تحاول السينما معالجة القضايا الإنسانية المهمّة والعثور على إجابات للأسئلة الإنسانيّة الصعبة في شتى نواحي الحياة، بما في ذلك الحبّ والعلاقات والزواج والولاء والإخلاص بين الشريكين، وتغيرات الحياة بعد الإنجاب والدور الأسريّ وغيرها الكثير.
في ستينات القرن الماضي، شهدت السينما تحوّلًا كبيرًا مع بروز الحركات النسوية من جهة والثورة الجنسية من جهةٍ أخرى، أو المصطلح الذي يوصف به التغيير الجذري في العلاقات الجنسية في العالم الغربي بين نهاية الستينيات وبداية السبعينيات. فقد تمّ إنتاج العديد من الأفلام التي تحكي عن المرأة من وجهة نظر نسويّة، أو المرأة التي لم تعد راضية عن زواجها فبدأت طريقها للتحرّر، أو المرأة التي اكتشفت ذاتها بعيدًا عن سياق الزواج والمجتمع، وغيرها الكثير من الأمثلة.
وفي السنوات التي تلت تلك المرحلة لم تركّز السينما –هوليوود أقصد- على الزواج كعلاقة أساسية يجب تناولها ومحاولة تصويرها للجمهور بطريقة واقعية وحقيقية، وإنما كانت علاقات الحبّ الرومانسية ومواعيد التعارف وحفلات الزفاف على سبيل المثال جزءًا أساسيًا من تلك الأفلام التي كانت غالبًا ما تنتهي “نهاية هوليوودية سعيدة” بزواج بطليْ القصة، دون أيّ تناول لحيثيات الزواج وطبيعته وإيجابيّاته ومشكلاته وتحدياته.
أمّا في الآونة الأخيرة، فقد تحوّل الزواج لعقدةٍ حرجة في معظم الأفلام، لأنه أصبح غريبًا ونادرًا بعض الشيء في تلك المجتمعات، فلم يعد الزواج هو الطريق الوحيد لأنْ يعيش اثنين مع بعضهما البعض، يمكنهما فعل ذلك بدون زواج، أو أن يخوض الفرد علاقة جنسية بدونه، كما أصبح يمكنهما إنجاب أطفال دون زواجٍ أيضًا. وبالتالي أصبح أيّ فيلم يتناول الزواج كموضوعٍ رئيسيّ هو إما كوميديّ أو رومانسيّ لا يمتّ للواقع بأي صلة، لكنّ هذا لا يمنع من وجود عددٍ قليل جدًا من الأفلام التي تستحق الإشادة في طريقة تناولها وعرضها للعلاقات الحميمة والزواج وما يتعلّق بها من أفكار وجوانب.
Certified Copy: نقاش ملحميّ بين الحقيقة والوهم
لقاء بين رجل وامرأة لمدة ساعات متصلة، وحوارات ملحميّة حول الحبّ والإخلاص والأصالة والزواج والأبوّة والاستقلال والضعف البشريّ، والإيمان. يتلاعب الفيلم بطريقةٍ ذكية جدًأ بين الأصل والنسخة المأخوذة عنه، وبين التعقيد والبساطة، وبين الواقع والمِثال، وبين الحقيقة والوهم، وبين العمل الفنيّ كما أراده صاحبه والعمل الفنيّ كما يراه الناس، وكلها أفكار فلسفية مهمة تحاول الوصول لمعنى الحبّ والزواج والأبوّة والفنّ، وسؤال أساسيّ ستبقى تسائل نفسك إيّاه أثناء مشاهدة الفيلم: هل هو نقاشٌ ملحميّ بين زوجين حقيقيّن أم أنها لعبة عشوائية بين غريبيْن التقيا للتوّ؟
Dodsworth : الزواج والسياق الاجتماعيّ
قد يكون هذا الفيلم قديمًا، قديمًا جدًّا (1936)، لكنه بالمطلق واحد من أفضل الأفلام التي تناولت موضوع الزواج بطريقةٍ ناضجة وواقعية بشكلٍ مثيرٍ للدهشة. ومما لا شكّ فيه أنه واحد من أعظم أفلام العقد الأول للأفلام المتكلّمة.
يقوم الفيلم على رواية سنكلير لويس التي حملت الاسم نفسه، ويحكي قصة زوجين أمريكيّين في منتصف العمر كانا يعيشان بسعادة في مدينة صغيرة، ثمّ يقرّران السفر إلى أوروبا بعد نجاح عمل الزوج وتجميعه للمال الوفير. هو زوجٌ جيّد وأبٌ جيّد وربّ أسرة جيد. وهي كانت زوجة صالحة وشريكةً جيدة وأمًّا رائعة، أي أنّ الفيلم يحاول أن يوصل للمشاهد رسالةً مفادها أنّ حياة الزوجين أقرب للكمال. لكن ماذا يحدث بعد السفر؟
عندما غادر الزوجان محيطهما وبدأا بعيش حياتهما بطريقةٍ مغايرة عما كانا يعيشانه ضمن قواعد المجتمع وتقاليده وأعرافه، اكتشفا أنهما غير متوافقين بطريقةٍ كبيرة، أهدافهما مختلفة ومواقفهما متعاكسة. بدأت الزوجة بالبحث عن الإثارة التي لم تكن لديها أبدًا، حيث كانت حياتها تقتصر على البقاء في المنزل ورعاية زوجها واستقبال صديقاتها.
ما حدث باختصار أنّ كلا الزوجين اكتشف فجأة أنه لا يعرف الطرف الآخر، ولا يمكنه التواصل معه كما كان يفعل ضمن إطار الحياة السابقة والمجتمع السابق.
تنمو شخصية الفرد بشكلٍ مختلف وفقًا للمجتمع الذي يعيش في محيطه، أيّ أنّ السفر والعيش في مكانٍ جديد أمران كفيلان بتغيير شخصيته ونظرته لنفسه ولشريكه ولغيره، الأمر الناتج أساسًا من اكتشافه لأناه وذاته في سياقٍ اجتماعيّ جديد بعيدًا عن ذلك القديم، وبالتالي تصبح السلطة الاجتماعية غير ذات أهمية، ويبدأ الفرد بالتنصّل منها شيئًا فشيئًا إلى أنْ تولد ذاتٌ جديدة مختلفة كليّا عن التي قبلها، وهذا ما حدث تمامًا مع الزوجين في الفيلم.
Revolutionary Road: حين يصبح الواقع جحيمًا للزواج
استنادًا إلى رواية ريتشارد ييتس التي نُشرت عام 1961 وحملت نفس الاسم، جاء الفيلم ليسلّط الضوء على بعض التحديات والحقائق المريرة التي قد تأتي أحيانًا مع الحياة الزوجية.
تدور أحداث الفيلم في خمسينيات القرن الماضي في أمريكا، حيث ما زال “الحلم الأمريكي” يلوح في الأفق حاملًا الكثير من الاحتمالات والآمال. وهناك فرانك (ليوناردو دي كابريو) وأبريل ويلر (كيت وينسلت)، الزوجان اللذان قد دخلا للتو في هذا “الحلم”، وبينما تبدو ابريل سعيدة ومستقرة، إلا أنها تخفي استياءً متزايدًا تجاه العلاقة والزواج، ونفورًا قويّا للحياة التي تشرع هي وزوجها في بنائها معًا.
تحتوي العلاقة على خطط متغيرة باستمرار في وظيفة الزوج، أما الزوجة فتكاد تصاب بانهيار عصبيّ نتيجة ابتعادها عن طموحها بأن تصبح ممثلة كما كانت في السابق. وهذا ما يركّز عليه الفيلم، كلا الزوجين يفقدان تحكّمها باستقرار العلاقة ويتجهان ببطء نحو جحيمها، بعد بدايةٍ رومانسية مليئة بالسعادة والرضا.
ربما يحاول الفيلم أن يوصل للمشاهد أنّ الزواج له طريقين دومًا، ومحكومٌ باحتمالات عدّة باستمرار من خلال تصوير صورة صادقة وحقيقية قريبة قدر الإمكان من الواقع الذي يمكن لأيّ زواجٍ أن يكون عليه.
Blue Valentine: كيف يبدأ الزواج وكيف ينتهي؟
يبدأ الفيلم بعرض مشاهد من زواج “دين” و”سيندي” الذي يأخذ منحنىً نحو الانهيار والنهاية، وفي الوقت ذاته وبشكلٍ موازٍ مع تلك المشاهد، ثمّة منحنىً لعلاقتهما في الماضي التي بدأت بحبٍ أو إعجابٍ من النظرةِ الأولى ثمّ امتلأت بالسعادة والخفّة، يتطور المنحنيان طوال أحداث الفيلم كي يلتقيا عند نقطة الذروة والنهاية في المشهد الأخير.
وعلى الرغم من أنّ نهاية الفيلم كانت مؤلمة بعض الشيء، إلا أنّ التمثيل كان صادقًا ومجرّدًا، كما أنّ الحبكة كانت أصيلة، فأنتَ لن تشعر بزيف المشاهد ولا تكلّفها، وإنما سترى واقعًا يُعرض أمامك في هيئة مشاهد مصوّرة.
وفقًا لعالم الاجتماع الأمريكيّ إيرا ريس، فيرتكز الحبّ كظاهرة تنموية على أربع مراحل تتفاعل بين بعضها البعض بين كلا الطرفين. يبدأ الحبّ كعلاقة أو “صِلة”، أو قدرة الشريكين على الشعور بالراحة معًا وتجاه بعضهما البعض، وهذا ما توفّر بسهولة بين بطليْ فيلمنا هذا.
أما المرحلة الثانية فهي “الكشف الذاتي”، أي القدرة على تعرية النفس والأفكار والعواطف والقضايا الشخصية والحميمية للطرف الآخر. ومثل معظم الناس الآخرين في بداية العلاقة، كشفت الشخصيات الرئيسية في “بلو فالنتين” الجوانب “الجيدة” من أنفسهم دون “السيئة”، فسيندي لم تسمح أبدًا لزوجها بمعرفة يأسها ومخاوفها وأفكارها بالنسبة للاستقرار والزواج، كما لم يكشف لها دين عن طموحه وأحلامه.
ولو جئنا للواقع، لوجدنا أنّ كثيرًا من علاقات الحبّ أو الزواج تنتهي بسبب فشل أحد الشريكين أو كليْهما في عبور واحدة أو أكثر من تلك المراحل الأربع
ونظرًا لأنها حافظا على الصفات الأقل جاذبية لنفسيهما فقط، تمكن كلٌّ من سيندي ودين من الانتقال إلى المرحلة التالية، “الاعتماد المتبادل”، وعندها بدآ بالاعتماد على بعضهما البعض ليصبحا “زوجين” و”شريكيْ حياة”.
أما المرحلة النهائية فتسمّى مرحلة “تلبية الاحتياجات الشخصية”، أي قدرة الشركاء على تلبية احتياجات بعضهم البعض. هنا تعثّرت علاقة سيندي ودين حقًّا، الأمر الذي يرجع لفشلهما في مرحلة “الكشف الذاتي”، فلم يعرف كلٌّ منهما ما يحتاجه الآخر، وماذا يريد وإلى ماذا يطمح.
ولو جئنا للواقع، لوجدنا أنّ كثيرًا من علاقات الحبّ أو الزواج تنتهي بسبب فشل أحد الشريكين أو كليْهما في عبور واحدة أو أكثر من تلك المراحل الأربع. فكم من زواجٍ نشأ على إعجابٍ أو حبٍّ وتكوين صلةٍ إلا أنه لم ينجح قطّ في مرحلة الكشف الذاتيّ أو مرحلة تلبية الاحتياجات؟!