كانت ليلة السبت ليلة حافلة بالنسبة لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. لقد تفوق وريث عرش المملكة البالغ من العمر اثنين وثلاثين عاما على نفسه في تلك الليلة، وتجاوز المستويات العليا من الفوضى والمآسي الإنسانية التي جنتها يداه حتى الآن بوصفه وزير الدفاع الذي أطلق الحملة العسكرية الجوية على اليمن.
بدأت سلسلة الأحداث المتعاقبة باستقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري بعد ما لا يزيد على عام واحد من تقلد منصبه. والمحير في الأمر أن الحريري أعلن استقالته من رئاسة الوزراء اللبنانية انطلاقاً من العاصمة السعودية الرياض، حيث قرأ بيانا شديد اللهجة اتسم بالعداء السافر لكل من حزب الله وإيران، وبأسلوب لم يعهد عنه منذ سنين.
ادعى الحريري في خطابه المتلفز بأنه بات يخشى على نفسه من الاغتيال، وهو تخوف لم يعبر عنه قبل أيام معدودة حينما وقف يلتقط صور “سيلفي” مع العاملين في المطار يوم أن غادر لبنان في حالة من المرح والتفاؤل.
ظن الحريري أنه نجا من الضغوط التي مورست في العام الماضي على شركة الإنشاءات التابعة له، سعودي أوجيه، والتي كانت تواجه الإفلاس، وبدا كما لو أن لقاءه مع وزير الدولة السعودي للشؤون الخليجية ثامر السبهان قد مر بسلام.
غرد السبهان بعد اللقاء قائلا بأن الاثنين اتفقا على “كثير من الأمور ذات الاهتمام المشترك”. إلا أن لهجة الوزير ما لبثت أن تغيرت سريعا بعد استقالة الحريري حيث غرد هذه المرة قائلاً: “يجب أن تبتر أيادي الغدر والعدوان”، في إشارة إلى حزب الله وإيران.
إلا أن المغرد السعودي المجهول والمطلع بشكل جيد، والذي اشتهر باسم “مجتهد”، استبعد نظرية أن الحريري استقال بسبب خشيته من التعرض للاغتيال على يد الإيرانيين، جازماً بأن رئيس الوزراء اللبناني كان يواجه تهديداً أكبر من قبل تنظيم الدولة الإسلامية.
وقال “مجتهد” إن الحريري خرج منشرحا وبمعنويات عالية من محادثاته الأخيرة مع علي أكبر ولايتي، كبير مستشاري المرشد الأعلى للثورة الإيرانية للشؤون الدولية.
وكتب “مجتهد” في إحدى تغريداته عبر “تويتر” يقول: “السبب الحقيقي لإعادته للرياض هو حشره مع الأمراء ورجال الأعمال الموقوفين لهدف ابتزازه واستعادة الأموال التي لديه في الخارج وليس مرتبطا بلبنان”.
إذا ما جمعنا كل هذه التصريحات فسنجد سياقا يصعب معه الاستنتاج أن الحريري حينما غادر لبنان كان ينوي الاستقالة، بل الأغلب أنه هو ذاته لم يكن يعلم بأنه سيستقيل، ما يرجح نظرية أن السعوديين هم الذين فرضوا عليه الاستقالة، إلا أن معلوماتي الخاصة تفيد بأنه لم يتعرض للاعتقال
وأضاف في تغريدة أخرى: “والبيان الذي قرأه كُتب له وليس مقتنعا به ولا بمحتواه ولا هو مقتنع بإعلان الاستقالة من الرياض فكيف يعلن زعيم سياسي استقالته من عاصمة دولة أخرى؟”.
أما حسين شيخ الإسلام، مستشار وزير الخارجية الإيراني، فبدا متوافقا مع “مجتهد” فيما ذهب إليه، حيث اتهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وولي العهد السعودي بالضغط على الحريري حتى يستقيل، حيث قال: “لقد تمت استقالة الحريري بتنسيق بين ترامب ومحمد بن سلمان لإشعال التوتر في لبنان وفي المنطقة”.
ويوم الأحد رد حسن نصر الله، زعيم حزب الله، بهدوء على خبر الاستقالة، محملا السعوديين المسؤولية عن ذلك، واصفا الاستقالة بأنها انتهاك للسيادة اللبنانية وعدوان سافر على “كرامة الحريري”. والملاحظ أنه أشار إلى الحريري في كلمته بعبارة “رئيس وزرائنا” ولم يقل “رئيس وزرائنا السابق”.
إذا ما جمعنا كل هذه التصريحات فسنجد سياقا يصعب معه الاستنتاج أن الحريري حينما غادر لبنان كان ينوي الاستقالة، بل الأغلب أنه هو ذاته لم يكن يعلم بأنه سيستقيل، ما يرجح نظرية أن السعوديين هم الذين فرضوا عليه الاستقالة، إلا أن معلوماتي الخاصة تفيد بأنه لم يتعرض للاعتقال.
جاء الحدث الثاني مدويا فعلا بعد ساعات قليلة من خطاب الحريري المتسم بالعدوانية، حيث سقط صاروخ بعيد المدى أطلقه المتمردون الحوثيون على بعد آلاف الكيلومترات في اليمن في منطقة قريبة من مطار الرياض شمالي العاصمة السعودية. زعم السعوديون أن دفاعاتهم اعترضت الصاروخ في الجو ولكن وردت تقارير عن مشاهد من الاضطراب والهلع على الأرض.
حتى تلك اللحظة كان الحوثيون يستهدفون في العادة مدينة جدة، أما أن تستهدف العاصمة بصاروخ بعيد المدى فكان ذلك بمثابة رسالة واضحة للسعوديين من وكيل الإيرانيين في اليمن نصها: “كلما ضغطتم على حزب الله فسوف نضغط عليكم في الرياض”.
الميكارثية تعود من جديد
وأما الحدث الثالث الذي قض مضاجع الكثيرين في تلك الليلة فكان قد أعد له بشكل جيد. كان سقوط الأمير متعب بن عبد الله متوقعاً على نطاق واسع. كان متعب يتولى مسؤولية القوة العسكرية الثالثة في المملكة بينما كان محمد بن سلمان قد استولى على وزارة الدفاع ثم وزارة الداخلية (بعد أن خلع ابن عمه محمد بن نايف). وكانت فقط مسألة وقت قبل أن ينقض ابن سلمان على متعب ليحكم بذلك سيطرته التامة على جميع التشكيلات المسلحة داخل المملكة.
جرت العادة تاريخيا على أن يجند منتسبو الحرس الوطني من داخل القبائل المنتشرة في أنحاء المملكة. ويوم الأحد جُمدت الحسابات البنكية لمشائخ القبائل التي تشارك في الجيش وفرض حظر على سفر المشائخ البارزين منهم. ينحدر هؤلاء بشكل رئيسي من قبيلتي مطير والعتيبة، وهم معروفون بولائهم للملك الراحل عبد الله. لا يخفى أن الهدف من هذا الإجراء هو سد الطريق على أي محاولة للتمرد أو الانشقاق.
لم يخطر ببالنا أن انقضاض محمد بن سلمان على متعب سيكون بهذه الدرجة من التوحش، فقد ألقي القبض عليه وعلى شقيقه تركي بتهمة الفساد، وكانت أول المعلومات عن توقيفهما قد وردت في إشارات صادرة عن الديوان الملكي استخدمت فيها الأحرف الأولى من اسم متعب بن نايف الذي قيل إنه متورط في قضايا فساد ذات علاقة بمبيعات عسكرية داخل وزارته. يذكر أنه تم إصدار هاشتاغ خاص بهذه المناسبة نصها: “الملك يحارب الفساد”.
بثت قناة العربية خبرا مفاده أن عشرة من الأمراء، ثم قالت إنهم أحد عشر أميرا، قد ألقي القبض عليهم مع 38 آخرين من رجال الأعمال والوزراء السابقين
في نمط من الممارسة الحكومية تكاد تكون فريدة من نوعها ولا توجد إلا داخل المملكة السعودية، يبدو أن قرار القيام بحملة التطهير سابق على الإعلان عن الهيئة التي شكلت لتبريرها. ذلك هو الأسلوب الذي ينتهجه الأمير الشاب، الذي ما فتئ بعض الخبراء في شؤون الشرق الأوسط يصرون على الإشارة إليه بأنه إصلاحي على النمط الغربي. يتصرف هذا الإصلاحي دونما اعتبار لأبسط متطلبات العدالة ودونما احترام لأي من مبادئ وإجراءات سيادة القانون، فهو يرى أن من أوقفهم ثم اعتقلهم مدانون حتى قبل أن يثبت أي جرم بحقهم.
تنطبق على هذه الهيئة كل صفات المكارثية من حيث الصلاحيات الممنوحة لها والمدى الذي يسمح لها بالذهاب فيه. فأول ما يلفت النظر في المرسوم الذي أسست بناء عليه أنها فوق القانون ومتجاوزة له، حيث ينص المرسوم الذي أمر بتشكيل الهيئة (التي يترأسها محمد بن سلمان) على ما يلي:
“استثناءً من الأنظمة والتنظيمات والتعليمات والأوامر والقرارات تقوم اللجنة بالمهام التالية …. التحقيق، وإصدار أوامر القبض، والمنع من السفر، وكشف الحسابات والمحافظ وتجميدها، وتتبع الأموال والأصول ومنع نقلها أو تحويلها من قبل الأشخاص والكيانات أياً كانت صفتها، ولها الحق في اتخاذ أي إجراءات احترازية تراها حتى تتم إحالتها إلى جهات التحقيق أو الجهات القضائية بحسب الأحوال”.
بمعني آخر، بإمكان الأمير الآن أن يفعل ما يريد بمن يريد، بما في ذلك مصادرة ممتلكات الأفراد داخل وخارج المملكة. ودعونا نذكر أنفسنا بما بات يسيطر عليه حتى الآن، فالأمير يترأس جميع الجيوش الثلاثة في المملكة العربية السعودية، ويترأس شركة أرامكو، أكبر شركة نفط في العالم، ويترأس الهيئة التي تناط بها المسؤولية عن جميع الشؤون الاقتصادية، والتي توشك أن تدشن أضخم عملية خصخصة تشهدها المملكة حتى الآن، وهو الآن يتحكم بشكل مطلق بكافة وسائل الإعلام السعودية.
باتت سيطرته على وسائل الإعلام جلية بعد الإعلان عن قائمة أسماء رجال الأعمال الموقوفين، بما في ذلك أولئك الذين يترأسون أكبر شبكات إعلامية في العالم العربي: إيه آر تي، إم بي سي، وروتانا. وفيما عدا ما تنتجه شبكة الجزيرة القطرية من مواد إخبارية، تنتج هذه الشبكات الإعلامية السعودية مجتمعة معظم ما يبث عبر الأثير من برامج تلفزيونية ناطقة بالعربية في الشرق الأوسط.
بات ملاك هذه الشبكات الإعلامية على التوالي – صالح كامل، ووليد الإبراهيم والأمير الوليد بن طلال- وراء القضبان، ومن المحتمل أن تكون أملاكهم قد صودرت. تقدر مجلة فوربس ثروة الأمير الوليد بن طلال، رئيس مؤسسة المملكة القابضة، بما يقرب من 18 مليار دولار. والرجل يملك حجما كبيرا من الأسهم في العديد من الشركات العالمية بما في ذلك نيوز كورب، سيتي غروب، توينتي فيرست سينشري فوكس وتويتر. حتى هذه الأسهم آلت إلى إدارة جديدة الآن. وممن وردت أسماؤهم بين الموقوفون رئيس مؤسسة الاتصالات السعودية، أكبر مزود لخدمات الهواتف النقالة في المملكة.
لئن شكلت التحركات السابقة لابن سلمان استيلاء على السلطة فقد كانت تحركات ليلة السبت استيلاء على الثروة
وبغض النظر عن المخاطر السياسية التي يمكن أن تنجم عن “تشليح” هذا العدد الكبير من أثرياء السعودية من أموالهم، لا ريب أن هذا أسلوب غاية في الغرابة لتشجيع الأجانب على الاستثمار في المملكة. بل يمكن الجزم بأن ما اتخذه ابن سلمان من إجراءات ليلة السبت كأنما صمم ليخيف المستثمرين ويشرد بهم من خلفهم.
يعاني الاقتصاد من حالة من الركود والاحتياطات الأجنبية توشك على النفاد. وفي مثل هذه الظروف يعمد ابن سلمان إلى مصادرة ممتلكات أكبر أثرياء المملكة، بل ويشكل هيئة لديها من الصلاحيات ما يمكنها من مصادرة الممتلكات داخل البلاد وخارجها. إذن، ما الذي سيمنعه من أن يفعل الشيء ذاته بممتلكات المستثمرين الأجانب إذا ما نشب خلاف بينه وبينهم
كما أن ملاحقة كبار الملاك مثل بكر بن لادن، الذي يترأس أكبر شركة إنشاءات في المملكة، ستكون لها تداعياتها المباشرة على بقية الاقتصاد في البلاد. فمجموعة ابن لادن تشغل آلاف المقاولين الثانويين. ولعل ابن سلمان يكتشف قريباً أنه يستحيل المزج بين عمليات التطهير ومشاريع التجارة والاستثمار.
بلغني من مصادر موثوقة أن الأمير الوليد بن طلال رفض الاستثمار في مشروع نيوم، المدينة الضخمة التي أعلن محمد بن سلمان أنه بصدد إنشائها، وأن ذلك هو السبب المباشر الذي دفع ولي العهد للانقضاض على ابن عمه. إلا أن الوليد بن طلال كان أيضاً قد تصادم مع ابن عمه حينما طالب علانية بإخلاء سبيل محمد بن نايف من الإقامة الجبرية المفروضة عليه.
لم يعد ثمة شك في أن الرياض باتت عاصمة القلاقل في الشرق الأوسط، وأن التحركات التي قام بها الأمير الذي يبلغ من العمر 32 عاما ليستحوذ على السلطة بشكل مطلق بإمكانها أن تزعزع الأمن والاستقرار في البلدان المجاورة وأن تقيل رؤساء الوزراء فيها
النقطة الأخرى التي تجدر ملاحظتها هي أن جميع فروع العائلة الملكية الحاكمة تضررت بسبب حملة التطهير هذه وبسبب ما سبقها من حملات. لك أن تتأمل في أسماء الأمراء الذين ألقي القبض عليهم- الوليد بن طلال، عبد العزيز بن فهد، محمد بن نايف، منصور بن مقرن. وهذا الأخير لقي حتفه في حادث تحطم مروحية بينما كان فيما يبدو يسعى للهرب خارج البلاد. ما تشي به هذه الأسماء هو شيء واحد – لقد أصبحت الصدوع داخل العائلة الملكية الحاكمة عميقة جداً ووصلت فيها حتى النخاع.
هل يمكن لكل هذا أن يحدث دون ضوء أخضر آخر من ترامب؟ لقد غرد بالأمس عبر “تويتر” قائلا إنه “يقدر كثيراً للمملكة العربية السعودية طرحها أسهم أرامكو في بورصة نيويورك، فهذا أمر مهم بالنسبة للولايات المتحدة.” كما اتصل ترامب بالملك سلمان وهنأه على كل ما أنجزه منذ أن وصل إلى السلطة. أضف إلى ذلك أن التحركات الأخيرة جاءت بعد أن أنهى جاريد كوشنر زيارته الثالثة إلى المملكة هذا العام.
لئن لم يكن الأمر جليا من قبل، فلابد أن يكون قد اتضح الآن. لم يعد ثمة شك في أن الرياض باتت عاصمة القلاقل في الشرق الأوسط، وأن التحركات التي قام بها الأمير الذي يبلغ من العمر 32 عاما ليستحوذ على السلطة بشكل مطلق بإمكانها أن تزعزع الأمن والاستقرار في البلدان المجاورة وأن تقيل رؤساء الوزراء فيها. والأسوأ من ذلك أن هذا الأمير يحظى فيما يبدو على تشجيع رئيس الولايات المتحدة الذي لا يدرك عواقب ما تقترفه يداه.
لابد أن من أوتوا الحكمة من ذوي الألباب في واشنطن العاصمة مثل وزير الخارجية ريكس تيلرسون ووزير الدفاع جيمس ماتيس يشدون شعر رؤسهم غيظا، أو على الأقل ما تبقى لهم من شعر. وما كان ليدهشني أن أعلم بأن تيلرسون سئم من محاولات إطفاء الحرائق التي يستمر رئيسه والبطانة التي تحيط به في إشعالها هنا وهناك.
المصدر: ميدل إيست آي