هذا الكتاب للمؤلف متصل بمسار كتابه السابق “النزاع الدولي الإقليمي في الخليج العربي.. صراعٌ أم تقاطع”، حيث يسلط الكاتب اهتمامه في كلا كتابيه على المشروع الإيراني في الخليج والموقف الدولي منه وكيفية صده وتأمين شعب الخليج وأرضه من هذه المشاريع التي تستهدفه.
عدا أن الكتاب الذي بين أيدينا يختلف عن سابقه في أمرين:
الأول: أنه يعتني بشكل خاص ومن ناحية تحليلية فكرية بكيفية حصول التوافق الإيراني الغربي واستهدافه الثنائي للأمن الخليجي، وهو ينزع هنا لبحث خاص في مقدمات الرؤية الغربية التي أوصلت الأمور للاتفاق مع المشروع الإيراني، بينما في الكتاب السابق اهتم بتفاصيل الأحداث المختلفة في مختلف الدول المستهدفة من المشروع الإيراني والموقف الغربي منها.
الثاني: أنه يعتني بكيفية المواجهة وأطر الخروج من مأزق حصار الخليج، لذا يقل في هذا الكتاب الحديث عن تحركات إيران مقابل الحديث عن التحركات الخليجية الضرورية لمناهضتها، بينما كان في كتابه السابق يحلل تحركات كل طرف ويحاول نقل صورة وصفية مكتوبة لمواقفهم.
يبدأ المؤلف كما هي عادته في بسط المقدمات الفكرية الكلية لرؤاه وتحليلاته، ثم يلحق ذلك بمناقشة الأحداث وتنزيل المقدمات الفكرية عليها، مؤكدًا أنه كتاب فكري تحليلي لا يرتضي التشاتم الطائفي ويستنكر الاستهداف المدني لأبناء الطائفة، وإنما هو تحليل سياسي مهني لا تفويج عاطفي، ينطلق فيه الكاتب من إيمانه بثقافة المنطقة وإسلام أهلها وعروبتهم.
استغلال إيران لعامل داعش في التغلغل أكثر في المنطقة ثقافيًا وفكريًا وعسكريًا، فالإعلام الإيراني حشر السنة العرب ضمنيًا في داعش والتطرف
ينقسم الكتاب لـ13 فصلًا متفاوتًا في الحجم، بدأ فيه بالميزان المبدئي للصراع مع إيران في الخليج، حيث يؤصل فيه للمقدمات والأسس الفكرية الكلية كما أسلفنا، معرجًا فيه على نقد خطاب الغلو وحفظ حقوق الطوائف، وتصحيح الخطاب والرؤى الدينية ومسؤوليتها، في النهضة بالمهمة الإنسانية الملقاة على عاتقها، وأزمة الخطاب الحركي في سياق هذا الصراع، بالإضافة إلى تأكيده على خطر توظيف المظلومية ودورها المضاد للتعايش السلمي والعدالة المدنية الواجبة من أجل الجميع.
وفي الفصل الثاني يستطرد الكاتب في التأصيل للأساس الفكري للتقاطع الأهم ما بين إيران والغرب في عدائهم لنهضة الغالبية الممثلة للأمة، لا سيما تقاطع طهران وتل أبيب والتخادم القذر بينهما استراتيجيًا وتشاركهما في العداء لنهضة الأمة ممثلة بثورة الشعب السوري، وبذلك يبقى مشروع تلاقيهما مفهومًا طالما كان مشروعيهما واحدًا وهو السيطرة على مقدرات الغالبية بمنطق الاستبداد والتسلط.
ثم يبدأ الكاتب في الفصل اللاحق في الحديث عن “خريطة التقدم الإيراني والواقع العربي المر” يناقش فيه الخلل الثقافي الذي تسرب لدى بعض الكتاب العرب في تعاطيهم مع الخطر الإيراني بالتهوين والتسطيح والسقوط في ذات النظرة الاستشراقية للمنطقة، بالإضافة إلى استغلال إيران لعامل داعش في التغلغل أكثر في المنطقة ثقافيًا وفكريًا وعسكريًا، فالإعلام الإيراني حشر السنة العرب ضمنيًا في داعش والتطرف، ثم تم السعي لإسقاطهم وضمنيًا هكذا سقط العرب السنة سياسيًا.
في المقابل حاول الخليج العربي الرسمي محاصرة ما تبقى من مؤسسات أهلية سنية وجماعات إصلاح سياسي ومدني، ليسقط بذلك في الخطأ القاتل بتحييد السنة عن الصراع فأصبح الخليج مكشوف الظهر معرضًا للسهام.
ثم في فصلين لاحقين، يتحدث المؤلف عن نظريات الأمن الخليجي، وعن وحدة الخليج ووجهته تباعًا، فتطرق لجدوى الرؤية القائمة على أن الخليج مؤمن دوليًا، ومدى إمكان سد أنقرة للثغرات، ثم تحدث عن تعثر مشروع الاتحاد الخليجي، وتراجع الأمل في مشروع الإصلاح السياسي الداخلي، وناقش مدى صحة الرؤى التي تطرح تأجيل الإصلاح الداخلي مقابل تفعيل الاصطفاف من أجل الصراع الخارجي، وفصّل في أهمية إصلاح البناء الداخلي بوصفه أهم سلاح لمواجهة الخطر الخارجي.
يتوقف الكاتب لتأمل نموذج شيخ بحريني عاصر الاستعمار الإنجليزي، وهو الشيخ قاسم بن مهزع، ويمثل الشيخ قاسم نموذجًا مميزًا لتنظيرات المؤلف، سواء في موقفه من الاستعمار أو علاقته بالحاكم أو في ردة الفعل الاستعمارية ضده
وفي ظل ما سبق، ينتقل المؤلف في الفصل السادس للحديث عن مستقبل المنطقة وخرائط التقسيم الجديدة للنفوذ الإقليمي، مراجعًا سلوك إيران وتقاطعاتها من جهة وفرص الخليج لمجابهة وصد إيران من جهة أخرى، سواء في تعاملهما مع القضية الكردية أو داعش، وكذلك استغلال التقاطعات والمصالح الغربية.
ثم يناقش المؤلف جبهات جغرافيا الصراع كلٍ على حدة، في البحرين والعراق واليمن وسوريا ولبنان والأحواز في أربعة فصول، ويرسم من خلال هذه المناقشات استراتيجية إيران في عدوانها على المنطقة وفرص صدها خليجيًا.
ويتوقف الكاتب لتأمل نموذج شيخ بحريني عاصر الاستعمار الإنجليزي، وهو الشيخ قاسم بن مهزع، ويمثل الشيخ قاسم نموذجًا مميزًا لتنظيرات المؤلف، سواء في موقفه من الاستعمار أو علاقته بالحاكم أو في ردة الفعل الاستعمارية ضده، فالشيخ كان على علاقة جيدة بالحاكم الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، سواء في نصحه وعتابه وتحريضه ضد المستعمر بلغة تحفظ المقام وتراعي الأصول والآداب، فتبني جسرًا من الثقة بين الحاكم والمحكوم لصد الاعتداء الأجنبي.
كما أن الشيخ قاسم حرص كل الحرص على تجنيب البحرين الفتنة الطائفية، والتعامل مع حادثة صدام جرت مع شيعة إيرانيين في البحرين بمسؤولية الأخوة الإسلامية والحفاظ على سلامة السيادة واختصاص القضاء الشرعي، بينما سعت بريطانيا بشكل واضح وصارخ لإذكاء الفتنة وتبني قضية الإيرانيين بوصفهم شيعة أجانب يتعرضون لاضطهاد طائفي يلزم منه التحاكم لقضاء الانتداب، في نموذج بارز للتعامل الاستعماري مبكرًا مع المنطقة على أنها مجموعة طوائف يتم السيطرة عليها عبر إذكاء الفتنة وسحقها بدعاوى كاذبة عن شعارات حفظ حقوق الأقليات.
هذا بالإضافة لموقف الشيخ قاسم في ظل فتنة خليجية نشبت بين بعض حكومات الخليج، فتصرف الشيخ بمسؤولية داعيًا إلى الصلح في مراسلاته لشيوخ الخليج، عاتبًا عليهم فتح ثغرة للمستعمر ليبسط يده بدعوى التحكيم بينهم.
فكان الشيخ قاسم مثالًا واضحًا للمسؤولية الملقاة على العالم والقاضي الشرعي، سواء في رؤيته للداخل ونظرته للإقليم ورفضه للصدام الطائفي، وإبائه وعزته في رفضه للوسام البريطاني لتكريمه، ورغم عدم الصدام الصارخ للشيخ قاسم مع المستعمر حفظًا لمقامه بوصفه قاضيًا رسميًا، ورغم بعده بالكلية عن الغلو والتطرف، فإن المستعمر اضطر في نهاية المطاف للصدام معه واحتجازه، وفي ذلك تجلٍ صارخ للرؤيتين القائمتين في المنطقة: النظرة الاستشراقية للمنطقة بوصفها مجموعة طوائف يتم الوصاية عليها بتغذية الانقسامات وشعارات حماية الأقليات وما زالت هذه النظرة للخليج في سياسات الدول وكذلك في البحوث الاستشراقية التي تستغلها إيران في تثبيت هذه الرؤى عن الأقليات، والمشروع النهضوي للمنطقة الذي يرفض الغلو والتطرف ويسعى لمد أواصر التراحم على جميع مستوياتها من أجل استقلال إنسان الخليج.
صار العراقي السني يبحث عن كفيل في عاصمة بلاده، في صورة طائفية فاضحة تمثل عارًا على الحكومة ورجال الدين وكل حاملي شعارات الإخاء الكاذبة
ثم ناقش الكاتب أخطاء التعامل الخليجي مع ملفات اليمن والعراق وسوريا ولبنان والأحواز، في ظل استمرار زحف نفوذ إيران إليها، وأوجه القصور، كما حاول تقديم نقاط عملية في كلٍ منها من أجل الخروج من المأزق، وكل تلك النقاط مبنية على الرؤى الكلية التي قدمها في كتابه: رفض الغلو، ورفض حفلات التشاتم الطائفي عبر الإعلام، والتأكيد على أن المسألة صراع مع الطائفية السياسية وليس مع الطائفة أو القومية، والخلل الفادح المتكرر بخذلان أو حتى محاربة الخليج لقوى أهلية سنية تشاركها العداء ضد إيران.
وفي الفصل الحادي عشر يناقش الكاتب الوضع الطارئ بحضور روسيا في المنطقة وتحالفها مع إيران في سوريا، والمفارقة التي حصلت في كون روسيا راعية اليسار تتحالف اليوم مع من ارتكب المجازر والقمع بحق اليسار الإيراني أعقاب الثورة التي ساهم فيها حزب تودة الاشتراكي بفاعلية قبل خيانة الخميني لهم، ويتطرق الكاتب هنا للعلاقة التي تحكم الخليج بموسكو بدءًا من الصراع الأفغاني وانتهاءً بالعلاقة بواشنطن، ومن ثم يختم بالمساحة الممكنة للتحرك الخليجي مع موسكو.
ثم في الفصل قبل الأخير يفصل الكاتب في المخاوف الخليجية من تركيا، ويناقش هل كانت مبررة، باحثًا في مواقف الأحزاب المختلفة تجاه دور إيران في المنطقة، مناقشًا بعد ذلك الخلل الذي يتم في التعامل مع أنقرة، ومدى كون أنقرة حليف إقليمي ناجع ضد المشروع الإيراني أم لا، لا سيما مع المشترك الخليجي التركي في الموقف من الثورة السورية.
يختم المؤلف بعد ذلك كتابه بتسليطه الثورة على الإرهاب الطائفي السياسي الذي تشنه أذرع إيران في المنطقة عبر فتاوى ورجال دين يغذون التطرف، لافتًا النظر أن الحشد الشعبي المتهم بجرائم تطهير تم إنشاؤه بناء على فتوى، وأن بغداد التي تم التلاعب بتركيبتها الديموغرافية رفضت دخول النازحين لها من الموصل إبان حرب داعش إلا عن طريق كفيل، فصار العراقي السني يبحث عن كفيل في عاصمة بلاده، في صورة طائفية فاضحة تمثل عارًا على الحكومة ورجال الدين وكل حاملي شعارات الإخاء الكاذبة.
ناهيك عن دور المراجع في حصار مواقف الاعتدال الشيعية واستثمار اقتصاد طائفي، حيث تشكل جيوش بأموال عن طريق رجال دين يجمعون الخمس، ثم يبقى الفقير الشيعي فضلًا عن غيره في بلد نفطي تحكمه حكومة تستند لفتاوى دينية وتأتمر بأمر الولي الفقيه، يبقى الفقير رغم كل ذلك يتسول لقمة عيشه، ومع ذلك يبقى دوليًا وإقليميًا الإرهاب تهمة سنية صرفة.
“ولعل عزاء هذا الكتاب أن يرسم للرأي العام العربي خريطة تصورٍ واقعيةٍ عن كيف اجتاحتنا إيران ولا تزال، لكن بلغة فكرية لا طائفية تشتم في كل ثانية، لتفريغ عجزها ثم خسارة رشدها”.