عندما سُئل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مطلع يناير/كانون الثاني الماضي، عن المرشح الذي سيدفع به حزب العدالة والتنمية لرئاسة إسطنبول الكبرى عبر الانتخابات البلدية، قال بثقة: “جميع الخطوات التي سنقوم بها ستكون مفاجأة ومعبرة عن إرادة الفوز”، قبل أن يعلن أردوغان للرأي العام التركي اختيار وزير البيئة والتخطيط العمراني السابق مراد قوروم، لخوض المنافسة على المقعد الأهم في الانتخابات البلدية التركية، المقررة في 31 مارس/آذار الحاليّ.
اختيار النائب البرلماني عن دائرة إسطنبول قوروم، رئيس لجنة البيئة في الجمعية الوطنية الكبرى، لخوض الانتخابات البلدية في إسطنبول، رهان كبير من أردوغان والحزب الحاكم في البلاد، للثقل الاقتصادي والسياسي والانتخابي، ففي اسطنبول نحو 20% من الناخبين الأتراك، وبالتالي فقد بدأ الاستعداد مبكرًا لحسم هذه الخطوة الفاصلة التي تتزامن مع الفترة الرئاسية الأخيرة لأردوغان، على حد وصفه، ورغبته في استعادة بلدية إسطنبول الكبرى من أيدي المعارضة، التي نجحت في اقتناصها، وبلديات كبرى، خلال الانتخابات الماضية في عام 2019.
الخطوات التكتيكية التي تستهدف تعزيز قوروم وفوزه برئاسة إسطنبول، البلدية الأكبر في البلاد، بدأت قبل الانتخابات العامة في مايو/أيار الماضي، عبر تنسيق الحزب الحاكم وحليفه حزب الحركة القومية، عندما تم اختبار شعبية قوروم من خلال الدفع به في الانتخابات البرلمانية الأخيرة بإسطنبول، وقد نجح في حسمها بجدارة، كما أن خروجه من التشكيل الوزاري عقب الانتخابات كان جزءًا من هذه التكتيكات، التي دعمتها استطلاعات رأي داخلية في الحزب مفادها أنه “الأوفر حظًا” لخوض انتخابات بلدية إسطنبول الكبرى.
مخططو السياسات داخل تحالف الشعب الحاكم بقيادة العدالة والتنمية، ظلوا طوال الأعوام الـ5 الماضية، يدرسون أسباب الإخفاق في مواجهة أقوى مرشحي المعارضة، أكمل إمام أوغلو، الذي يخوض الانتخابات البلدية الحاليّة دفاعًا عن المقعد الذي فاز به في انتخابات مارس/آذار 2019، ممثلًا لحزب الشعب الجمهوري أكبر وأقدم الأحزاب التركية، وخلال النقاش الدائر داخل تحالف الشعب كان الدعم المشترك لقوروم هو الخيار الأقوى، مع التنسيق فيما يتعلق بالبلديات الرئيسية والفرعية خلال المعركة الانتخابية.
الدعم الرئاسي
الانتخابات البلدية في إسطنبول الكبرى ليست معركة الوزير السابق والبرلماني الحالي مراد قوروم فقط، لكنها المواجهة المؤجلة بين الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ورئيس البلدية الحالي، أكرم إمام أوغلو، الذي حافظ على المقعد حتى مع إعادة الانتخابات آنذاك، ومما يدل على أنها معركة أردوغان الشخصية قبل أن تكون معركته الحزبية، حرصه في مؤتمرات الدعم الانتخابي لقوروم على قصف معسكر إمام أوغلو: “علينا أن نخلص إسطنبول من فترة الجمود التي استمرت 5 أعوام، لم يتمكنوا من تقديم ما هو ملموس من خدمات لسكان المدينة. الخدمات تقدمها حكومات العدالة والتنمية خلال السنوات الـ21 الماضية”.
بدوره يعترف رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض، أوزغور أوزال، أن “المعركة الانتخابية في إسطنبول ستكون عنيفة للغاية”، وهو حال مرشح الحزب في الانتخابات، أكمل إمام أوغلو، الذي يراها منافسة شرسة، وستكون أصعب من انتخابات 2019 التي نجح خلالها في حسم المواجهة أمام مرشح الحزب الحاكم، بن على يلدريم، آخر رئيس للحكومة التركية قبل تطبيق نظام الرئاسة التنفيذية، الذي يجمع بموجبه أردوغان بين رئاسة الجمهورية والحكومة، بينما يدرك مرشح التحالف الحاكم قوروم أن فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات إسطنبول، رغم رمزيتها وخصوصيتها، ليس مستحيلًا.
تعهدات قوروم
تعبر تصريحات قوروم على هامش حملته الانتخابية – الدعائية، التي كانت “نون بوست” قريبة منها، عما يشغل نحو 16 مليون شخص يقطنون إسطنبول، في ملفات عدة، تتعلق بمحاولة تبديد القلق المتواصل منذ زلزال 6 فبراير/شباط 2023 وإمكانية حدوث هزات أرضية مماثلة في إسطنبول، فضلًا عن جملة من الإشكاليات التي تتعلق بالقطاعات الخدمية والتنموية، مدعومًا بخبرته المتراكمة في مجال البيئة والإسكان والتحول الحضري، الذي يركز على “التصدي للبناء غير القانوني، وبناء منازل قوية، وإعادة بناء المناطق العشوائية، حفاظًا على سلامة الأرواح والممتلكات” كجزء من إستراتيجية أردوغان.
يوظف قوروم خبراته في التطمينات المتعلقة بمخاوف الزلازل عبر خطط فحص المباني العامة ورفع كفائتها، وتأهيل المواطنين لحالة الطوارئ وكيفية الاستجابة، فضلًا عن مدى تطبيق كود الزلزال على المباني الخاصة والعامة، وتقييم تصاريح البناء وعمليات التفتيش وتوافقها مع اللوائح من عدمه. وتتعدد تعهداته: “سأسعى لإحياء مدينة إسطنبول، سننقذها من السنوات الـ5 الضائعة، رئيس بلدية إسطنبول يجب أن يكون على استعداد للعمل في أي مكان وفي أي وقت، سنعمل حتى لا يبقى أي مبنى محفوفًا بالمخاطر في إسطنبول. سنعمل على مكافحة الفوضى وسوء التنظيم في الولاية، خصمنا سيكون اللامبالاة والإهمال وعدم وجود نظام في إسطنبول”.
خريطة طريق
يتبنى قوروم خطة عمل مفصلة، على حد وصفه، تشمل 39 بلدة في إسطنبول، ليس فقط للحد من خطر الزلازل، وترميم المنشآت التاريخية بالمدينة، إنما كذلك لبسط الأمن، وإعادة تنظيم المرور. وعبر حملته الانتخابية التي شعارها “إعادة بناء إسطنبول” كثف قوروم خلال الفترة الرسمية للدعاية استخدام كل وسائل الترويج لبرنامجه الانتخابي، لا سيما مواقع التواصل الاجتماعي، من خلال رسائل مكثفة وفيديوهات، فضلًا عن الجولات والمؤتمرات الانتخابية التي خاطب خلالها كل الشرائح والفئات في إسطنبول، مبشرًا بالقضاء على الفوضى ومطمئنًا لقاطني إسطنبول.
تتضح الرؤية الشاملة التي يتبناها قوروم من واقع برنامجه “رؤية إسطنبول في القرن التركي”، وتركيزه على طرح الحلول، ففي قطاع الإسكان وعد ببناء نحو 650 ألف منزل، مع إنشاء ما يقرب من 100 ألف منزل اجتماعي خلال أقل من عامين بغرض تأجيرها للراغبين، وفي قطاع النقل طرح رؤيته التي تقوم على التوسع في الطرق السريعة والمحاور المرورية وتعزيز خدمات السكك الحديدية والنقل البحري للقضاء على الازدحام المروي، مع إعادة تقديم المدينة السياحية للعالم، عبر مشاريع تركز على رفع كفاءة الخدمات المرتبطة بهذا القطاع الكبير.
لا يتوقف البرنامج الانتخابي لقوروم عند الاهتمام بكل القطاعات والفئات، لكنه أيضًا يمد مظلة الأمان للمهاجرين، عبر التعهد بإدارة احترافية تعيد النظر في الإشكاليات والاستفادة من اللاجئين في دعم وتعزيز الاقتصاد، بما لا يضر بالمواطنين الأتراك، وهي لهجة عقلانية على عكس الخطاب الحاد لأحزاب المعارضة القومية واليسارية، والأحزاب اليمينية التي لا تراعي الأبعاد الرسمية في التعامل مع مشكلة اللاجئين، والتعامل معها باعتبارها أزمة مؤقتة، وأن المشكلة لا تكمن في الإقامة الطواعية، بل في العناصر غير النظامية التي يجب أن توفق أوضاعها.
تلاقي وتباعد
نعم، لا يحظى قوروم بنفس الشهرة السياسية لإمام أغلو في المشهد العام، محليًا ودوليًا، لكن معركته الحاليّة، بحكم تفاعلاتها ومتابعة مسارها وتداعياتها المرتقبة، دفعت به إلى دائرة الضوء، مستفيدًا من شهرته النسبية خلال الفترة التي كان يتولى خلالها منصبه الوزاري، التي تزامنت مع زلزال 6 فبراير/شباط 2023 الذي ضرب 11 ولاية في الجنوب التركي، حيث كان أحد الشخصيات الرئيسية في إدارة الكارثة، في ضوء ضخامتها وعدد ضحاياها وإجمالي خسائرها، وهي إحدى المحفزات التي ستجعله يخوض معركة ساخنة انتخابيًا مع إمام أوغلو، على حد وصف أنصار قوروم.
يتلاقى قوروم وإمام أغلو في عامل السن، ومن ثم قربهما من كتلة الشباب، ومن واقع قوائم الناخبين، يوجد أكثر من مليون ناخب شاب في إسطنبول، وهناك “الشريحة الحرجة” التي ستشارك في عملية التصويت بالانتخابات المحلية للمرة الأولى، من جيل «Z» المولودة بين عامي 1997 و2012، بعدما منحتها وسائل الإعلام الجديدة قوة إضافية، عبر الاستفادة من التطور التكنولوجي في التعبير عن نفسها سياسيًا واجتماعيًا، وهنا يبدو قوروم الأقرب لإقناع جزء من شريحة الشباب غير المسيس، الذي يمارس حياته خارج مظلة الأحزاب، من خلال عامل السن والسيرة الذاتية والمهنية التي تجعله أقرب للشخصيات التكنوقراط – المهنيين – التي تجذب الباحثين عن تعزيز الخدمات البلدية، أكثر من انحيازهم للمعارك السياسية.
أيضا، يستفيد قوروم من التطورات المتلاحقة داخل حزب الشعب الجمهوري، بعد الإطاحة بكمال كليجدار أوغلو، من رئاسة الحزب في الخريف الماضي، وعدم استقرار الأوضاع بين الرئيس الجديد، أوزغور أوزال، الراغب في توطيد مكانته في الحزب الأكبر في صفوف المعارضة والأقدم في قائمة الأحزاب التاريخية التركية، وبين طموحات، أكرم إمام أوغلو، الذي تبدو طموحاته أكبر من رئاسة بلدية إسطنبول إلى رئاسة الجمهورية نفسها، وهو أمر يتطلب ترتيبات حزبية قد تغذي الصراع في صفوف الشعب الجمهوري، وهذه الطموحات كانت لها تداعيات كثيرة، سياسيًا وقضائيًا، خلال السنوات الـ5 الماضية التي تأثرت بهذه الطموحات، وبالتالي حدت من جهود إمام أوغلو.
الأوزان الحزبية
سياسيًا، سيستفيد قوروم من قوة تنسيق تحالف الشعب الحاكم، الذي يصطف خلفه في انتخابات بلدية إسطنبول، خاصة حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، على عكس أكمل أوغلو الذي يعتمد على حزبه الشعب الجمهوري فقط، وشرائح محدودة من الناخبين التي يمكن أن تكون جزءًا من “التصويت العقابي” مع غير الملتزمين حزبيًا بدعم مرشحيهم في الانتخابات المرتقبة، وهو متغير مهم، حيث سبق أن استفاد من توحد المعارضة خلفه في انتخابات 2019، تحديدًا حزب الجيد، بشكل مباشر، وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي، وكانت أصوات الأكراد مرجحة لإمام أوغلو حينها.
لكن حلفاء إمام أوغلو في الانتخابات السابقة، كزعيمة حزب الجيد، ميرال أكشنار على سبيل المثال، لا يلعبون الدور نفسه في الانتخابات الحاليّة، كما أنها لا تلتزم الحياد السياسي، بل تشن حملة ضارية ضده لصالح حزبها الذي يخوض الانتخابات على مقعد بلدية إسطنبول الكبرى، وكذلك أحزاب أخرى كانت حليفة لحزب الشعب الجمهوري، ويعود موقف أكشنار إلى أنها تخوض المعركة الأخيرة للحفاظ على حزبها من التفكك، حيث يعيش حالة غليان داخلية منذ الانتخابات العامة الصيف الماضي، وعدم وضوح خطه السياسي، في ضوء تحالفاته التي تتناقض مع أفكاره المعلنة.
يتوقف مراقبون من خارج تركيا لمعركة قوروم وإمام أوغلو أمام نقطة جوهرية، تتمثل في الصراع على هوية إسطنبول خلال القرن الجديد من عمر الجمهورية، الذي بدأ في نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وهل تعود إلى حضن التيار المحافظ الذي يمثله أردوغان، أم تظل تحت سيطرة التيار اليسار العلماني الذي يمثله حزب الشعب الجمهوري ومرشحه أكمل إمام أوغلو، وهو أمر سينسحب على السياسية والاقتصاد والمجتمع ككل، خاصة أن إرث المدينة القريب يشجع على ذلك، بعدما تناوب على رئاستها حزبي الرفاه والعدالة والتنمية، الإسلاميين، منذ عام 1994 حتى الانتخابات المحلية عام 2019.
قناعات.. وتداعيات
قوروم، المدرك لواقع ومشكلات وتحديات إسطنبول، تعهد بأن يكون مطلع أبريل/نيسان 2024 بداية العمل الجاد في الولاية التركية التاريخية، وهو أمر يدركه الناخب جيدًا، كون حسابات الانتخابات البلدية تختلف عن الانتخابات العامة – الرئاسية والتشريعية – حيث يكون الانحياز في البلدية للأكثر قدرة على تقديم الخدمات المباشرة في البلدات الرئيسية والفرعية، دون النظر لحسابات سياسية أو عرقية، على عكس عوامل الانحياز لمرشحي الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، لذا تم اختيار قوروم لانتزاع المقعد من إمام أوغلو.
حال نجاح قوروم في استعادة بلدية إسطنبول الكبرى، مجددًا، لحزب العدالة والتنمية فإنه سيقدم للحزب الحاكم هدية كبرى سياسيًا وانتخابيًا، لن تقتصر تداعياتها على الداخل التركي فقط، لكنها ستبيض وجه الحكومة التركية إقليميًا ودوليًا، في ضوء مكانة المدينة التي تحظى بالنصيب الأكبر في البرلمان – 98 مقعدًا – فضلًا عن مكانتها الاقتصادية والسياسية والثقافية، لكن هذه الخطوة المصيرية تعتمد على قرار نحو 11 مليون ناخب تركي واتجاهاتهم والتعبير عنها في صناديق الاقتراع.