يوم الأحد الـ5 من نوفمبر/تشرين الثاني 2017 وضعت الحرب أوزارها في الانتخابات البلدية في كيبيك – كندا، ولكن غبار المعركة لم يتساقط بعد، لقد انتهت الانتخابات البلدية في جميع أرجاء مقاطعة كيبيك الكندية وفاز من فاز وخسر من خسر.
لكن بإمكاننا، بلا أدنى شك، أن نقول إن الرابح الأكبر هو الناخب الكيبيكي الذي خرج إلى صندوق الانتخابات وأدلى بصوته مشاركًا في رسم معالم مستقبل مدينته أو قريته، لقد كانت نسب المشاركة في الانتخابات عالية بالمقارنة مع ما كان يجري في الماضي، طبعًا كانت المنافسة أكبر ما تكون في منطقة مونتريال الكبرى وهذه المنطقة تضم نصف سكان مقاطعة كيبيك.
كانت هذه المنافسة الحادة سببًا رئيسًا لارتفاع نسبة المشاركة الانتخابية، وككل الانتخابات، جاءت النتائج سارة للبعض ومخيبة للبعض الآخر ومفاجئة للكثيرين، وطبعًا لا نستطيع في هذه العجالة أن نحلل نتائج الانتخابات في جميع أنحاء كيبيك، ولكن سنركز تحليلنا، مع بعض الاستثناءات، على النتائج في منطقة مونتريال الكبرى لسببين: الأول أن سكان هذه المنطقة يشكلون نصف سكان مقاطعة كيبيك، وثانيًا لأنها تضم الأكثرية الساحقة من مسلمي كيبيك.
الأمر الأول الذي لا بد من الوقوف عنده وإعطائه حقه من التحليل هو نتائج الانتخابات في كبرى مدن المقاطعة ألا وهي مدينة مونتريال، ففي هذه المدينة فازت السيدة الشابة ڤالاري پلانت ضد رئيس البلدية السابق السياسي المخضرم داني كودير، السيدة پلانت لم تكن معروفة في السابق بينما السيد كودير كان يخوض معركته الانتخابية الـ11 وكان نائبًا لعدة دورات في البرلمان الاتحادي الكندي كما أنه تولى عدة وزارات في الحكومة الكندية من بينها وزارة الهجرة.
لم يأخذ داني كودير منافسته الانتخابية على محمل الجد لافتقادها الخبرة والشهرة والقدرات التنظيمية، ولكن خلال المعركة الانتخابية بدأ يكتشف شيئًا فشيئًا، مدى فداحة خطأ الاستخفاف بالمنافسة السياسية
هنالك أسئلة كثيرة تطرح عن أسباب هذا التغيير الذي لم يكن يتوقعه الكثيرون عند انطلاق المعركة الانتخابية، وهذه بعض الإجابات، أو ربما الملاحظات السريعة التي بإمكاننا استنتاجها من نتائج الانتخابات في هذه المدينة وغيرها من المدن التي تهم المواطن الكيبيكي العربي أو المسلم:
1- اعتمد داني كودير في بداية المعركة الانتخابية على عدة أسباب كان لا بد أن تعمل لصالحه وتضمن له النجاح في ظروف عادية، لقد اعتمد على شهرته وماكينته الانتخابية وعلاقاته، كما أنه اعتمد على إنجازاته، فهو الذي وصل إلى سدة قيادة المدينة بعد سنين من الجمود والفساد، فساهم في تطهير المدينة من الفساد وعمل على ضخ دماء الحيوية في شرايينها ونجح في وضعها من جديد على الخريطة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ليس في كندا فحسب وإنما على الصعيد العالمي أيضًا.
2- بناءً على ما تقدم، لم يأخذ داني كودير منافسته الانتخابية على محمل الجد لافتقادها الخبرة والشهرة والقدرات التنظيمية، ولكن خلال المعركة الانتخابية بدأ يكتشف شيئًا فشيئًا، كما بدأ الناخبون يكتشفون معه، مدى فداحة خطأ الاستخفاف بالمنافسة السياسية، لقد نجحت السيدة پلانت أن تقدم للناخب صورة القائدة الشابة المليئة بالحيوية المبتسمة دائمًا وصاحبة الضحكة العالية التي توحي بمستقبل مليء بالأمل.
لقد استطاعت ڤالاري پلانت أن تسحر الناخب المونتريالي فَنَسِي إنجازات كودير وتغاضى عن قلة خبرة ڤالاري پلانت مقارنة بخبرة داني كودير، لقد جاءت مسيرة هذه الشابة لتعيد لذاكرتنا مسيرة الرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون الذي نجح في الانتخابات الرئاسية ضد مرشحين أصحاب خبرات تفوق خبراته.
3- لأسباب نجهلها، ربما تكون استخفافه بالمعارضة، حاول كودير إخفاء بعض الأرقام المتعلقة بسباق السيارات الكهربائية والذي سبب له الكثير من الانتقادات، ولكن بعد إلحاح منافسيه والإعلاميين، اضطر للإفصاح عن هذه المعطيات، فعدم الإفصاح عن الأرقام في البداية ومحاولة التقليل من أهميتها ومن ثم الإفصاح عنها مضطرًا ومتأخرًا كان له تأثير سلبي كبير على حملة كودير، فقد استطاع خصومه أن يصوروه بصورة السياسي المراوغ الذي لا يحترم إرادة الناخبين وهذا مرض سياسي قاتل في المجتمعات الديمقراطية.
نجح العديد من الكيبيكيين من أصول عربية أو إسلامية في هذه الانتخابات، ومن بين العرب الذين وصلوا إلى مراكز القيادة السيدة دورين أسعد التي فازت برئاسة بلدية بروسار وهي من كبريات المدن الكيبيكية
4- مما لا شك فيه، بخسارة كودير خسر العرب والمسلمون ومعهم أبناء الأقليات الأخرى حليفًا قويًا وصديقًا وفيًا، فداني كودير السياسي والرجل من المدافعين عن التعددية الكندية قولاً وعملاً، ومن هذا المنطلق وقف مع المسلمين في أوقات الشدائد، فكان من المدافعين عن حقوق المسلمين عندما كان النقاش يدور عن شرعية القيم الكيبيكية التي قدمها الحزب الكيبيكي والتي كانت ستنتقص كثيرًا من حقوق المسلمين في هذا البلد، ووقف مع المسلمين بإخلاص عندما وقع الاعتداء الإرهابي على مسجد كيبيك ونظم في مدينة مونتريال مراسم جنازة رسمية مهيبة لثلاثة من ضحايا الاعتداء مع أنه لم يكن مضطرًا للقيام بهذا العمل النبيل لأن الاعتداء وقع في مدينة كيبيك وهو رئيس بلدية مونتريال.
وأخيرًا كان له موقف حازم ضد القانون رقم ٦٢ الذي يُحد من حقوق المنتقبات في تلقي الخدمات العامة في كيبيك، إننا إذ نذكر في هذه المناسبة مواقف داني كودير النبيلة فإننا نفعل هذا من باب إعطاء كل ذي حق حقه ولقناعتنا أنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس، هذا لا يعني أننا نتوجس خيفة من خليفته في سدة رئاسة بلدية مونتريال ڤالاري بلانت، فنحن لم نسمع منها ولا عنها فيما يخص حقوق الأقليات إلا الخير، ونحن ممن يقولون تأملوا بالخير تجدوه.
وهنالك أمر بغاية الأهمية أيضًا ألا وهو أن أبناء الأقليات، ومن بينهم العرب والمسلمون، يشكلون ثلث سكان مدينة مونتريال وإذا أرادت رئيسة البلدية الجديدة أن تنجح في مهامها وفي الفوز بالانتخابات القادمة بعد أربع سنوات لا بد لها من اتباع سياسة سلفها في احترام سياسة التعددية في المجتمع واحترام حقوق الأقليات بما فيهم الأقلية العربية والإسلامية.
5- لقد نجح العديد من الكيبيكيين من أصول عربية أو إسلامية في هذه الانتخابات، ومن بين العرب الذين وصلوا إلى مراكز القيادة السيدة دورين أسعد التي فازت برئاسة بلدية بروسار وهي من كبريات المدن الكيبيكية.
من هنا بإمكاننا القول إن العربي أو المسلم إذا انخرط في هذا المجتمع واعتبر نفسه كيبيكيًا وكنديًا له ما لغيره من حقوق وعليه ما على غيره من واجبات بإمكانه كأي مواطن آخر الوصول إلى مواقع المسؤولية والقيادة في هذا البلد، فلا داعٍ للتقوقع والانعزال عن المجتمع أو معاداته بل العمل على أن يكون هذا المجتمع لكل أبنائه كائنًا ما كانت أصولهم العرقية أو انتماءاتهم الدينية.
قام مجلس أئمة كيبيك والمنتدى الإسلامي الكندي بدور مهم في حث الناس على الاضطلاع بدورهم كمواطنين شرفاء في هذا البلد وحثهم على القيام بواجبهم الانتخابي بشكل إيجابي وفعال لأنه حق وواجب
6- لقد كان تعامل العرب والمسلمين إيجابيًا مع هذه الانتخابات، لقد ترشح عدد لا بأس به منهم على لوائح عديدة وكما قلنا آنفًا منهم من فاز في الانتخابات ومنهم من جاءت النتائج مخيبة لآماله، لقد كان تعامل المراكز والمؤسسات والجمعيات التي تعمل بين صفوف العرب والمسلمين إيجابيًا أيضًا، فلقد استقبلت هذه المؤسسات، بما فيها المساجد، المرشحين من جميع الأطياف السياسية واستمعت لبرامجهم وطرحت عليهم الأسئلة ليكون الناس على بينة من أمرهم ويعرفوا لمن يعطون أصواتهم.
ولقد دعت معظم هذه المؤسسات للمشاركة في الانتخابات وحثت الناس على التوجه لصناديق الاقتراع، هنالك من الجمعيات من أخذ موقفًا مؤيدًا لمرشح معين أو للائحة معينة وهناك من اتبع سياسة النأي بالذات عن التجاذبات السياسية فلم يؤيد مرشحًا معينًا وإنما اكتفى بحث الناس على الاقتراع.
من المؤسسات التي التزمت سياسة النأي بالذات عن التجاذبات السياسية مجلس أئمة كيبيك والمنتدى الإسلامي الكندي بما يمثلان من ثقل ديني وسياسي واجتماعي في البلد، لقد قام مجلس أئمة كيبيك والمنتدى الإسلامي الكندي بدور مهم في حث الناس على الاضطلاع بدورهم كمواطنين شرفاء في هذا البلد وحثهم على القيام بواجبهم الانتخابي بشكل إيجابي وفعال لأنه حق وواجب.
لقد نقل رسالة مجلس أئمة كيبيك الأئمة الأعضاء من خلال الدروس والخطب، كما فتحت الكثير من المساجد أبوابها للتعرف على الناخبين المسلمين وشرح برامجهم، ولكن من غير المعروف الآن مدى تجاوب الناس مع رسالة المنتدى الإسلامي الكندي أو مجلس أئمة كيبيك وغيرهما من الجمعيات العربية والإسلامية لأننا لم نحصل بعد، عند كتابة هذه السطور، على أرقام تفصح عن نسبة مشاركة العرب والمسلمين في الانتخابات.
7- في مدينة كيبيك، وهي عاصمة مقاطعة كيبيك، فاز السيد ريجيس لابوم في الانتخابات وحافظ على وجوده في رئاسة البلدية، ولقد كان للسيد لابوم دور فاعل أيضًا في تضميد الجراح والعمل على الوحدة في المجتمع بعد الاعتداء الاٍرهابي على مسجد كيبيك الكبير في مدينته، وهو أيضًا كما السيد داني كودير ساهم في تنظيم مراسم تشييع رسمية لضحايا الاعتداء الإرهابي على المسجد، وساهم أيضًا في مساعدة المسلمين للحصول على مقبرة إسلامية في مدينته بعد سنوات من العمل الدؤوب للحصول على هذه المقبرة.
لقد تحولت بعض المنافسات السياسية خلال المعركة الانتخابية إلى عداوات شخصية، خاصة في صفوف العرب والمسلمين، وهذا أمر غير صحي
9- في سانت أپولينار، هذه المدينة الصغيرة في جنوب مدينة كيبيك، والتي حصلت على شهرة كندية وربما عالمية، عندما رفض بعض سكانها في استفتاء حق المسلمين في إنشاء مقبرة في مدينتهم، فاز رئيس البلدية السابق السيد برنارد والات الذي كان مؤيدًا لحق المسلمين في إنشاء المقبرة، أما المعارضون لحق المسلمين في إنشاء المقبرة فقد حاولوا الدخول في المعترك السياسي مستفيدين من النجاح الذي حصلوا عليه في الاستفتاء، فترشحوا للانتخابات البلدية ولكنهم خسروا أمام الفريق الذي كان مؤيدًا لحقوق المسلمين.
من هنا يتبين أن المجتمع الكيبيكي ليس مجتمعًا عنصريًا وليس من المضمون لبعض السياسيين المتوهمين أو المغرر بهم، الحصول على مكاسب سياسية بمحاربة حقوق المسلمين.
٩- لقد تحولت بعض المنافسات السياسية خلال المعركة الانتخابية إلى عداوات شخصية، خاصة في صفوف العرب والمسلمين، وهذا أمر غير صحي، فالذي يترشح للانتخابات إنما يعرض خدماته على الناس وهؤلاء الناس يختارون إن كانوا يريدون الاستفادة من خدماته أو من خدمات غيره وصندوق الاقتراع هو الحكم فلا داعٍ للخصومة ولا للعداوة، من فاز هنيئًا له وسيرى الناس ما سيقدم خلال السنوات الأربعة القادمة ومن لم تأت النتائج كما كان يشتهي “تجري الرياح بما لا تشتهي السفن” فما على هذا المرشح الذي لم ينجح هذه المرة إلا الرضوخ لإرادة الناخبين والرضى بنتيجة الانتخابات والعمل على كسب ثقة الناخبين في الانتخابات القادمة والله ولي التوفيق.