في الوقت الذي تدعي فيه الحكومة الموريتانية محاربة الرق والعبودية ومنح مختلف فئات المجتمع الموريتاني المزيد من الحقوق السياسية والاقتصادية، ما زالت فئة كبيرة من الموريتانيين تسمى بـ”الحراطين” تعاني من آثار هذه الظاهرة التي تهدد تماسك المجتمع الموريتاني.
من هم؟
الحراطين مكون أساسي للمجتمع الموريتاني، لا يختلفون عن بقية مكونات المجتمع إلا بلون البشرة شديد السمرة، ومع تعدد التفسيرات لمصطلح الحراطين يمكن القول إنه اصطلح عليه لوصف شريحة من العبيد السابقين ذابت هويتها في المجتمع العربي الأبيض وباتت تتكلم لغته، وما يميزهم أيضًا عن باقي المكونات تلك الذاكرة الجماعية المليئة بمخلفات عهود الرق الطويلة والتي تجسدها أغانيهم المعروفة بالتغريبة.
ارتبط وضع الحراطين خلال السنوات الماضية بالحركات السياسية المناهضة للرق، كحركة “الحر” التي ساهمت بقدر كبير في صدور قانون منع الرق في موريتانيا، كما وظفت حركات سياسية الوضع الاجتماعي للحراطين في عملها السياسي لأن أغلبية ساحقة من الحراطين ينتمون لطبقة العمال والكادحين.
ينقسم المجتمع الموريتاني عرقيًا إلى مجموعتين: عرب وزنوج
ويجتمع الحراطون (الأرقّاء السابقون) الذين يبلغ عددهم وفقًا لتقديرات المنظمات الحقوقية الدولية 680 ألفًا، في المعاناة التي ذاقوها من ظلم السادة البيض وهيمنتهم على نفوسهم وامتلاك أجسادهم وتسخيرها لخدمتهم دون مقابل بما يخالف القانون والشرائع، وفق روايات كثيرة ومتعددة لكنها اتفقت على الشعور الشديد بالظلم الممزوج بالحسرة وعدم القدرة على فعل أي شيء.
ويقول ناشطو عرق الحراطين إن شريحة “الحراطين” قطنت البلاد منذ قرون قبل قدوم العرب الذين ـ حسب تصريحاتهم ـ احتلوا هذا القطر فارضين على ساكنيه الاستعباد والرق والخضوع بعد تدمير قيمهم وثقافتهم الخاصة ودفنها في أدغال التاريخ القديم في ظرفية مدبرة، وينقسم المجتمع الموريتاني عرقيًا إلى مجموعتين: عرب وزنوج، وتنقسم المجموعة العربية إلى عرب بيض (البيضان) وعرب سمر (الحراطين)، وتضم المجموعة الزنجية 3 مكونات هي البولار والسونيكي والولف.
نضال قديم
نضال الحراطين بدأ فرديًا وفي مجموعات صغيرة حتى عام 1978 عندما أنشئت حركة “الحر” من طرف مجموعة من قيادات الحراطين، من ضمنهم مسعود ولد بلخير زعيم حزب التحالف الشعبي ورئيس البرلمان الموريتاني السابق، غير أن النظام استوعب حركات الحراطين الاحتجاجية لاحقًا، وعُيّن الكثيرون من قادتهم في مناصب عليا، حيث جرى تعيين بعضهم في مناصب وزارية وسيادية فيما شغل آخرون منصب الوزير الأول مثل أسغير ولد امبارك رئيس الوزراء الموريتاني السابق.
وفي سنة 2006 أخذت الحركات النضالية للحراطين مسارًا جديدًا بعد انقلاب 2006، حيث بدأت الدعوات إلى العصيان المدني وسجن أسياد العبيد، وحتى إلى حرق بعض الكتب الدينية التي رأى فيها العبيد السابقون تكريسًا للرق و”تعلية” من الطبقية.
مواجهات بين الحراطين وقوات الأمن
وفي 5 من نوفمبر سنة 2008 تأسست منظمة حقوقية سياسية موريتانية راديكالية من مجموعة من النشطاء المدافعين عن الأرقاء السابقين، من أبرزهم رئيس الحركة يد بيرام ولد الداه اعبيد ونائبه إبراهيم ولد بلال، واعتمدت خطابًا صداميًا للدفاع عن هذه الشريحة، ورفضت التعاطي مع الواقع المجتمعي بكل ما يحكمه من منظومات سياسية واجتماعية وفقهية، وأطلقت على هذه المنظمة اسم “مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية” وأصبحت تعرف بعد ذلك بحركة “إيرا”.
قدمت “إيرا” نفسها باعتبارها حركة حقوقية خرجت من رحم معاناة الأرقاء السابقين، ورفعت شعار المطالبة بإنصافهم، لكنها ما لبثت أن اشتغلت بالعمل السياسي وزاوجت بينه وبين الحقوقي في نشاطها وحراكها، ورغم أن الكثير من مؤسسيها يرونها حركة إصلاحية تهدف إلى التغيير، فإنها انتهجت خطابًا صداميًا مع كل المنظومة التي تحكم المجتمع، وقامت رؤيتها على رفض المصالحة مع واقع اعتبرته مسؤولاً عن تكريس الظلم.
ورغم عدم الترخيص ظلت الحركة تمارس نشاطها، فرشحت رئيسها بيرام ولد الداه اعبيد للانتخابات الرئاسية التي جرت في يونيو/حزيران 2014 وحل ثانيًا في الترتيب، ثم نظمت بالاشتراك مع حركات حقوقية أخرى مسيرة ضد ما تسميها “العبودية العقارية”، وإثر هذه المسيرة اُعتقل بعض قادتها وقُدِموا للمحاكمة فحكم على رئيسها ونائبه بالسجن سنتين نافذتين.
يشكل موضوع العبودية أحد القضايا الشائكة في موريتانيا، وعنوانًا ثابتًا في التجاذبات السياسية
ويعد الرق تقليدًا تاريخيًا في موريتانيا يأخذ بالأساس شكل الاستعباد الذي يكون فيه الرقيق البالغون وأطفالهم مملوكين لأسيادهم، ويقدر مؤشر الرق العالمي أن نحو 150 ألف شخص أو 4% من سكان موريتانيا ما زالوا عبيدًا، وتصل هذه النسبة إلى حدود 20% من السكان، حسب تقديرات هيئات دولية أخرى، وهو ما يؤكد تجذر وتواصل ممارسات العبودية داخل المجتمع الموريتاني.
ويشكل موضوع العبودية أحد القضايا الشائكة في موريتانيا، وعنوانًا ثابتًا في التجاذبات السياسية، فبينما تؤكد الحركات الناشطة في مجال مكافحة الرق أنه لا يزال يمارَس واقعيًا، ترفض الحكومة الاعتراف بوجوده وتقول إن هناك مخلفات له وتعمل باستمرار للقضاء عليها عبر سن القوانين الرادعة ومنح الأولوية للمتضررين بتلك المخلفات في البرامج الاقتصادية والتعليم والصحة.
مطالبهم
يطالب الحراطون اليوم بالمواطنة الكاملة وبإنصافهم وبالكرامة والحرية، ونجحوا في وضع ميثاق حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أبريل/نيسان عام 2013، هذا الميثاق عبارة عن عريضة مطلبية تحليلية مطولة تستقرئ تاريخ الحراطين في موريتانيا، ويؤكد في ديباجته “استمرار إقصاء هذه الشريحة” على الرغم من مضي أكثر من نصف قرن من الاستقلال، ويرى الميثاق أن موريتانيا (الدولة المتعددة الأعراق والثقافات بامتياز) لا تزال تفتقر لعقد اجتماعي جاد ومؤسس على قاعدة الانتماء المشترك لأمة موحدة.
ويعدد الميثاق في جوانب منه مظاهر إقصاء أبناء الحراطين من مؤسسات الدولة، ويدرج مثالًا على ذلك “الغياب الملحوظ للحراطين من أسلاك التوظيف بالقطاعين العمومي وشبه العمومي”، ويقدم إحصاءات ومقارنات لواقع هذه الفئة في أجهزة الدولة، فأوضح “عُينت وزيرتان فقط من الحراطين في الحكومات الموريتانية المتعاقبة خلال الـ30 عامًا الأخيرة“، واستنادًا إلى الميثاق فإن الحراطين لم يحصلوا سوى على والٍ واحد من أصل 13 واليًّا، وما بين رئيس أو اثنين لبعثة دبلوماسية في الخارج من أصل 35، وما بين 3 إلى 4 مديرين عامين لمؤسسات عمومية من أصل 140.
تواصل معاناة فئة الحراطين
ويقول نشطاء المجتمع المدني: “القضاء على العبودية وآثارها يتطلب إقامة دولة المواطنة، وذلك لن يتأتى إلا من خلال المساواة، وتكافؤ الفرص في التعليم وتقلد الوظائف، وتنمية مناطق وجود هذه الشريحة التي لا تزال تعاني التهميش والإقصاء”، وشهدت موريتانيا عاميّ 1989 و1990 مواجهات بين السود والبيض المور مما أدى إلى نزوح آلاف السود إلى السنغال ومالي، لكن عددًا كبيرًا منهم عاد اليوم إلى موريتانيا.
ويعود تاريخ الجدل بشأن العبودية في موريتانيا إلى السنوات الأولى لاستقلال البلاد بداية ستينيات القرن الماضي، حينما كانت العبودية تنتشر بشكل علني بين فئات المجتمع الموريتاني كافة، سواء تعلق الأمر بالأغلبية العربية أو الأقلية الزنجية.
يذكر أن الحكومات الموريتانية المتتالية قد ألغت العبودية 3 مرات إلا أنها وكل مرة لا تتم محاكمة ممارسي العبودية على طائفة الحراطين، وجاء أول إلغاء عام 1961 مع حصول موريتانيا على استقلالها، وفي العام 1981 وبعد الانقلاب العسكري حرمت الحكومة العبودية، لكن ظلت العبودية تمارس ـ حتى في العاصمة نواكشوط ـ حتى عاقب عليها القانون عام 2007، إلا أن الغريب في الأمر أنه لم تتم ملاحقة ومعاقبة سوى حالة واحدة فقط عام 2011.