ما زلنا نجد الحاجة إلى تفكيك الاستئصال بصفته ممارسة معادية للديمقراطية، وقد علمتنا ذلك تجربة تونس السياسية منذ ما قبل الثورة. ونحن نتابع هذه الأيام محاولات النخبة التونسية الخروج من تحت سقف الانقلاب ونسمع حديثهم عن استعادة الديمقراطية، لا نشاركهم التفاؤل بقرب تحقيق مطلبهم لأننا نرى أن العاهة التي كسرت تجربة البناء الديمقراطية بعد الثورة لا تزال فعالة وتؤطر كل التحركات السياسية ونعني عاهة الاستئصال السياسي التي نجزم أنها عاهة مانعة للديمقراطية، بل مانعة لكل تقدم تاريخي على طريق الديمقراطية.
الاستئصال في تونس تخصص حداثي
من حيل الاستئصال في تونس أن الاستئصالي يميع الحديث بقول خبيث مفاده أن “الجميع يستأصل الجميع”، فيجعل الضحايا مساوين للمجرمين، لكننا نؤصل الممارسة الاستئصالية بلا وجل ولا تردد في ممارسات الزعيم المؤسس بورقيبة ومنه تعلم تلاميذه وواصلوا بناء السياسة على قتل الخصوم فعليًا ورمزيًا.
استلم بورقيبة مجتمعًا تعدديًا يوجد به تيار أصولي زيتوني وتيار يساري شيوعي وليبراليون وعروبيون قوميون فمنع بالقوة الجميع من الفعل السياسي باسم الوحدة القومية (مشروع الأمة التونسية ذات الرسالة التحديثية)، ومن هناك بدأ الاستئصال فصار أساس بناء الدولة ذات الصوت الواحد والرأي الواحد والزعيم الواحد الأوحد.
كان الاحتمال الديمقراطي بعد الاستقلال قريبًا، لكن الزعيم محاه وأسس أسطورته التي لا مثيل لها ولا شريك ولا بديل عنها، لقد شرع القتل السياسي فبنى دولة قاتلة لأبنائها قتلًا رمزيًا، لكنها لم تتورع عن قتل حقيقي لم تضع أسماء ضحاياه حتى الذين دفنوا في الخرسانة.
الغريب أن ضحايا الاستئصال في دولة بورقيبة تحولوا بسرعة إلى أدوات استئصال في دولته، فالذين تعرضوا للإلغاء السياسي هم الآن في قلب ماكينة الاستئصال التي تواصل الدولة توظيفها ضمن نفس المشروع، لقد تغير الضحايا.
الاستئصال دمر الثورة
حدثت انتفاضة أسميناها ثورة وبها صار احتمال بناء الديمقراطية أفقًا ممكنًا وشرع فعلًا في التمرين المؤسس وهو الانتخابات الشفافة وسار البلد خطوات مهمة حتى أوشك أن يقضي على الاستئصال أي أن يعيد بناء الدولة على أسس ديمقراطية، لكن ثقل الاستئصاليين غلب، فارتدت الدولة والمجتمع عن مسار البناء الديمقراطي وأقصى الطامعون الجدد في المشاركة أي ضحايا الاستئصال الذي استمر منذ تأسيس الدولة حتى حصول الثورة.
من هؤلاء؟ إنهم أبناء الداخل المفقر والضواحي المهمشة في المدن الكبرى منذ تأسيس الدولة والذين عبروا عن وجودهم بانتماء الغالبية منهم إلى الإسلاميين الذين كانوا مزيجًا من العروبيين اليوسفيين والزيتونيين والتيارات الإسلامية المستجدة المقموعين منذ البداية.
شكل هؤلاء مع آخرين يشبهونهم تيارًا غير متجانس غير أنه يشعر بأن له حقًا سلب منه وقد حان أوان استرداده، وكان مجرد ذكر الحقوق كالتنصيص على الميز الإيجابي في الدستور أو ذكر اللامركزية الإدارية (الباب السابع من دستور 2014) مثيرًا لمخاوف الاستئصاليين المالكين الفعليين للدولة ولمنافعها، فانطلقت حرب الاستئصال من جديد وبوسائل غاية في الخسة حتى وصلت تونس إلى وضعها الراهن وقد خسرت الديمقراطية وتعمل على استعادتها متجاهلة أسباب ضياعها.
الذين ضيعوا الديمقراطية لن يعيدوها
الأمر بسيط وواضح لكل متابع بأقل القليل من أدوات التحليل السياسي، الذين كانوا سببًا ووسيلةً لسقوط التجربة ينوحون الآن عليها ويزعمون السعي في إعادة إصلاح ما فسد، دون أن ينبس أي منهم بقول أو إشارة إلى دوره في أسباب سقوطها، بما يقلل من الثقة في خطابهم ولا يمكنهم من استمالة الجمهور الصامت إلى مشروعهم أو إلى أشخاصهم.
إن إحدى أسس الخطاب الاستئصالي وتعبيراته هي احتقار الجمهور والاستهانة بذكائه لأنه لا يملك اللغة الأنيقة التي تستعملها النخب، فيخيل إلى الاستئصالي أن الجمهور الجاهل سلس القياد، فيعيد عليه نفس الأكاذيب معتقدًا أنه نسى السابق منها، لكن الجمهور لا ينسى، إنه فقط يتجاهل لأنه لا يملك الوقت والرفاه ليخوض حروب النخب والاستئصالية منها بالخصوص، فالتونسيون في الأعم الأغلب منهم ليسوا إسلاميين بالمعنى الحزبي لكنهم لا يجدون سببًا للحرب على الإسلاميين، لذلك لا يصوتون لهم لكنهم لا يحاربونهم.
تحت تأثير التيار الاستئصالي وجد عامة الناس أنفسهم في حرب مع الإسلاميين يقودهم خطاب إعلامي منظم وماكر بمجموعة من الأكاذيب والخدع منها على سبيل المثال أن الإسلاميين (النهضة) حكموا وحدهم بعد الثورة وأنهم مكنوا لعناصرهم من مفاصل الدولة وأنهم سرقوا المال العام بتعويضات مالية.
بعد الانقلاب وبعد قضايا كثيرة رفعت ضدهم على أساس الأكاذيب المذكورة، لم يظفر قاض واحد بسبب متين لإدانة أي منهم، ولم يتخل الاستئصاليون عن كذبهم لكن قطاعًا واسعًا من الجمهور طرح أسئلة كثيرة عن الكاذبين والمكذوب عليهم.
ونظن يقينًا أنهم انسحبوا من حرب ليست حربهم، لا نظنهم اقتربوا من الإسلاميين (فالصندوق الانتخابي غائب) لكن يقينًا أنهم ابتعدوا عن الاستئصاليين، خاصة وهم يرون الاستئصاليين يتوددون للإسلاميين ويريقون كرامتهم أمام عتبات مقر حزب النهضة المغلق عسى أن يظفروا بأصواتهم في انتخابات قادمة.
بمثل هذا العقل الذي ولا يصحح أخطاءه ولا يعتذر عن أكاذيبه، لا يمكن للديمقراطية أن تعود، فكما في الأمثلة الاعتبارية المختص في الهدم لا يمكنه البناء، والاستئصاليون التونسيون هدامون لا بناة.
سنتابع بهدوء اللغو الكثير حول استعادة الديمقراطية، فالمبادرات تنهمر انهمارًا في الساحة، لكن نقول بيقين إن الديمقراطية لا تزال بعيدة عن تونس لأن قوة الجرثوم الاستئصالي متغلغلة في نفوس كثيرة وتقود عقولًا مؤثرة في مواقعها وتملك القوة المالية لتمويل خطابها وصناعة حراسها، وما هذه المبادرات إلا بعض لغوها للقفز على الدستور الوحيد الذي يعمل على إنصاف الضحايا من جلاديهم، وأي تخفيض أو تعديل في المفردات الاستئصالية هو رشوة غير مكلفة للفوز بأصوات الضحايا، لأن أي شخص يقف في منبر ليصرح بأن للإسلاميين الحق في المشاركة هو استئصالي بامتياز لأنه خول لنفسه أن يوزع حقوقًا لا يملك توزيعها على مستحقين وضعهم في وضع الدونية.
إن أي شخص أو تيار يعطي نفسه حق توزيع حقوق سياسية خارج الصندوق الانتخابي هو استئصالي غريزي يتعمد القتل ولن يكون سببًا من أسباب الديمقراطية.