كان قرار البنك المركزي المصري ظهر يوم الخميس الـ3 من نوفمبر 2016 بتحرير سعر الصرف من خلال إطلاق الحرية للبنوك العاملة في مصر في تسعير النقد الأجنبي بمثابة الصدمة لكثير من المصريين والمهتمين بالشأن الاقتصادي، بعضهم رآه خطوة كارثية لما يترتب عليه من تبعات خطيرة ، بينما آخرون تعاملوا معه كونه خطوة لا بد منها نحو النهوض والتنمية الاقتصادية.
لم يكن قرار التعويم الوحيد ضمن حزمة القرارات المتخذة في هذا اليوم فيما أطلقت عليه الحكومة “الإجراءات الإصلاحية”، فهناك قرار رفع سعري عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة بواقع 300 نقطة أساس ليصل إلى 14.75% و15.75% على التوالي، كذلك رفع سعر العملية الرئيسية للبنك المركزي بواقع 300 نقطة أساس ليصل إلى 15.25% وزيادة سعر الائتمان والخصم بواقع 300 نقطة أساس ليصل إلى 15.25%.
وبعد مرور عام على هذا القرار الذي تأرجحت ردود الفعل حياله ما بين “الكارثي” و”التاريخي” لا يزال السؤال قائمًا: إلى أين وصل الاقتصاد المصري؟ وما تبعاته على المواطن والدولة في نفس الوقت؟ ثم.. هل كان توقيت اتخاذ القرار صائبًا؟
رحلة من السقوط
لم تكن القفزة الخلفية التي قفزها الجنيه المصري أمام الدولار في أعقاب قرار التعويم من 8.80 إلى 17.60 جنيه للدولار السقطة الوحيدة له، فقد مرت العملة المصرية برحلة طويلة من السقوط المدوي خلال نصف القرن الأخير على وجه الخصوص.
وصلت قيمة الجنيه لأعلى مستوياتها خلال الفترة من 1916-1939، حيث كان الجنيه يساوي حينها خمسة دولارات تقريبًا، تراجعت بصورة طفيفة بعد ذلك حتى وصلت عام 1949 إلى أربعة دولارات للجنيه، واستمرت على هذه الوتيرة قرابة 18 عامًا.
بعد هزيمة 1967 ارتفع الدولار ليبلغ 0.38 جنيه ، ثم وصل إلى 0.40 عام 1978 قبل أن يصل إلى 0.60 عام 1988، وبعدها 0.83 عام 1990 وصولاً إلى 1.5جنيه عام 1991.
ومع قدوم عام 1992 قفز الدولار أمام الجنيه قفزات جنونية حيث وصل في هذا العام إلى 3 جنيهات وارتفع إلى 3.3 في 1993، واستمر الاستقرار حتى عام 2001، ليسجل ارتفاعًا ملحوظًا ويصل إلى 3.75 جنيه، وخلال عام 2002 وصل ما يقرب من 4 جنيهات، ليبدأ الجنيه في الانهيار في السنوات التالية، وفي عام 2003 قفز سعر صرف الدولار من نحو 4 إلى 4.60 جنيه.
ومع بداية العام 2004 حققت العملة الأمريكية قفزة جديدة أمام العملة المصرية ليصل سعر الدولار الواحد إلى خمسة جنيهات، وبنهاية عام 2005 سجل نحو 5.75 جنيه، ومع أحداث ثورة يناير 2011، ارتفع سعر الصرف إلى 6.5 جنيه، ليصل في نوفمبر 2016 إلى 8.88 جنيه، قبل أن يصل إلى 17.6 جنيه في الوقت الراهن بعد أن وصل في بعض الأشهر الماضية حاجز الـ20 جنيهًا للدولار الواحد.
الدين الخارجي لمصر بلغ 79 مليار دولار حتى يونيو 2017 مقارنة بـ47.8 مليار دولار في 2016، كما ارتفع الدين العام الداخلي في الفترة نفسها بنسبة 28.9% ليصل إلى 3.052 تريليون جنيه (نحو 167 مليار دولار) بعدما كان 2.368 تريليون جنيه العام الماضي
طارق عامر، رئيس البنك المركزي المصري
31% زيادة في معدلات التضخم
تعكس مؤشرات التضخم وارتفاع الأسعار أولى تبعات قرار تعويم الجنيه، حيث ارتفعت معدلات التضخم بصورة إجمالية من 12.3% عام 2016 إلى 33% خلال 2017 وصلت في بعض الأشهر إلى 35.2% كما حدث في يوليو في سابقة هي الأولى من نوعها منذ نصف قرن تقريبًا.
وبحسب تقرير الجهاز المركزي فإن معدلات أسعار بعض السلع ارتفعت على أساس سنوي بنحو 41% مقارنة بما كانت عليه في يونيو 2016، وإن كانت معدلات الارتفاع تجاوزت في سلع أخرى حاجز الـ100% خاصة الغذائية والكهربائية والتكنولوجية.
وفي إطلالة سريعة على أبرز زيادات أسعار السلع قبل وبعد التعويم، يلاحظ أن سعر الأرز قبل التعويم كان 4.5 جنيه، فيما بلغ بعد عام من التعويم 6.5 جنيه، وكان السكر قبل التعويم 5 جنيهات ووصل بعد عام من التعويم إلى 9.5 جنيه، وارتفع سعر الدقيق من 4 جنيهات وصولاً إلى 6.25 جنيه، وسجل الزيت قبل التعويم 9.5 جنيه، ووصل إلى 14 جنيهًا بعد عام من التعويم.
كذلك الوقود الذي قفز قفزات جنونية خلال العام الأخير، حيث وصل لتر بنزين 80 بعد عام من التعويم إلى 3.65 جنيه، بعدما كان يسجل 1.60 جنيه قبل التعويم، كما ارتفع السولار إلى 3.65 بدلاً من 1.80 جنيه قبل التعويم، وسجل بنزين 92 مبلغ 5 جنيهات للتر، قادمًا من 2.60 جنيه، والكهرباء لم تسلم من قرار تعويم الجنيه أيضًا، حيث ارتفعت تكلفة الكيلووات الكهرباء من 47.5 قرش للكيلو قبل التعويم وصولاً إلى 84.8 قرش.
23.2 مليار دولار زيادة في الديون الخارجية
انخفاض قيمة العملة المحلية دفع الحكومة للجوء إلى الحل الأسهل وهو الاقتراض الخارجي والداخلي على حد سواء، مما تسبب في ارتفاع معدلات الديون بصورة غير مسبوقة، فبعد عام واحد فقط من التعويم ارتفعت ديون مصر الخارجية 23.2 مليار دولار بحسب بيانات البنك المركزي.
وأظهرت الأرقام أن الدين الخارجي لمصر بلغ 79 مليار دولار حتى يونيو 2017 مقارنة بـ47.8 مليار دولار في 2016، كما ارتفع الدين العام الداخلي في الفترة نفسها بنسبة 28.9% ليصل إلى 3.052 تريليون جنيه (نحو 167 مليار دولار) بعدما كان 2.368 تريليون جنيه العام الماضي، وبشكل عام فقد ارتفع الدين العام الخارجي والمحلي إلى 124.7% من الناتج المحلي الإجمالي في العام المالي 2016/2017 مقابل 113.3% في العام المالي السابق له.
يذكر أن الحكومة المصرية في إطار سياساتها الإصلاحية حصلت على حزمة من القروض من عدد من المؤسسات والكيانات المالية العالمية والإقليمية على رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية، وهو ما زاد من أعبائها خاصة بعد زيادة فوائد هذه الديون إلى 25% حسبما تضمن مشروع موازنة السنة المالية 2018/2017 .
ارتفعت معدلات التضخم بصورة إجمالية من 12.3% عام 2016 إلى 33% خلال 2017 وصلت في بعض الأشهر إلى 35.2% كما حدث في يوليو في سابقة هي الأولى من نوعها منذ نصف قرن تقريبًا
وقد أدت توجهات القاهرة نحو الاقتراض إلى ارتفاع الاحتياطي الأجنبي لدى المركزي المصري إلى 36.534 مليار دولار في نهاية سبتمبر 2017 مقابل نحو 19.040 مليار دولار نهاية أكتوبر الأول 2016، وهو ما كان نقطة خلاف بين الاقتصاديين طيلة الفترة الأخيرة بخصوص دلالات هذه الزيادة وحقيقتها.
كما ارتفع نصيب المواطن المصري في الدين الخارجي منذ تعويم الجنيه في نوفمبر الماضي، بنحو 31.4%، مع توسع الحكومة في الاقتراض من الخارج لسد عجز الموازنة العامة وتوفير العملة الصعبة في البلاد، وأظهرت أحدث بيانات للبنك المركزي أن نصيب المواطن في الدين الخارجي ارتفع إلى 812.3 دولار في نهاية يونيو الماضي وهو ما يعادل نحو 14.4 ألف جنيه بسعر صرف للدولار 17.7 جنيه.
وكان نصيب المواطن من الدين الخارجي 618.2 دولار في نهاية سبتمبر 2016 (قبل التعويم) وهو ما كان يعادل نحو 5.5 ألف جنيه بسعر صرف 8.88 جنيه للدولار قبل التعويم.
وزير المالية المصري مع مديرة صندوق النقد الدولي
30 مليون فقير
التعويم وتداعياته على ارتفاع أسعار السلع والخدمات في ظل ثبات الأجور ومعدلات الدخول، انعكس بصورة سلبية على الحالة المعيشية للمواطن، فوفقًا لتقارير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فقد بلغت نسبة المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر 27.8%، بما يقارب 30 مليون مواطن، وفقًا لبحث الدخل والإنفاق عام 2017.
كما أشارت الإحصائيات إلى أن متوسط دخل الأسرة المصرية يبلغ 45 ألف جنيه سنويًّا، بينما متوسط دخلها الشهري 3750 جنيهًا، ونسبة الأسر التي تحصل على دخلها من العمل تبلغ 70.4%، بينما تبلغ نسبة الأسر التي تعتمد في دخلها على التحويلات الخارجية 16.7%، أما الأسر التي تعتمد في دخلها على القيمة الإيجارية التقديرية للمسكن فتبلغ 10.4%، بينما تبلغ نسبة الأسر التي تعتمد في دخلها على الممتلكات 2%.
وذكر الجهاز أن 81.8% من الفقراء لا يستفيدون من التأمينات الاجتماعية، و8.7% فقط من الفقراء مشتركون في التأمينات الاجتماعية، ونسبة المستفيدين من التأمينات الاجتماعية من الفقراء تبلغ 8.9%.
بلغت نسبة المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر 27.8%، بما يقارب 30 مليون مواطن، وفقًا لبحث الدخل والإنفاق عام 2017
وأكد التقرير الإحصائي أن قيمة متوسط خط الفقر المتوقع للفرد في الشهر لا تتجاوز 322 جنيهًا ، بينما وصلت قيمة متوسط خط الفقر الكلي للسكان 482 جنيهًا شهريًّا، ويقول الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء: “معدل البطالة في مصر وصل إلى 12.5% خلال الربع الثاني من العام الحاليّ، فيما توقع صندوق النقد الدولي وصول معدل البطالة إلى 12.3% في نهاية 2017”.
وبعد عام على قرار تعويم الجنيه وتداعياته على المنظومة المعيشية للمواطن المصري لا يزال هناك من يدافع عنه كونه القرار الصائب وإن كان شديد المرارة، إلا أنه – ووفقًا للخبراء – فإن مساحة رقعة الفقر مرشحة للزيادة بنسب كبيرة، فرغم تجاوز عدد الفقراء حاجز الـ30 مليون مصري ممن تقل دخولهم اليومية عن حد خط الفقر العالمي والمقدر 1.9 دولار (36 جنيهًا)، فإن هذا الرقم مرشح للزيادة بصورة كبيرة خلال الأيام القادمة خاصة مع قدوم عام 2022 وهو العام المتوقع فيه رفع الدعم بصورة كاملة ربما يصل عدد الفقراء إلى ما يزيد على نصف المصريين وهو ما قد يدخل المجتمع في آتون الصراعات الأهلية من أجل توفير لقمة العيش.