لا يتردد وزير الشؤون الدينية الجزائري محمد عيسى في التأكيد كل مرة أن المسلك الوحيد للبلاد لعدم العودة إلى فترة التسعينيات التي عاشت في أثنائها أحداث عنف بسبب الفكر المتطرف، هو التمسك بالمرجعية الدينية الوطنية التي يظل صمودها مربوطًا بكسب رهان تحديات داخلية، والتصدي لتهديدات فكرية خارجية.
في ولاية بسكرة جنوب البلاد جدد محمد عيسى – خلال افتتاحه ملتقى دولي عن الزعيم الفاتح عقبة بن نافع الذي كان له الفضل في دخول الإسلام إلى عدة مناطق بشمال إفريقيا منها الجزائر خلال الفتوحات الإسلامية – تأكيده حرص وزارته على الحفاظ على المرجعية الدينية الجزائرية.
المانع الوحيد
قال عيسى إن محاربة الفكر الطائفي تكون من خلال إحداث مناعة في المجتمع استنادًا إلى مرجعية المؤسسة الدينية الوطنية، وبحسب وزير الشؤون الدينية فإن مرجعية المؤسسة الدينية الوطنية التي تستمد قوتها من مدرسة الفتح الإسلامي والمدرسة المحمدية من شأنها إعطاء المناعة اللازمة للمجتمع.
وأضاف “ثقتنا في علماء وطننا والمؤلفات التي صاغها لنا أجدادنا العلماء والتفافنا حول مؤسستنا الدينية هو الحصن الذي يصد الأفكار المتطرفة”، وكثيرًا ما تثار في الجزائر مسألة بحث مواطنيها عن الفتوى خارج البلاد بسبب ضعف المؤسسات الدينية في البلاد، وغياب مرجعية دينية موحدة.
واعتبر الوزير أن المؤسسة الدينية وبحكم طبيعتها تجعل الشخص يخدم دينه ووطنه، ويرى الوزير أن حركات الإصلاح الكثيرة الناشئة من رحم الزوايا الجزائرية – التي هي ميراث مدرسة الفتح – كلها مدعوة لبث وتغذية الروح الجزائرية وواجب خدمة الوطن.
يتساءل آخرون عن طبيعة المرجعية التي تريد الوزارة بعثها وإلى أي تاريخ، هل إلى عهد الفتوحات الإسلامية مع عقبة بن نافع أم عصر ابن خلدون أو فترة العثمانيين، أم أن الأمر يتعلق بالماضي القريب بالرجوع إلى فكر بعض الزوايا وطرقها الصوفية
عراقيل
غير أن الملاحظ في خطابات الوزير الذي حرص منذ توليه هذا المنصب في 2014 على حماية المرجعية الوطنية أصبحت في الغالب – حسب مراقبين – مجرد كلام، كون أن أهم خطوة للحفاظ على المرجعية الدينية الجزائرية هي تعيين مفتي الجمهورية الذي من شأنه أن يكون المؤسسة الوحيدة التي تعطي اجتهادًا ذا إجماع بشأن تساؤلات الجزائريين الدينية.
ورغم الطلبات ومشاريع القوانين المختلفة التي رفعها وزراء الشؤون الدينية المتعاقبون إلى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لتعيين مفتي للجمهورية، لم يُستجب لهذا الطلب، لتتفرق الفتوى التي يريدها الجزائريون بين آراء المجلس الإسلامي الأعلى واجتهادات لجان الإفتاء الولائية وفتاوى مستوردة قد لا يُعرف مصدرها.
لكن حتى مقترح المفتي لا يلقى القبول لدى البعض الذين يعتقدون أن الاستناد إلى رأي واحد غير ممكن في الوقت الحاليّ، حتى لو كان أغلبية الجزائريين مالكيين، خاصة أن السنوات الأخيرة بينت أن هذه التجربة المطبقة في بعض الدول مثل الأزهر في مصر وهيئة الإفتاء في السعودية أثبتت فشلها.
ويتساءل آخرون عن طبيعة المرجعية التي تريد الوزارة بعثها وإلى أي تاريخ، هل إلى عهد الفتوحات الإسلامية مع عقبة بن نافع أم عصر بن خلدون أو فترة العثمانيين، أم أن الأمر يتعلق بالماضي القريب بالرجوع إلى فكر بعض الزوايا وطرقها الصوفية التي لا يختلف سلوكها عند البعض عن ممارسة الدجل الذي حاربه رائد الفكر الإصلاحي الحديث في الجزائر العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس.
ويتوجس الجزائريون من أن تسعى الوزارة إلى بناء المرجعية الوطنية وفق النظرة الصوفية، خاصة بعد أن صار أتباع هذه الطرق يتناقصون يومًا بعد يومٍ منذ أن دخلت السياسة وصارت تزكي هذا وتسقط الرشاد عن الآخر، فعلى سبيل المثال قال رئيس المنظمة الوطنية للزوايا مؤخرًا إن التفكير بترشيح شخص غير الرئيس بوتفليقة لانتخابات 2019 حرام.
أرسلت الوزارة حينها بالتعاون مع السلطات الأمنية أئمة ومفتين إلى السجون لإقناع معتنقي الفكر المتشدد والمتطرفين بتغيير تفكيرهم والعودة إلى حضن المجتمع، وهي التجربة التي نجحت فيها
حرب ضد التطرف
لكن برأي آخرين، فإن إصرار الوزير على الحفاظ على المرجعية الدينية للجزائريين إن كانت مبنية على المذهب المالكي أمر مطلوب يستحق التشجيع بالنظر إلى التحديات الخارجية المحدقة بالبلاد.
وأوضح الوزير محمد عيسى أن كل حركة تأتي للقضاء على هذا الجهد ينبغي علينا جميعًا التنبه لها من نخبة مثقفة وأئمة مساجد وشيوخ زوايا ووسائل إعلام وغيرها، وأكد محمد عيسى أن الجزائر نجحت في دحر الإرهاب وانتقلت إلى مرحلة الوقاية من التطرف والتشدد، وقال إن المؤسسة الدينية من خلال المساجد والأئمة قد تمكنت برجوعها إلى الفاتحين وباستلهامها من الإسلام الصحيح من مقاومة التطرف والتشدد.
وأضاف “لا فرق بين الإسلام والوطن، لأن هذا الارتباط جعل المؤسسة الدينية تسهم بشكل فعال في بث الروح الوطنية التي تجسدت في أثناء الثورة التحريرية المظفرة، وخلال مختلف المراحل العصيبة التي مرت بها البلاد”، وخلال فترة التسعينيات التي عرفت مقتل أكثر من 200 ألف جزائري بسبب أحداث العنف التي عاشتها البلاد، لجأت السلطة وقتها إلى المسجد والمؤسسة الدينية لإقناع الإرهابيين والمتطرفين بالتخلي عن السلاح وتبني مشروع المصالحة الوطنية في 2005.
وأرسلت الوزارة حينها بالتعاون مع السلطات الأمنية أئمة ومفتين إلى السجون لإقناع معتنقي الفكر المتشدد والمتطرفين بتغيير تفكيرهم والعودة إلى حضن المجتمع، وهي التجربة التي نجحت فيها إلى أبعد الحدود حتى صارت اليوم محل طلب من دول غربية كفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وحتى الولايات المتحدة الأمريكية التي تصر على إرسال أئمة جزائريين إليها للمساهمة في محاربة التطرف.
تعاملت السلطات الجزائرية دومًا مع هذه الحملات الخارجية التي استهدفت مرجعيتها الدينية وفق قانون ممارسة الشعائر الدينية الذي يشترط الحصول على ترخيص لإنشاء جمعية دينية أو إقامة مكان للعبادة
حملات متتالية
لا تكاد الجزائر تخرج من ظهور طائفة جديد في البلاد حتى تظهر أخرى وهي التي أكثر من 99% من سكانها مسلمون سنيون، لا يمثل المسيحيون واليهود والإباضيون وباقي الطرق الصوفية إلا فئة قليلة بسحب إحصاءات متخصصة.
وقد عانت الجزائر في بداية الألفية الحاليّة من حملة تنصير واسعة مست بالأخص منطقة القبائل التي يسكنها الأمازيغ، وذلك خلال عملية التبشير التي قادها الإنجيليون الجدد الذين ظهروا مع الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن.
وما إن أفلت حملة التنصير، حتى ظهرت في البلاد حملة تشيع في مناطق مختلفة من البلاد وبالأخص بالولايات الشرقية، والتي اتهم فيها الملحق الثقافي بالسفارة الإيرانية في الجزائر بالوقوف ورائها، كما عبرت الجزائر وقتها بصفة علنية عن انزعاجها من تصريحات نسبت لقيادات شيعية عراقية تدعو لتشيع الجزائريين، واستُقبل وقتها السفير العراقي بالجزائر من وزير الشؤون الدينية لوضع النقاط على الحروف.
وفي السنة الماضية ظهرت موجة الطائفة الأحمدية التي استهدفت عدة جزائريين في ولايات عديدة، وبعدها برزت الطريقة الكركرية التي أفلت حملة التبشير بها سريعًا.
وتعاملت السلطات الجزائرية دومًا مع هذه الحملات الخارجية التي استهدفت مرجعيتها الدينية وفق قانون ممارسة الشعائر الدينية الذي يشترط الحصول على ترخيص لإنشاء جمعية دينية أو إقامة مكان للعبادة، وكل مخالف لذلك يحال إلى العدالة، إلا أن هذا القانون يلقى انتقادات عديدة من منظمات غير حقوقية أجنبية، وجعل الخارجية الأمريكية توجه له ملاحظات متتالية كل سنة في تقريرها الدوري بشأن ممارسة الشعائر الدينية، رغم أنه قانون يطبق على المسلمين وغيرهم بالطريقة ذاتها.
وبرأي مراقبين فإن هذه الحملات لن تتوقف ضد الجزائر التي لطالما شكلت قضايا الهوية من لغة ودين مجالًا للسجال الداخلي ومنفذًا لمحاولات الغزو الخارجي، لذلك يبقى الحل في الرجوع إلى الممارسة الوسطية للدين التي عرفها الجزائريون بعيدًا عن أهواء السياسيين وتكالب الخارجيين.