مع تراجع السيولة المالية في تونس، وارتفاع حجم المعاملات النقدية في البلاد وذهاب حجم كبير منها في الأسواق الموازية بعيدًا عن الدولة، ارتفعت أصوات تنادي بضرورة إلغاء التعامل نقدًا في تونس أو سحب بعض الأوراق النقدية وتغييرها للكشف عن المهربين وإجبارهم على الدخول في اقتصاد البلاد الرسمي، وتوفير سيولة مالية لهذا البلد العربي الذي يعاني اقتصاده من أزمات متتالية منذ سنوات عدة.
ارتفاع التعامل نقدًا
مؤخرًا كشف البنك المركزي التونسي ارتفاع مستوى المعاملات النقدية في البلاد، مما دفعه للدعوة إلى ضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من التعامل نقدًا، وتعتمد خطة المركزي التونسي التي دعا كل الأجهزة المالية للاندماج فيها، على التقليص من التعامل نقدًا في الاقتصاد وتطوير أنظمة وطرق الدفع الإلكتروني.
وفي الفترة الأخيرة سجل حجم النقود والأوراق النقدية المتداولة في تونس رقمًا قياسيًا، ففي أحدث تقرير للبنك المركزي التونسي، أفاد البنك أن حجم الأوراق والقطع النقدية المتداولة تضاعف منذ سنة 2010 وبلغ في شهر يونيو 2017 حجم 11.152 مليار دينار، وهو ما يمثل 12 %من حجم الناتج الخام للبلاد، وكان حجم النقود والأوراق النقدية المتداولة في تونس أواخر 2010 قد بلغ 5.790 مليار دينار.
شح في السيولة
في الوقت الذي وصلت فيه التعاملات نقدًا إلى أكثر من 11 مليار دينار سنويًا (4.5 مليار دولار)، تعاني البنوك التونسية من شح في السيولة يعادل 9 مليارات دينار، حسب بيانات لاتحاد الصناعة والتجارة (منظمة رجال الأعمال)، وفي يوليو/تموز الماضي كشف وزير المالية المقال فاضل عبد الكافي أن السيولة النقدية في البلاد نزلت إلى أدنى مستوياتها التاريخية بما لم يعد يسمح حتى بتوفير نفقات التسيير.
ارتفاع ضخ السيولة النقدية من البنك المركزي للبنوك بين نهاية 2010 ويونيو 2017 بنسبة 300%
الأزمة المتفاقمة على مستوى السيولة النقدية، دفعت البنك المركزي إلى ضخ السيولة اللازمة حتى تواصل المنظومة المالية في البلاد القيام بمهامها، وإلى حدود نهاية يونيو الماضي ضخ البنك المركزي التونسي 9.182 مليار دينار في السوق المالية، وسبق للبنك المركزي أن حذر في تقرير سابق له بخصوص مستجدات الوضع الاقتصادي والمالي في البلاد من أن حاجيات البنوك من السيولة ما فتئت تتزايد من شهر إلى آخر.
وتكشف هذه المؤشرات ارتفاع ضخ السيولة النقدية من البنك المركزي للبنوك بين نهاية 2010 ويونيو 2017 بنسبة 300%، مما يعكس حجم الأزمة التي تعيشها البلاد، فمع نهاية 2010 كان حجم ضخ السيولة لدى البنوك 3 مليارات دينار، ليرتفع إلى 4.250 مليار دينار نهاية سنة 2012، و6 مليارات دينار نهاية 2015، و8 مليارات دينار نهاية العام 2016.
اتساع رقعة الاقتصاد الموازي
ارتفاع حجم المعاملات النقدية، حسب العديد من الخبراء، يعتبر دليلًا على اتساع رقعة الاقتصاد الموازي في البلاد إلى مستويات تفوق الاقتصاد الرسمي، وهو ما ينعكس سلبًا على الاقتصاد الوطني لتونس الذي يعاني من أزمات متعددة.
وفي وقت سابق من الشهر الماضي كشف لطفي الرياحي – رئيس المنظمة التونسية للدفاع عن المستهلك (منظمة مستقلة) – عن سيطرة العلامات التجارية المقلدة على نسبة مهمة من الأنشطة الاقتصادية في تونس، مقدرًا تلك النسبة بنحو 80% من سوق مكونات السيارات والملابس ومواد التجميل ومنتجات التبغ، وأكد الرياحي على التوسع المتواصل لهذه الظاهرة مما جعلها تشمل كل أصناف المواد الاستهلاكية، مثل مكونات السيارات ومواد التجميل والملابس الجاهزة والجلود والأحذية والنظارات والمواد شبه الطبية والمواد السمعية البصرية، إلى جانب الصناعات الثقافية ومواد الصناعات التقليدية.
خسائر كبيرة نتيجة التهريب في تونس
وتشير هذه النسبة المرتفعة من العلامات التجارية المقلدة المنتشرة في تونس التي تأتي بطرق غير نظامية، إلى حجم الاقتصاد الموازي في البلاد الذي لا يوفر عائدات مالية لخزينة الدولة وإنما يقوم باستنزافها، وتفوق نسبة التجارة الموازية في تونس حدود 50% من المبادلات التجارية، وتسعى الحكومة إلى تخفيضها لتبلغ نحو 20% سنة 2020، وتؤكد بعض الدراسات الاقتصادية أن الاقتصاد الموازي يوفر نحو 520 ألف فرصة عمل في تونس، ويتحكم في نسبة 40% من الناتج المحلي الإجمالي.
وقدر البنك الدولي في دراسة أعدها سنة 2014 أن تونس تجني خسائر بنحو 1.2 مليار دينار، منها 500 مليون دينار خسائر نتيجة عدم دفع الرسوم الجمركية والتجارة الموازية والتهريب، ونبهت مجموعة الأزمات الدولية في تقرير سابق بعنوان “الانتقال المعطل: فساد ومناطقية في تونس” إلى أن بارونات الاقتصاد الموازي وخصوصًا التهريب على الحدود مع ليبيا والجزائر راكموا المليارات من الدولارات بعد الإطاحة مطلع 2011 بنظام بن علي.
وعلى امتداد السنوات الـ6 الأخيرة، تزايدت عمليات التهريب إلى تونس من الجزائر وليبيا وفي الاتجاه المعاكس، وتوسعت بشكل كبير لتشمل مختلف أنواع البضائع لتصل إلى الوقود والسلاح، كما تسببت في ركود القطاع التجاري الرسمي وفقدان الكثير من فرص العمل.
إلغاء الأوراق النقدية
يعتقد خبراء أن إلغاء الأوراق النقدية أو سحب بعضها وتغييرها سيوفر سيولة للبنوك، كما أن من شأن هذا الإجراء الكشف عن المهربين وإجبارهم على الدخول في الاقتصاد الرسمي للبلاد، ويقول خبراء اقتصاد تونسيون إن ذلك يساعد بشكل كبير على إدماج جزء من عائدات الاقتصاد الموازي في الدورة الاقتصادية المنظمة، ذلك أن طباعة أوراق نقدية جديدة ستدفع تجار السوق السوداء ممن يحوزون مبالغ ضخمة من العملة نقدًا إلى التقدم بها للبنوك بهدف استبدالها بالعملة الجديدة.
ومؤخرًا أكد رئيس الجمعية المهنية التونسية للبنوك والمؤسسات المالية أحمد الكرم ضرورة حذف التعامل نقدًا في تونس في أقرب الآجال، وقال الكرم في تصريح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء إن من مصلحة تونس تقليص التعامل بالأوراق النقدية والمسكوكات والتحول إلى العالم الرقمي، ويمثل حذف التعامل بالأوراق النقدية – حسب خبراء – حلًا مهمًا للقضاء على جزء كبير من التهرب من الضرائب، كما يهدف إلى تحسين نسبة الانخراط في المنظومة البنكية والمالية، والحد من تداول الأموال خارج الدورة الاقتصادية، وتوفير سيولة مالية بنكية قدرها خبراء في الاقتصاد بالمليارات.
تغيير العملة المحلية أو سحب بعض فئات الأوراق النقدية من الحلول التي يطرحها الاقتصاديون للحد من السيولة المتداولة في السوق السوداء
وقبل ذلك قالت رئيسة “الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة” وداد بوشماوي إن دمج القطاع الموازي في القطاع المنظم وسحب الورقة النقدية من فئة 50 دينارًا إجراءات ستوفر موارد مالية كبيرة للدولة، وبينت بوشماوي في حوار مع “وكالة الأنباء التونسية” أن سحب هذه الفئة سيكشف بالتأكيد العديد من المتهربين والمهربين الذين يتعاملون بهذه الورقة في شكل أساسي.
وشرع البنك المركزي التونسي في القيام باستشارات من أجل إرساء مسار لتقليص التعامل نقدًا بهدف الارتقاء بالإدماج المالي ودعم موارد المنظومة المصرفية لفائدة الاقتصاد المنظم ومكافحة الأنشطة الموازية والممارسات غير القانونية، وتعمل حاليًّا 3 لجان فنية تابعة للبنك المركزي على تحسين النظام الاقتصادي والنهوض بوسائل الدفع الإلكتروني وتعزيز القوانين والتشريعات لمقاومة الاقتصاد الموازي.
البنك المركزي التونسي
وفي سنة 2012 قرر البنك المركزي التونسي تغيير الأوراق النقدية من فئة 20 و50 دينارًا وسحب الأخرى من فئة 30 دينارًا، وهو ما كلف خزينة الدولة حينها نحو 8.5 ملايين دينار، ويتم طباعة الأوراق المالية التونسية عن طريق مؤسسة أوبيرتير للتكنولوجيا، وهي مؤسسة أوروبية تعتمد على تقنيات عالية ومتقدمة يابانية وألمانية.
وفي حال قررت الحكومة التونسية تغيير بعض الفئات النقدية، فإن ذلك سيعود بالفائدة على الاقتصاد التونسي، من خلال توفير مبالغ مالية لا تقل عن 3 مليارات دينار (نحو 1.5 مليار دولار)، وهو مبلغ كفيل بالقضاء على عجز الميزانية المسجل في تونس بنهاية السنة الحاليّة، ويؤكد خبراء اقتصاد أن هذا الإجراء يعتبر من بين الإصلاحات الاقتصادية الجريئة التي يتعين على الحكومة الجديدة اتخاذها والإسراع بتنفيذها.