تعد فترة حكم الدولة العثمانية من أكثر الحقب التاريخية المليئة بالأحداث والتحولات الجغرافية والسياسية والاجتماعية، خاصة أن مقاليد حكمها امتدت لمناطق مختلفة من العالم، مما جعلها منطقة نفوذ لمدة 6 عقود، ولفهم الجانب الثقافي لهذه الدولة وتاريخها الأدبي لا بد من معرفة العلاقات الخارجية للإمبراطورية وبعض الشخصيات العثمانية البارزة التي تواصلت مع دول العالم الأخرى وتعلمت في مؤسساتها وتأثرت بأفكارها وعلومها.
من المتعارف عليه أن اللغة العثمانية أو التركية ارتبطت ارتباطًا ملحوظًا باللغة العربية، بمجموع 6 آلاف و467 كلمة عربية، والسبب في هذا التشابه السنوات الطويلة التي عاشها العرب مع الأتراك في منطقة الأناضول، ومن ثم اعتناقهم للدين الإسلامي مما جعلهم بحاجة إلى تعلم اللغة العربية لفهم الدين الإسلامي وأحكامه.
والمثير للاهتمام أن الألفاظ الفرنسية جاءت في المرتبة الثانية بعد العربية، من ناحية الكلمات الأجنبية المستخدمة في اللغة التركية، والتي يصل عددها إلى 5 آلاف و253 كلمة فرنسية مقتبسة، فما شكل العلاقات العثمانية الفرنسية من الناحية الأدبية؟ وكيف تأثرت الصحافة في ذلك الوقت بالأدب الفرنسي الأوروبي؟
المدارس والبعثات العلمية في العهد العثماني
أُسست أول مدرسة عثمانية عام 1331 بمدينة إزنيك بالقرب من بورصة غرب تركيا، فتخرج منها العديد من المفكرين والمدرسين والقضاة، حيث كان نظام التعليم وفقًا لأحكام الدين الإسلامي، وكان يدرّس مواضيع مختلفة مثل الفلسفة وفن الخطابة وحفظ القرآن الكريم والتاريخ والمنطق، كما كان التعليم آنذاك معروفًا بالجودة العالية.
واستمر الاهتمام بالتعليم الديني حتى عهد التنظيمات عام 1839 والذي شهدت فيه الدولة العثمانية تطورات وإصلاحات فكرية وثقافية جوهرية، وكان أبرز سماتها التخلص من نظام التعليم التقليدي وإنشاء مدارس حديثة على النظام الغربي وانتشار الطباعة والمطبوعات والصحافة والذي أدى إلى تأثر الكثير من المكتبات العامة والصحف والمتاحف.
ساهمت البعثات العلمية كثيرًا في “تغريب” الدولة العثمانية من خلال ما صدره لها طلابها من علوم وأفكار ولغات، والتي ساعدت في إنشاء حركة الترجمة ومن ثم افتتاح المطابع في الدولة
كما اتضح هذا التأثير عندما شجعت الدولة العثمانية طلابها على الانضمام للبعثات الأجنبية وتوظيف طلاب الجامعات الغربية فور تخرجهم، مما ساعد على تحسين وضعهم الاجتماعي، الأمر الذي دفع الكثير من الطلاب للدراسة في أوروبا أو المؤسسات الغربية للحصول على درجة علمية على النمط الغربي الحديث، مع العلم أن هذا الدعم الكبير للخريجين جعل التعليم الديني ينحصر في مؤسسات دينية خاصة مثل مدارس الإمام الخطيب أو في كلية واحدة في الجامعات وهي الإلهيات.
ولا شك أن البعثات العلمية ساهمت كثيرًا في “تغريب” الدولة العثمانية من خلال ما صدره لها طلابها من علوم وأفكار ولغات، والتي ساعدت في إنشاء حركة الترجمة ومن ثم افتتاح المطابع في الدولة، وبالتحديد في إسطنبول.
دخول الأدب الأوروبي إلى الدولة العثمانية
بدأت العلاقات الثقافية بين الأتراك والفرنسيين في أوائل القرن الـ18، فقد عرف الأتراك أوروبا عن طريق فرنسا، إذ كان يطلق على الأوروبي فرنسي، وهذا في عهد السلطان عبد المجيد الممتد بين عامي 1829 و1861 والذي أطلق على هذه الفترة “أدب التنظيمات”، حيث شهدت اندماجًا واضحًا للأدباء الأتراك بالأدب الغربي.
ومن أبرز الأدباء الذين دعوا إلى التجديد الثقافي إبراهيم شناسي، الذي يعتبر أحد رواد حركة التغريب التي تبنت تطوير المجتمع العثماني على غرار الحضارة المعاصرة وأول من بدأ أدب التنظيمات، محتذيًا بالنموذج الغربي، خاصة أنه عرف بترجماته للأشعار الفرنسية وأعماله الأدبية الأخرى، جدير بالذكر أنه افتتح مطبعة عام 1859 في إسطنبول.
هذه الشخصيات اشتهرت بانتقاد سلطة السلاطين وتغنوا بالوطنية، نقلوا عن الثقافة الأوروبية مفاهيم غربية مثل حقوق الإنسان والقومية والحرية، وكانت هذه الأفكار بحد ذاتها تعتبر جرأة غير مسبوقة في ذاك الوقت.
بالإضافة إلى نامق كمال والملقب بـ”شاعر الوطن” والذي يعتبر من مثقفي حقبة التنظيمات ومن الأوائل الذين أدخلوا الأدب الأوروبي إلى تركيا من خلال أعماله المتنوعة بين الشعر والمسرح والتاريخ والرواية والمقالات، ويقال إن مصطفى كمال أتاتورك اقتبس اسمه الثاني من شدة تأثره بأفكار نامق كامل ودليل على تأييده لآرائه ووجهات نظره.
وبجانب هاتين الشخصيتين البارزتين، ضياء باشا الذي كان ضمن الأوائل الذين صرحوا بمفهوم التغريب، وعرف بآرائه المبنية على مبادئ الحضارة الغربية وإنجازاته الأدبية المتعددة، جدير بالذكر أن هذه الشخصيات اشتهرت بانتقاد سلطة السلاطين وتغنوا بالوطنية، نقلوا عن الثقافة الأوروبية مفاهيم غربية مثل حقوق الإنسان والقومية والحرية، وكانت هذه الأفكار بحد ذاتها تعتبر جرأةً غير مسبوقة في ذاك الوقت.
اهتمت موضوعات هذه الفترة بالمشاكل الوطنية التي هدفت إلى تثقيف الشعب وتوعيته من خلال الأشعار الوطنية والكتابات الأدبية الفردية التي تسلط الضوء على القضايا الوطنية مثل الحريات والثورات والفساد الحكومي وسياسات القمع السياسي، وكانت تتخذ هيئة الخصائص الشكلية التي في أعمال المؤلفيين الغربيين وخاصة الفرنسيين، رافضين الموروثات الأدبية العثمانية التقليدية، كذلك اهتم أدباء التنظيمات بالمجتمع ومشاكله وأهدافه، وبالجوانب الفنية من الأدب مثل المسرح والشعر والموسيقى.
دخول عالم الصحافة في الدولة العثمانية
بعد أن شهدت الثورة الفرنسية عام 1789 العديد من التغييرات والإصلاحات التي اعتبرتها فرنسا من أكثر الأحداث أهمية في تاريخها وفي التاريخ الأوروبي، اجتهدت فرنسا في تأسيس صحف سياسية لتنشر فيها مفهومها عن الحرية والثورة، وأرادت أن تنتشر هذه الأفكار في مناطق مختلفة من العالم، وكانت الدولة العثمانية من أول الأماكن التي شهدت هذه الإنتاجات الفكرية.
ففي عام 1795، أنشأ مجموعة من الفرنسيين الذين يعيشون في إسطنبول أول صحيفة في زمن الدولة العثمانية، والتي انتشرت باللغة الفرنسية وكان اسمها Bulletin de Nouvelles لتكون هذه بداية خطوات الدولة العثمانية نحو مجال الصحافة عبر فرنسا.
يرجع التاريخ فضل هذه الإنجازات إلى محمود الثاني الذي أنشأ مكاتب للترجمة وأعاد فتح السفارات في الدول الأوروبية وأكثر من إرسال البعثات العلمية إلى لندن وباريس وأسس مدارس لتعليم اللغات، حتى تستطيع الدولة العثمانية مواكبة التقدم العلمي
وبعدما بدأت الصحافة تتطور في أوروبا بشكل واسع بين ألمانيا وباريس وإيطاليا، نشر السلطان محمود الثاني رائد الحركة الإصلاحية في الدولة العثمانية والمعروف بميله إلى التطور الغربي، أول صحيفة عثمانية تركية عام 1831 باسم “تقويم الوقعية” والتي كانت تهدف بشكل أساسي إلى نشر الأخبار السياسية الداخلية والخارجية، وتنشر بشكل أسبوعي وبعدة لغات منها العربية والفارسية والفرنسية والأرمينية، وتم الاتفاق على تأسيس ونشر هذه الجريدة بالتعاون مع الصحفي الفرنسي أليكساندر بلاك في مدينة إزمير.
بالإضافة إلى “جريدة حوادث” والتي كانت تنشر باللغة الفرنسية في بادئ الأمر وتحت إشراف وإدارة الفرنسي بلاك، تحت اسم Le Courrier de Symrne وغيرها من الصحف مثل مشورى.
وويرجع التاريخ فضل هذه الإنجازات إلى محمود الثاني الذي أنشأ مكاتب للترجمة وأعاد فتح السفارات في الدول الأوروبية وأكثر من إرسال البعثات العلمية إلى لندن وباريس وأسس مدارس لتعليم اللغات، حتى تستطيع الدولة العثمانية مواكبة التقدم العلمي الذي تعيشه أوروبا.