استحوذت زيارة رئيس جمهورية جنوب السودان سلفاكير ميارديت للخرطوم على وسائل الإعلام ونقاشات مواقع التواصل الاجتماعي في السودان، إذ توقف العديد من المهتمين عند الصورة المؤثرة التي نُشرت لسلفاكير وهو يكسر قواعد البرتوكول في مطار الخرطوم وينحني أمام علم الدولة الأم التي كانت بلاده جزءًا منها قبل 6 سنوات.
نبعت أهمية الزيارة من كونها تأجلت عدة مرات ولأسباب متعددة، من ضمنها الأوضاع المأساوية التي يكابدها سكان الدولة الحديثة على عكس أمانيهم التي دفعتهم إلى التصويت بالأغلبية الساحقة لخيار الانفصال في استفتاء يناير/كانون الثاني 2011.
محاولة طي صفحة الخلاف بين الخرطوم وجوبا
ترتب الخرطوم وجوبا على ما يبدو لطي صفحة مليئة بالخلافات بين البلدين، وقد برزت مؤشرات تلفت النظر إلى أن الطرفين يستعدان لمرحلة جديدة في العلاقات الثنائية، إذ حلّت لغة التعقل والتعاون من أطراف متباعدة ومتقاربة من البلدين تنادي بتجاوز مرحلة الاتهامات المتبادلة بإيواء ودعم متمردي كل طرف، إلى مرحلة التعاون في إخماد نار الصراعات الدامية في كل دولة، حيث تتشابه الظروف والأوضاع في الدولتين وإن كانت الجارة الجنوبية تفوق نظيرتها الشمالية في الصراعات والأوضاع البائسة.
كما أن حكومة الخرطوم أُلزمت من الولايات المتحدة بتحسين العلاقات مع الجنوب، ولعب دور لصالح حل الخلاف الجنوبي الجنوبي، فجاء هذا البند ضمن المسارات الخمس لرفع العقوبات الأمريكية عن السودان، وفي المقابل صدرت إشارات إيجابية من الاتجاه الآخر، فقد صرح وزير خارجية الجنوب دينق ألور بقوله “جوبا غير مستعدة لأن تكون في حالة حرب دائمة مع السودان”، وقبل ذلك عبر سفير دولة الجنوب بالخرطوم ميان دوت، عن تطلعه لعلاقات ممتازة مع الخرطوم يكون طابعها الجوار الآمن والتبادل التجاري.
على عكس ما كان متوقعًا وبالنظر إلى اللفتة المؤثرة التي قام بها رئيس الجنوب أمام العلم السوداني، فقد اتهم حكومة السودان علنًا أمام مُضيفه الرئيس البشير في المؤتمر الصحفي في ختام الزيارة، إن السودان كان يدعم المعارضة المتمردة ضد حكومته
يتفق الناشط السياسي السوداني وليد دليل مع السفير ميان، فيرى الأول أن زيارة سلفاكير هدفت بشكل أساسي إلى فتح المعابر الحدودية لتدفق السلع والمواد الغذائية من السودان، حيث تعاني جوبا من شح وندرة في الغذاء مع ارتفاع الأسعار، ويعتقد وليد أن موضوع الحركات المسلحة واستضافتها في البلدين كروت ضغط تُستخدم عند وقوع خلاف، ويؤكد أن تدفق السلع من الشمال يسهم في تحقيق الاستقرار بدولة الجنوب، بالإضافة إلى رفع الحرج عن حكومة البشير بعد الضغوط التي واجهتها من المجتمع الدولي بضرورة التدخل لإنقاذ جوبا من الأوضاع المأساوية التي يكابدها المواطنون هناك.
تصريحات مثيرة لسلفاكير في الخرطوم
على عكس ما كان متوقعًا وبالنظر إلى اللفتة المؤثرة التي قام بها رئيس الجنوب أمام العلم السوداني، عاد وأدلى بتصريح متناقض بعيد عن قواعد الدبلوماسية والبرتوكول، فقد اتهم حكومة السودان علنًا أمام مُضيفه الرئيس البشير في المؤتمر الصحفي في ختام الزيارة، وقال سلفاكير إن السودان كان يدعم المعارضة المتمردة ضد حكومته، جاء هذا التصريح على الهواء مباشرة بعد توقيعه والبشير اتفاقيات ومذكرات تفاهم غطت المجالات الشرطية والتعاون في مجال النفط والمجال العسكري والأمني.
ولا يزال التساؤل المرير تتردد أصداؤه في صحف الخرطوم: ما سر هذه التناقضات والتصريحات العدائية التي لا ترقى لمستوى رئيس دولة يزور دولة جارة كانتا في يوم من الأيام بلدًا واحدًا؟ هل كانت زلة لسان من سلفاكير؟ أم أنه عبّر عن غضبه لسبب ما؟ أغلب الظن أن زعيم جنوب السودان يفتقر إلى الخبرة السياسية وقواعد اللباقة، إذ كان يُفضَّل تأجيل التصريحات حتى يصل إلى بلده على الأقل حتى لا يحرج مضيفه ونفسه بهذه الطريقة التي تصدرت بها اتهاماته “مانشيتات” وسائل الإعلام العالمية.
ربما يكون لقاء البشير وسلفاكير قد شهد مكاشفة صريحة بشأن الاتهامات التي يتبادلها الطرفان في دعم وإيواء المعارضة المسلحة للبلدين
اتفاقيات سابقة لم تُنفذ
أشار بيان مشترك أصدره الطرفان إلى اتفاقهما على تسريع تنفيذ اتفاق التعاون الموقع في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في سبتمبر/أيلول 2012، وتسريع عمل المفوضية المشتركة الخاصة بالحدود وترسيمها، كما أكد السودان وجنوب السودان على أن اتفاق السلام الموقع في أديس أبابا بين الأطراف المتصارعة في جمهورية الجنوب هو الأساس لحل الأزمة في البلاد، وبجانب ذلك أعلن سلفاكير عزمه الاستفادة من تجربة الحوار الوطني السودانية التي أفضت إلى تشكيل حكومة وفاق وطني.
ورغم اتفاق الطرفين على تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بينهما، فإن شكوكًا كثيرة انتابت بعض المحللين السياسيين في قدرة البلدين على تنفيذ ما اتفقا عليه، مستدلين بالاتفاقيات التي وُقعت قبل ذلك بالخرطوم وفي وقت سابق بأديس أبابا، لكن الأمين العام للهيئة القومية لدعم السلام بجنوب السودان إستيفن لوال نقور، اعتبر أن هناك مستجدات إيجابية تُوجت بالاتفاق على مذكرة تفاهم مما يعني الرغبة هذه المرة في التنفيذ، ويضيف نقور أن هناك بعض التقدم في عملية تنفيذ اتفاقية التعاون المشترك بين السودان وجنوب السودان لعام 2012، خاصة بعد تأكيد حكومة جوبا ضرورة تجاوز مرحلة الأعداء وفتح صفحة جديدة مع السودان.
مكاشفة ومصارحة بين الطرفين
زيارة سلفاكير للسودان بكل تأكيد مؤشر جيد يمكن استغلاله في تحقيق اختراق للقضايا العالقة بين بلدين كانا في يوم من الأيام دولة واحدة، وربما يكون لقاء البشير وسلفاكير قد شهد مكاشفة صريحة بشأن الاتهامات التي يتبادلها الطرفان في دعم وإيواء المعارضة المسلحة للبلدين، بالإضافة إلى موضوعات أخرى لم يتم التطرق إليها إعلاميًا، مثل قلق الخرطوم من تنامي علاقات جوبا مع مصر التي تجسدت في زيارة ميارديت إلى القاهرة مطلع العام الحاليّ بعد تأجيل رحلته المفترضة إلى الخرطوم، إذ تخشى حكومة السودان أن تكون العلاقات النامية بين مصر وجنوب السودان موجهة ضد التحالف الصاعد الذي يجمع بين الخرطوم وأديس أبابا.
تحديات أمام الخرطوم وجوبا
التحدي الأكبر في تقديرنا يقع على رئيس جمهورية الجنوب سلفاكير ميارديت، فحكومته عُرفت بنقض الاتفاقيات، كما حدث فور وقوع الانفصال حيث دخلت قوات الحركة الشعبية مدينة هجليج الشمالية الغنية بالنفط واحتلتها بقوة السلاح، قبل أن يسيطر عليها الجيش السوداني.
حاليًا نرى أن جوبا تواجه ضغوطًا دولية، وهي أحوج ما تكون إلى التهدئة مع جارتها الشمالية من أجل إعادة الاستقرار إلى الدولة الوليدة التي أضاعت حتى الآن 6 أعوام من عمرها في الحروب والصراعات، وفي الاتجاه الآخر يسعى السودان بقوة إلى تسجيل انتصار دبلوماسي بلعب دور محوري في حل النزاع في البلد الجار، ليؤكد للولايات المتحدة والمجتمع الدولي بشكل عام جدارته بأن يُصبح شريكًا موثوقًا يعتمد عليه، وأن يكون أحد صناع السلام والاستقرار في المنطقة.