت هذه القيادات البلاتوهات التليفزيونية لسنوات، لبث سمومها وإشعال نار الفتنة والانقسام في صفوف المجتمع التونسي، حسب عديد من المتابعين، دون أن تتحرك النيابة العمومية ولا وزارة الداخلية.
وكثيرًا ما نظمت قوات الأمن مظاهرات ووقفات احتجاجية أمام قصر الحكومة والجمهورية والبرلمان، منافية لقانون الطوارئ في تونس الذي يحجر الاجتماعات التي من شأنها الإخلال بالأمن أو التمادي في ذلك وكل مخالفة لأحكام هذا الأمر تعاقب بالسجن لمدة تتراوح بين ستة أشهر وسنتين وبخطية تتراوح بين 60 دينارًا و2500 دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط، إلا أن أعوان الأمن الموكول إليهم السهر على تطبيق هذا القانون نراهم بين الفينة والأخرى يحاولون جاهدين بأفعالهم وأقوالهم الإخلال به وإرباك النظام العام للبلاد.
هل حادت عن أهدافها؟
منذ بداية تشكيلهم لنقاباتهم، أعلنت القيادات النقابية الأمنية أن دورهم سيقتصر على الدفاع عن الحقوق المهنية والاجتماعية لمنظوريهم من رجال الأمن، لكن مع مرور الوقت حادت هذه النقابات، خاصة قياداتها، عن أهدافها ودورها المهني لتدخل أتون السياسة وتنخرط في الصراع السياسي الدائر في البلاد عبر اتخاذها لبعض المواقف التي اعتبرت “سياسية”، حسب عديد من المتابعين، ولا شأن لها بالعمل النقابي الذي أسس من شأنه هذه النقابات.
النقابات الأمنية في تونس تحولت إلى وسيلة لإرباك عمل الحكومة وتهديد لوحدة وانضباط المؤسسة الأمنية
ويعتبر المرسوم 42 المؤرخ في 25 من مايو 2011 في عهد حكومة الباجي قايد السبسي، أول مرسوم حكومي يسمح بإنشاء نقابات أمنية وينص هذا المرسوم في الفصل 11 منه على الآتي: “لأعوان قوات الأمن الداخلي الحق في ممارسة العمل النقابي، ويمكن لهم لهذا الغرض تكوين نقابات مهنية مستقلة عن سائر النقابات المهنية واتحاداتها، يحجر على أعوان قوات الأمن الداخلي، في ممارستهم العمل النقابي الإضراب عن العمل أو تعطيل سيره بأي وجه”، وتشكلت منذ ذلك الوقت أكثر من 5 هيئات نقابية أمنية في مختلف الفروع الأمنية التونسية.
ويؤكد العديد من الخبراء، أن النقابات الأمنية في تونس تحولت إلى وسيلة لإرباك عمل الحكومات المتعاقبة في البلاد ومؤسسات الدولة وتهديد لوحدة وانضباط المؤسسة الأمنية، حتى إن علاقة هذه النقابات مع مؤسسات الدولة أصبحت تقوم على الابتزاز وتبادل المصالح، وكثيرًا ما لجأت هذه النقابات الأمنية إلى التصريح للإعلام بمعطيات أمنية حساسة تمس الأمن القومي للبلاد، دون أن تتحرك السلطات للمحاسبة.
حل النقابات؟
أمام ابتعادها عن أهدافها الموكلة إليها، يرى عديد من الخبراء، ضرورة حل هذه النقابات الأمنية وتوحيدها، خاصة أنها أصبحت تشكل عائقًا فعليًا لتقدم المؤسسة الأمنية في تونس بعد تسيسها من جهات نافذة في البلاد واستغلال العمل النقابي للتدخل في شؤون أمنية وسياسية هي ليست من مشمولاتها،.
ومعلوم عالميًا أن للعمل النقابي شروط وضوابط جدير بمن رفع السلاح لحماية البلاد أن يعرفها وألا يتجاوزها، لا أن ينتهكها غير مبالٍ بعواقبها، فالدور الوحيد لنقابات الأمن في العالم يتمثل في الدفاع عن حقوق منظوريهم الاجتماعية والمهنية على غرار الترقيات والتغطية الاجتماعية والنقل التعسفية والأجور، إلا أنه في تونس عكس ذلك في ظل الطمع في إرضاء الأحزاب والأطراف النافذة في الدولة وصمت الأجهزة السيادية الرسمية.
أمنيون تونسيون يتسلقون أسوار قصر الحكومة
وتعتبر تونس واحدة من بين الدول القلائل في العالم والوحيدة في العالم العربي التي سمحت بالعمل النقابي الأمني بشرط ألا ينخرطوا في العمل السياسي وتقتصر مطالبهم واهتماماتهم على تحسين الوضعية الاجتماعية لمنخرطيهم كما لا يمكنهم الانضمام إلى المنظمات الشغيلة، إلا أن هذه النقابات تجاوزت ذلك.
وتمثل هذه النقابات الأمنية، حسب عديد من المتابعين، عائقًا أمام عملية إصلاح القطاع الأمني في تونس التي أصبحت ضرورية من أجل بناء مؤسسات شفافة وشرعية وشاملة يثق بها المواطنون، وتوجد في تونس الآن ثلاث نقابات أمنية، أهمها “النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي”، تغطي أكثر من نصف النقابيين الأمنين ثم نجد نقابتين أقل حجمًا وعددًا ووظيفة وهما “نقابة وحدات التدخل” و”اتحاد نقابات الأمن التونسي“.