يسعى نظام الأسد منذ بداية العام 2024 إلى إعادة رسم المشهد الأمني في سوريا، إذ اتخذ إجراءات طالت قيادات وإدارات استخباراتية نشأت وترعرعت في المؤسسات الأمنية منذ عهد الأسد الأب.
بدأت هذه التغييرات عام 2019 وشملت وقتها تعيين اللواء حسام لوقا مديرًا لإدارة المخابرات العامة، خلفًا للواء ديب زيتون، كما حل ناصر ديب، الرئيس السابق لفرع الأمن السياسي في حماة رئيسًا لإدارة الأمن الجنائي بدلًا عن صفوان عيسى، بينما عين اللواء غسان جودت بدلًا عن اللواء جميل الحسن على رأس إدارة المخابرات الجوية. وذلك بحسب صفحات موالية، ومنها صفحة عمر رحمون عضو ما يسمى بـ”هيئة المصالحة” في سوريا.
وفي بداية عام 2024 تداولت صفحات موالية للنظام السوري، أنباءً عن تغييرات كبيرة على مستوى الأجهزة الأمنية وفروع المخابرات من دون إعلان رسمي من وسائل إعلام النظام أو وكالاته.
وبحسب هذه الصفحات فقد تم إقالة اللواء علي مملوك من منصبه رئيسًا لمكتب الأمن الوطني، وتعينه مستشارًا رئاسيًا لشؤون الأمن الوطني. إضافة إلى ذلك عيّن بشار الأسد بحسب المصادر، كلًا من اللواء كفاح ملحم، رئيسًا لمكتب الأمن الوطني، خلفًا للواء مملوك الذي تسلم المنصب عام 2012، كما عيّن اللواء كمال حسن الذي كان يرأس فرع فلسطين (الفرع 235)، رئيسًا لإدارة المخابرات العامة خلفًا لملحم.
وفي هذا السياق أعلنت صفحة رئاسة النظام السوري في “فيسبوك”، شهر يناير/كانون الثاني الماضي، لأول مرة عن اجتماع ترأسه بشار الأسد جمع قادة الأجهزة الأمنية في الجيش والقوات المسلحة التابعة للنظام، بهدف “الهيكلة” ومناقشة التحديات الإقليمية، وأضافت أن الاجتماع جرى بحضور رئيس مكتب الأمن الوطني ومستشار الشؤون الأمنية في الأمانة العامة لرئاسة النظام، دون تسميتهم.
هذه “الهيكلية الجديدة” لم تقتصر على رؤوساء وقادة الأجهزة الأمنية، بل طالت أيضًا بعض إدارات المخابرات، من ذلك ما أفاد به مصدر أمني لوكالة “سبوتنيك” الروسية، بشأن قرار أصدره اللواء كفاح ملحم بتوجيه من رئيس النظام السوري يوم 21 مارس/آذار 2024 والقاضي بدمج شعبة الاستخبارات العسكرية والمخابرات الجوية في جهاز أمن واحد تحت مسمى “مخابرات الجيش والقوات المسلحة”.
رسائل إقليمية ودولية
يسعى بشار الأسد من خلال هذه التغييرات إلى إرسال رسائل إقليمية ودولية إحداها تتعلق بالمبادرة العربية والتطبيع، إذ تستبق الخطوة تعيين سفيرين في دمشق لكل من السعودية والإمارات، كما أن الحديث عن إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية يراه كثير من المحللين أنه قد يخفف من حدة الغضب في العاصمة عمان ضد نظام الأسد بعد الاشتباكات المتكررة بين القوات الأردنية والمهربين المدعومين من المخابرات العسكرية والميليشيات الإيرانية.
خطوات هيكلة الأجهزة الأمنية هي رسائل موجهة للخارج، للإشارة إلى أن بشار الأسد مستعد للتعاون مع المبادرة العربية، فمن الواضح أن أحد الأطراف الإقليمية التي تحاول إنتاجه طلبت منه القيام بهذه الخطوات، وذلك بحسب العقيد خالد المطلق المختص بالقضايا الأمنية.
ويضيف المطلق لموقع “نون بوست” أنه ضمن الخطة المدرجة للانتقال السياسي في سوريا هيكلة أجهزة الاستخبارات التي قمعت الثورة السورية بوحشية منذ انطلاقها، وفي هذا السياق ـ يضيف المطلق ـ يوصل النظام رسائل للخارج أن دور المخابرات سيقتصر على الجيش فقط، ولن تتدخل هذه الأجهزة بحياة السوريين.
وكان مراقبون في دمشق أكدوا وجود ضغط روسي وعربي على النظام السوري لإصلاح مؤسسات الدولة وتخفيف القبضة الأمنية، وأيضًا تخفيف انتشار الحواجز الأمنية على الطرقات، كخطوة أولى في طريق الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد المستشري في جميع مفاصل الحياة العامة.
رسائل للداخل
مع تغول الأجهزة الأمنية ومليشيات الدفاع الوطني في المجتمع السوري وسيطرتها على جميع مفاصل الدولة، يحاول النظام من خلال هذه الإجراءات احتواء الغضب الشعبي على ممارسات الأجهزة الأمنية، سواء بأسماء مسؤوليها المباشرين أم شركائهم من المتنفذين من “رجال الأعمال المحدثين” المسؤولين، أم الذين حملتهم المسؤولية عن عمليات التلاعب في الأسواق الداخلية وتردي الأوضاع المعيشية.
وهذا ما يؤكده الخبير العسكري العميد أسعد الزعبي بالقول: “حاضنة النظام الشعبية باتت متململة من انتشار المليشيات الإيرانية بشكل خاص، ونشرها لمظاهر التشييع، وهذا التململ لا يقتصر على المدن المحافظة مثل دمشق وحلب، بل بات ظاهرًا في مناطق الساحل السوري”.
ويشير الزعبي في حديثه لموقع “نون بوست” إلى أنه في أغلب دول العالم توجد إدارتان للمخابرات (داخلية وخارجية)، إلا في سوريا، فالمكشوف فقط خمس إدارات (جوية وعسكرية وسياسية وأمن دولة، والأجهزة التابعة لوزارة الداخلية)، وكل إدارة لها 18 فرعًا.
من ناحيته يؤكد مركز جسور للدراسات في دراسة أعدها عن هذا الموضوع أن النظام يعمل على الترويج لقدرته على ضبط الأجهزة الأمنية وعمله على إصلاح هياكلها، ليزيد من قوتها وكفاءتها في مواجهة أي محاولة للتمرد من الميليشيات غير المنضبطة أو أيّ حراك شعبي.
وأوضحت الدراسة أن النظام يحاول من خلال الهيكلة تقليص صلاحيات قادة الأجهزة الأمنية، بعدما تراجعت سلطته عليها لحساب روسيا وإيران، حيث قام بشار الأسد بإعادة تعيين قادة أصغر سنًا يدينون بالولاء المطلق له.
من يقف وراء هذه الإصلاحات؟
أكدت مصادر صحفية وجود خطة روسية لإعادة هيكلة أجهزة الأمن والاستخبارات التي يديرها النظام السوري، وتقضي بإنهاء وإحلال بعض الفروع الأمنية ودمجها ببعضها البعض، وتزامن ذلك مع صدور سلسلة تعيينات جديدة في قوات النظام، يخص بعضها جهاز المخابرات الأكثر دموية لدى النظام، المسمى “المخابرات الجوية”.
المصادر أكدت أن روسيا وضعت هذه الخطة عام 2109، ويتجلى هدف روسيا من خلال تقليص عدد الفروع الأمنية ودمج الفروع ذات الاختصاصات المشابهة إلى “رفع كفاءة العمل الأمني والاستخباري في سوريا ضمن فروع مختصة، على عكس العمل العشوائي الذي تمارسه معظم الفروع منذ عام 2011”.
من ناحيته يرى العقيد خالد المطلق أنه بالتوازي مع الدور الروسي، يوجد دور عربي يتمثل في “المبادرة العربية”، لذا يقوم بشار بهذه الخطوات الاستعراضية حتى يقول للعرب إنني قدمت خطوة في عملية إصلاح النظام. ويستدرك المطلق حديثه بالقول “العرب يعرفون أن هذا الكلام غير صحيح، فالواقع هو عكس ما يتحدث به بشار الأسد”.
إلا أن العميد الزعبي يرى أن هذه الخطة هي بإيعاز (روسي ـ إيراني)، فطريقة هذه التنقلات بين القيادات الأمنية وعمليات الدمج بين أفرع المخابرات هي نفسها متبعة في روسيا، ومتبعة في إيران أيضًا منذ سقوط نظام الشاه، بحسب الزعبي.
وفي هذا السياق يؤكد الخبير العسكر والإستراتيجي أن المخابرات السورية هي بالحقيقة تربية الـ”كي جي بي” جهاز المخابرات السوفيتية وجهاز المخابرات الإيرانية، ويوضح الزعبي أيضًا أنه يوجد هناك تعاون وتنسيق بين “الموساد” الإسرائيلي ومخابرات النظام.
اجتثاث وليس إصلاح
هل هيكلة أجهزة الأمن والاستخبارات السورية أمرٌ ممكن أصلًا؟ لا! يقول العقيد خالد المطلق.
لذا، سيضطر إلى الهيكلة بنفس العناصر ونفس الضباط، والعملية لا تعدو عن كونها تبديل للأدوار، وبالتالي لا يتغير شيء على أرض الواقع.
ويُرجع المطلق رأيه إلى طبيعة النظام وعقليّته وتركيبته الأمنية من جهة، وبسبب مستوى الإجرام والقتل والفساد الذي وصلت إليه من جهة أخرى، لذا يجب اجتثاثها من جذورها، وإعادة تشكيل جهاز مخابرات خاص للجيش، وجهاز أمن وطني مسؤول عن المدنيين، يكون خاليًا من هذه الشخصيات التي أوغلت في دماء السوريين.
وعن مدى جدية هذه الخطوات التي يقوم بها نظام الأسد يقول الباحث في القضايا الأمنية المقدم عبد الله نجار في تصريحات لموقع عربي 21: “الحديث عن دمج الأجهزة الأمنية من المفترض أن يندرج ضمن إطار الإصلاح الأمني الذي يستلزم بالضرورة حصر الصلاحيات الأمنية بالأجهزة الوطنية بداية وهو غير موجود في سوريا حاليًا، التي تنتشر على أرضها أجهزة أمنية عديدة تابعة لـ”حزب الله” اللبناني و”الحرس الثوري” الإيراني و”الحشد الشعبي” العراقي، والاستخبارات العسكرية الروسية، لذلك فإن أي حديث عن الإصلاح في ظل وجود كل هذه الأجهزة الأمنية يتنافى مع روح الإصلاح”.
وبهذا المعنى، يعتقد النجار أن كل ما يجري ليس أكثر من دعاية إعلامية، هدفها تخدير حاضنة النظام أولًا وإيهام الخارج بأن النظام يجري إصلاحات كبيرة ثانيًا.