منذ بدأ ربيع الثورات العربية في 2011 ينتشر وينمو، وبدأ بعض رؤوس هذا الربيع يحكمون بلدانهم، اهتم بعض الباحثين ببلاد الخليج العربي، فقد بدأ التفكير في التعامل معهم بطريقة مختلفة عن طريقة تعامل الأنظمة التي ثار عليها الناس، احتاج هذا التعامل لفهم طبيعة هذه الأنظمة الملكية، وهذا الفهم يحتاج لمعلومات وللأسف قابل الكثير من الباحثين شح شديد وغموض فيها.
زاد الاهتمام بتركيبة وبنية النظام الخليجي بعد الموقف الذي اتخذته بعض دول الخليج من ثورات الربيع العربي، بعض هذه الدول دعمت الثورات المضادة مباشرةً وعلنًا، وبعضهم من وراء ستار، وظهر التساؤل عن سبب هذا الدعم السافر والمباشر، احتاج البعض للمعلومات لمعرفة كيفية التعامل مع هيكل البيوت الخليجية الحاكمة؟ ما الأجنحة الحاكمة؟ وكيف نكسب ود بعضها أم أنه لا أمل في كسبهم، والحل هو محاولة إزالتهم والتخلص منهم؟
كثير من الأمور كان نقص المعلومات فيها حادًا، مما جعل البعض يبني تحليلات عليها ثم ثبت مع الأيام أنها خاطئة، ليس بسبب طريقة التحليل، ولكن لاعتماد معلومات كان يسوق لها في العلن وتُدعم بالأدلة التي توضح صدقها، ولكنها لم تكن كما كان يسوق لها، بل كانت طُعمًا لشيء آخر.
أمريكا دولة مؤسسات لا تخضع لمجرد شخص الرئيس لكي يغير سياستها من اليمين لليسار
بعد الموت المفاجئ للملك عبد الله بن عبدالعزيز في يناير/كانون الثاني 2015، والصراع الذي كان يُقال إنه يدور حول محاولته تولية ابنه متعب بن عبد الله – من ضمن المعتقلين الحاليين بالسعودية – ليكون خليفته على عرش بلاد الحرمين الشريفين، والشائعات التي كانت تتحدث عن إصابة الملك سلمان بن عبد العزيز بالخرف، وأنه غير جاهز لحكم البلاد، وحتى بعد تولي الملك سلمان حكم البلاد وما كان يُصَدر بأنه يحمل وجهات نظر مختلفة في إدارة بعض الملفات العربية والخليجية، تبين بعد ذلك أن الأمور ليست كما تبدو، بل إن الرجل جاء بابنه ليتحكم بالعرش تمهيدًا لنقله له، ويقلب الطاولة في كل الملفات رأسًا على عقب، بل وأسوأ من فترات إدارة الملك عبد الله لبعض الأزمات.
الأزمة القطرية مع محاصريها – السعودية والإمارات والبحرين – يشوبها هي الأخرى نقص المعلومات، وإن كان هذا النقص أقل، لأن النظام القطري الحاكم ومن ورائه الجزيرة تعمدوا نشر بعض ما يُطرح في الجلسات المغلقة، لفضح الدول المحاصرة وشروطها الغريبة، ولمحاولة كسب ورقة في التفاوض.
هذه الأزمة تظهر بها كثير من التساؤلات بلا أجوبة ولا معلومات، لماذا اندلعت الأزمة الآن؟ فالنظام القطري لم يطرأ عليه تغيير جديد في المواقف المعلنة يستدعي هذا التغيير المفاجئ، والخلافات بين العائلات الملكية في المنطقة معروفة منذ زمن، ولم يحدث ما يؤدي لهذه التدهور الدراماتيكي في العلاقات.
من يقول إن الطارئ الجديد هو ترامب والقيادة الأمريكية الجديدة، والرئيس الأمريكي الجديد يريد استنزاف الجميع كما يقول البعض، ولكن الرد على هذا أن البيت الأبيض ومن ورائه القيادة الأمريكية ومؤسساتها لا تحتاج لكل هذه الجلبة المثارة – والتي تحدث البعض عن احتمالية وصولها لحرب – حتى تطلب المال من هذه الدول، هل ترامب هو الذي يدير هذه الأزمة؟ أمريكا دولة مؤسسات لا تخضع لمجرد شخص الرئيس لكي يغير سياستها من اليمين لليسار، أم أن هذه الفترة مختلفة في توجهات السياسة الأمريكية؟ وأن توجهات الرئيس ترامب تسيطر أو أنه يحاول أن يلعب السياسة كمقامرة تجارية؟
ما الجديد الذي سيقدمه محمد بن سلمان عن كل سابقيه لتغض أمريكا الطرف عن هذا الاضطراب الواقع في أقوى العائلات الخليجية المتحالفة معه؟
هذه أسئلة وأكثر منها لا أجوبة عليها ولا حتى شواهد على أجوبة لها، أعرف أن التحليل السياسي به جزء من التنجيم ومحاولة الربط والاستنتاج، لكن هذا يعتمد على وجود شواهد ما على الأقل لكي تبني عليها فرضياتك، لكن أزمات الخليج لا تستطيع حتى أن تمسك هذه الشواهد لتبني عليها هيكل تحليلك.
مثال آخر: التغيرات السعودية الأخيرة التي تدحرجت سريعًا منذ تولية الملك سلمان، والتي زادت حدتها منذ أن أصبح محمد بن سلمان وليًا لولي العهد في أبريل/نيسان 2015، وبلغت ذروتها عندما تم إعفاء أو تنحية محمد بن نايف ولي العهد وتولي محمد بن سلمان ولاية العهد خلفًا له في يونيو/حزيران من هذا العام، ومع هذا التاريخ بدأت كرة الثلج تتدحرج بسرعة مبالغ فيها حتى وصلنا لأحداث الـ5 من نوفمبر.
نرجع مرة أخرى لحلقة الأسئلة المفرغة التي لا أجوبة لها، كيف تمت إزاحة محمد بن نايف من الأساس؟ فربط الأمر بمجرد الرضى الأمريكي غير كافٍ، هذا الربط يحتاج لشواهد متنوعة وواضحة، فالجميع في النهاية تحت السيطرة ولن يخرجوا عن الطوق الأمريكي، وأدوار محمد بن نايف في أثناء تولي والده لوزارة الداخلية، والدور الكبير الذي لعبة في التنسيق الأمريكي ومدح قادة أمريكيين له، فما الذي سيقدمه محمد بن سلمان أكثر مما قدمه محمد بن نايف؟ كيف تم تنسيق هذا الأمر؟
ولا يكفي الاعتماد على تسريبات يوسف العتيبة السفير الإماراتي بواشنطن لنسج كامل الحكاية بأغلب تفاصيلها، أيضًا كيف سكت محمد بن نايف عن خطوات قص ريشه بسهولة قبل أن يتم إعفائه؟
ونأتي للتغيرات الأخيرة وحملة مقاومة الفساد كما يروج لها ظاهريًا، لكن يبدو أنه إعادة هندسة للبيت الملكي السعودي، كيف استطاع محمد بن سلمان عمل هذه الهندسة الجديدة؟ ولماذا اعتقل هؤلاء الأمراء ورجال الأعمال بالتحديد؟ هل هم من مؤيدي محمد بن نايف ومعترضين على إعفائه؟ أم معترضون على احتمالية تولي محمد بن سلمان الحكم وهو من جيل الأحفاد متجاوزًا بذلك أقرانه من هذا الجيل؟ أم هم جناح معترض داخل البيت الملكي على بعض السياسات التي يجري التمهيد لها؟ والسؤال الآخر كيف تم الأمر بهذه السهولة؟ ومن قال إن الأمر كان سهلًا كما نظن؟ فربما احتاج لدماء ليمر بهذا الشكل، أم أنه مجرد ضبط جديد غير مستقر قبل للتهدم في أي وقت؟
دائمًا ما تحوي العائلات الملكية في كل بقاع العالم وعلى مر التاريخ صراعات داخلية، وكانت الدول الكبرى تعمد في تعاملها مع العائلات الملكية المتحالفة والتابعة لها إلى ضبط هذا الصراع وتحجيمه في إطاره الطبيعي، مع عدم دفنه للاستفادة منه
مؤيدو فكرة الموافقة والتأييد الأمريكي للهندسة الجديدة، يطرحون الكثير من الأسئلة، أولها ما الجديد الذي سيقدمه محمد بن سلمان عن كل سابقيه لتغض أمريكا الطرف عن هذا الاضطراب الواقع في أقوى العائلات الخليجية المتحالفة معه؟ مجرد اعتماد فكرة أن تصريحات ترامب ومطالبته للسعوديين بطرح أسهم شركة أرامكو في بورصة نيويورك كفكرة وحيدة وقاطعة يحتاج لدعم وشواهد أخرى، ما المانع أن يقدم أحد الأمراء الآخرين وليكن مثلًا الأمير متعب بن عبد الله إغراءات استثمارية أكبر لأمريكا فيستحوذ على العرش، ما دمنا اعتمدنا المعيار المادي فقط هو الفيصل في مواقف ترامب؟
الكلام المتناثر والذي زاد بعد استقالة الحريري من رئاسة وزراء لبنان عن استعداد محمد بن سلمان لمواجهة حاسمة مع إيران وحلفائها في المنطقة بإيعاز من ترامب، لذا جرى الموافقة على تصعيده بهذه السرعة وإقصاء منافسيه برضى أمريكي، تحليل جيد لكن من قال إن منافسي محمد بن سلمان لن يقبلوا بالقيام بهذه المهمة، كما أن مواجهة كهذه لا تُترك في أمريكا ليديرها ويخططها رئيس مهما كان نفوذه من دون الرجوع لمؤسسات الدولة، والتي يظهر خلافها مع البيت الأبيض في عدد من الملفات من أبرزها الملف النووي الإيراني، كما أن مواجهة كهذه تحتاج لخبرات أمنية عالية نجحت في ملفات سابقة، فمحمد بن نايف ومتعب بن عبد الله وخالد التويجري لهم باع في هذه الأمور، بعكس مجموعة الهواة التي تحيط بمحمد بن سلمان، والتي وضح قصر نظرها في ملف اليمن وحصار قطر.
دائمًا ما تحوي العائلات الملكية في كل بقاع العالم وعلى مر التاريخ صراعات داخلية، وكانت الدول الكبرى تعمد في تعاملها مع العائلات الملكية المتحالفة والتابعة لها على ضبط هذا الصراع، وتحجيمه في إطاره الطبيعي، مع عدم دفنه للاستفادة منه، فمن الجيد ألا تجعل البيض كله في سلسلة واحدة.
أعلم جيدًا أنه لا دخان بلا نار، ولكنني أخاف أن يكون هذا الدخان الذي نبني عليه تحليلاتنا لا يأتي من النار الأصلية التي نبحث وراءها وعنها، أو قد يكون ليس دخانًا أصلاً بل مجرد أتربة أثارتها زوبعة ما ولا علاقة لها بالنار.