أكد جيش الاحتلال على لسان الناطق العسكري باسمه دانيال هاغاري، الثلاثاء 26 مارس/آذار 2024، تمكنه من اغتيال نائب القائد العام لكتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) مروان عيسى، إثر غارة استهدفت مخيم النصيرات وسط قطاع غزة في 11 من الشهر الحاليّ.
وأضاف هاغاري أن عيسى الملقب بـ”أبو البراء” الذي لا تمتلك أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية سوى صورة واحدة له التقطت قبل 14 عامًا، اغتيل برفقة مساعده غازي أبو طعمة، مسؤول الوسائل القتالية، وأنه قد تم التأكد من مقتلهما وفقًا لما أسماها “معلومات دقيقة وغير عادية” لجهاز الأمن الداخلي (شين بيت)، منوهًا أن العملية أجراها جهاز الأمن العام (الشاباك).
الجيش الإسرائيلي: مقتل #مروان_عيسى القيادي في #حماس خلال عملية في مخيم النصيرات
#العربية pic.twitter.com/LOKmahEBJL— العربية (@AlArabiya) March 26, 2024
يأتي الإعلان عن استهداف “أبو البراء” بعد نحو أسبوع كامل من إعلان مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، الأمر الذي يثير الكثير من الشكوك بشأن التورط الأمريكي في العملية والتنسيق الأمني الاستخباراتي الكامل، بما يفند مزاعم الخلاف بين إدارة جو بايدن وحكومة نتنياهو.
وبعيدًا عن تشكيك حركة المقاومة الإسلامية حماس في رواية الاحتلال، فإن عيسى، نائب قائد كتائب عز الدين القسام، محمد الضيف، والمعروف بالرجل الثالث في الحركة وعقلها الإستراتيجي، وأحد أبرز مؤسسيها، كان على رأس القوائم المطلوبة لدى كل من دولة الاحتلال والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.. فماذا نعرف عن الرجل الغامض الذي حيّر أعتى أجهزة الاستخبارات في العالم؟
مخطط عملية الطوفان
بحسب تصريحات الإسرائيليين فإن عيسى يعد أحد القادة الـ3 في حماس الذين خططوا لعملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلى جانب قائده محمد الضيف وزعيم الحركة في غزة يحيي السنوار، حيث يمتلك قدرات عسكرية – لا سيما في مجال التصنيع – من الطراز الأول.
ورغم ندرة ظهوره إعلاميًا فإن لقاءً واحدًا أجراه عيسى مع برنامج “ما خفي أعظم” على قناة الجزيرة عام 2022، كشف عن رؤيته الاستباقية لعملية الطوفان ومفاجأة الاحتلال بها رغم المراقبة اليومية للمقاومة وحماس على مدار الساعة على حد قوله.
حيث قال خلال المقابلة: “المقاومة في داخل فلسطين ولو أنها يتابعها العدو على مدار الساعة إلا أنها ستفاجئ العدو والصديق بعون الله، هذه أثمان دفعناها وندفعها، نحن كشعب فلسطين في طريق الجهاد وطريق الحرية وآخرها كانت معركة سيف القدس التي قمنا وتوحدنا فيها جميعا في غزة والضفة والقدس وأهلنا في الداخل المحتل والتي سطرنا فيها ملحمة مشرفة في كل الوطن”.
حتى مسألة الأسرى واللعب بها كورقة ضغط في مواجهة الكيان المحتل تطرق إليها “رجل الظل” كما يلقبه الإسرائيليون، في تلك المقابلة لكن بشكل غير مباشر حين قال “وكما خضنا هذه المعركة من أجل القدس والأقصى فبالتوازي وفي سياق هذ المعركة سعينا إلى زيادة غلتنا في ملف تحرير الأسرى في السجون الصهيونية وكان ملف الأسرى حاضرًا وبقوة وسيظل كذلك”.
وفي تصريحات لقناة الأقصى المحلية في مارس/آذار 2023 حذر عيسى من أن المساس بالمسجد الأقصى قد يُفضي إلى “زلزال يضرب المنطقة”، منوهًا إلى أن دولة الاحتلال “أنهت اتفاقية أوسلو، والأيام القادمة ستكون مليئة بالأحداث”، وذلك قبل 7 أشهر فقط على عملية الطوفان.
ونجح عيسى في غضون سنوات قليلة في تحويل كتائب القسام من مجرد فصيل شبه عسكري إلى كيان مُنظم يُعمل له ألف حساب، قادر على مجابهة أعتى جيوش العالم وأقوى أجهزة استخباراته، وقال عنه موقع “والا ” العبري بعيد معركة سيف القدس مايو/أيار 2021، إن مروان يمكنه تحويل البلاستيك إلى معدن، وبقاءه على قيد الحياة سيجعل “إسرائيل” تواجه حربًا أكثر قسوة.
مهندس مفاوضات صفقة “شاليط”
لا تقتصر إمكانيات عيسى على الجانب العسكري والاستخباراتي فقط، بل كان سياسيًا من الطراز الأول، حيث كان مهندس المفاوضات الخاصة بصفقة “جلعاد شاليط” المعروفة باسم “وفاء الأحرار” أكتوبر/تشرين الأول عام 2011.
ولعب رجل الظل حينها دورًا استثنائيًا لإبرام تلك الصفقة التي تعد الأضخم في تاريخ صفقات تبادل الأسرى بين العرب والكيان المحتل، حيث تضمنت تحرير 1027 أسيرًا فلسطينيًا من سجون الاحتلال – من بينهم يحيى السنوار – مقابل أن تفرج حركة حماس عن الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليط، وذلك بشهادة المفاوض الأبرز في الصفقة، الدبلوماسي الألماني جيرهارد كونراد.
ويقول كونراد حكاية عن القيادي المؤثر في القسًام : “كان مروان عيسى على اطلاع جيد على الحكاية كلها – في إشارة إلى الصفقة – وكان نظيري في فحص القوائم والتأكد من التوازن بين المقترحات والحلول، كان محللًا دقيقًا جدًا وحريصًا، انطباعي عنه أنه كان يعرف الملفات عن ظهر قلب”.
تورط أمريكي ينسف مزاعم الخلاف
في 18 مارس/آذار الجاري وخلال مؤتمر صحفي في البيت الأبيض، أكد مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، وقبل الجميع، استهداف القيادي مروان عيسى على يد قوات الاحتلال خلال عملية لها وسط قطاع غزة، ليعقبه تأكيد المتحدث باسم جيش الاحتلال في الـ26 من الشهر ذاته.
هذا الإعلان الذي أكده الاحتلال بعده بأسبوع كامل، حمل الكثير من الشكوك والدلالات في آن واحد، شكوك تورط واشنطن في المجازر والعمليات التي تتم في القطاع، سواء ضد قادة المقاومة في غزة وخارجها، أم المدنيين العزل من النساء والأطفال منذ بداية الحرب التي خلفت حتى اليوم أكثر من 32 ألف شهيد.
كما أنه في الوقت ذاته يؤكد على عمق التنسيق الأمني والاستخباراتي والعسكري بين حكومة نتنياهو وإدارة بايدن، بما يفند بشكل صريح ادعاءات ومزاعم الخلاف بين الطرفين، التي يبدو أنها لا تعدو كونها عملية تبادل أدوار لامتصاص حالة الغضب وتهدئة الأجواء المتصاعدة ضد الدعم الأمريكي المفرط لجيش الاحتلال في تلك الحرب، وذلك قبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية المزمع إجراءها في نوفمبر/تشرين الثاني القادم.
البيت الأبيض يعلن مقتل #مروان_عيسى القيادي رقم 3 في حماس بعملية إسرائيلية#فلسطين#الحدث pic.twitter.com/gbM1OvZCoQ
— ا لـحـدث (@AlHadath) March 19, 2024
مسيرة حافلة من النضال
قضى عيسى (58 عامًا) المولود في قرية بيت طيما قرب عسقلان في الأراضي المحتلة عام 1965 جل حياته متأرجحًا بين سجون الاحتلال والمقاومة، فبعدما كان شابًا رياضيًا له حضور مميز في لعبة كرة السلة في نادي خدمات البريج تحول إلى أيقونة ثورية نضالية بعد الانضمام إلى حماس.
وكان هذا الانضمام بداية مرحلة جديدة في حياته النضالية والسياسية، بينما لم يكمل عامه الـ22، حين اعتقله الاحتلال خلال الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة) عام 1987 بتهمة الانتماء إلى حماس، ليقضى في سجون المحتل 5 سنوات كاملة.
ولم يسلم عيسى من سوط السلطة الفلسطينية التي اعتقلته هي الأخرى عام 1997 بذات التهمة، الانضمام إلى حماس، ليمكث في سجونها 4 سنوات، حتى أفرج عنه مع اندلاع انتفاضة الأقصى الثانية عام 2000.
وعقب الإفراج عنه بدأ القيادي الشاب الانخراط عمليًا في صفوف حماس، ليشارك مع الشهيد صلاح شحادة إعادة بناء الجناح العسكري لحماس، معلنًا تدشين كتائب عز الدين القسام، الذي تدرج في المناصب القيادية بداخلها حتى وصل إلى منصب نائب القائد العام محمد الضيف، خلفًا للقيادي أحمد الجعبري، الذي اغتالته “إسرائيل” في 2012.
سمحت الإمكانيات العسكرية والدبلوماسية لمروان في أن يلعب دور حلقة الوصل بين شقي حماس السياسي والعسكري، في الداخل الفلسطيني وخارجه، واستطاع بما لديه من قدرات استثنائية أن يجعل من القسام كيانًا عسكريًا منظمًا قادرًا على تهديد جيش الاحتلال وإرهاق جيوش العالم التي تدعمه، وتتويجًا لتلك القدرات انتخب عام 2021 عضوًا بالمكتب السياسي لحماس.
ونتاجًا لدوره الملموس في تعزيز قدرات حماس القتالية والاستخباراتية، أدرجت “إسرائيل” اسمه ضمن أبرز المطلوبين للاغتيال، حيث حاولت استهدافه أول مرة عام 2006 حين كان مشاركًا في اجتماع لهيئة أركان الحركة بحضور الضيف وقادة الصف الأول، لكنه نجا من تلك المحاولة وإن تعرض للإصابة، كما استهدفت المدمرات الإسرائيلية منزله مرتين خلال عامي 2014 و2021، ما أسفر عن استشهاد شقيقه “وائل”، فيما توفى ابنه “براء” المريض بالفشل الكلوي عام 2009، بعد منعه من السفر للعلاج بالخارج.
وأسفرت تلك المسيرة المفعمة بالنضال والثبات عن إغاظة الاحتلال وأعوانه، حيث وضعته “إسرائيل” على قائمة المستهدفين البارزين لديها، كما صنفته وزارة الخارجية الأمريكية كـ”إرهابي” عام 2019، بينما أضافه الاتحاد الأوروبي إلى قائمته الخاصة بالإرهاب في الـ8 من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
حماس تشكك
شككت حماس في الرواية الإسرائيلية بشأن استهداف الرجل الثاني في كتائب القسام، حيث قال القيادي بالحركة، عزت الرشق، في بيان له إنه لا ثقة برواية “إسرائيل” عن اغتيال مروان عيسى، والقول الفصل ينتظر إعلان قيادة القسام، مضيفًا أن توقيت الإعلان عن العملية يأتي “للتغطية على أزمات نتنياهو وفشل جيشه في تحقيق أهدافه”.
الرأي ذاته ذهب إليه القيادي في الحركة أسامة حمدان الذي أكد أنهم لم يحصلوا على تأكيد من قيادات القسام بشأن استشهاد عيسى، منوهًا في مقابلة له مع “الجزيرة”: “اغتيال قيادات المقاومة لا يضعفنا، وإعلان البيت الأبيض بشأن مروان عيسى يؤكد تورطه في حرب الإبادة”.
وبعيدًا عن صحة رواية الاحتلال بشأن اغتياله من عدمها، فإن مروان عيسى ظل كابوسًا يؤرق مضاجع الاحتلال لسنوات طويلة، وستظل سيرته النضالية العطرة تزكم أنوف المحتل وأعوانه كلما تذكروا أحداث الطوفان الذي دمر صورتهم وأطاح بأوهام جيشهم الأسطوري وحول إزالتهم من على خريطة الوجود من مجرد خيال صعب المنال إلى واقع قابل للحدوث في أي وقت.
وهذا ما يفسر حالة الاحتفاء التي تخيم على الأوساط الإسرائيلية مع الإعلان عن استهداف عيسى، وهو الاحتفاء الذي يعكس حجم القهر والألم الذي تسبب الرجل فيه لديهم على مدار سنوات كان فيها مهندس التصنيع الحربي والاستخباراتي لدى كتائب القسام التي مرغت أنف جيش الاحتلال وأجهزة استخباراته في التراب.
عضو المكتب السياسي لحركة حماس عزت الرشق: توقيت إعادة الاحتلال الإعلان عن اغتيال مروان عيسى تغطية على أزمات نتنياهو وفشل جيشه pic.twitter.com/5MNOzsCspb
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) March 27, 2024
يتوهم المحتل أن المقاومة ستتأثر بموت أحد قادتها، وأن الإعلان عن استهداف شخصية بارزة بحجم الرجل الثالث في الحركة سيفت في عضدها وينخر قواها، أو أن الاحتفاء بتلك العملية بعد 6 أشهر على الحرب سيمنحه انتصارًا يغطي به هزائمه النكراء التي يتجرع كؤوسها على مدار أكثر من 170 يومًا، إذ إن مسيرة النضال مستمرة، يتوارثها جيل تلو الآخر، حيث الكل مشروع شهيد مهما تعاظمت مكانته وحضوره.
لن يكون عيسى – حال تأكيد استشهاده – الوحيد الذي دفع حياته ثمنًا لوطنه وفداء لها في مسيرة النضال الخالدة، فسبقه إلى هذا الشرف العشرات من الأبطال، على رأسهم الشيخ أحمد ياسمين، وعبد العزيز الرنتيسي، وعماد عقل ويحيى عياش وصلاح شحادة وجمال منصور وجمال سليم، ونزار ريان وأحمد الجعبري وصالح العاروري، ومع ذلك ظلت المسيرة، كما علق المحلل الفلسطيني ياسر الزعاترة، “تواصل الصعود حتى فاجأتهم في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وهي تواصل الفعل دون توقف، وستواصل حتى يُكنَسوا من هذه الأرض المباركة، دماء القادة الشهداء، كما دماء العناصر وحتى غير المقاتلين من أبناء شعبنا تروي شجرة البطولة والعطاء والانتصار، وهي ستواصل الهدير حتى النصر المُبين، بإذن الله”.