في غيبة تامة من الإعلام وبعيدًا عن صخب الشد والجذب، فوجئ المصريون بقرار منشور بالجريدة الرسمية تحت رقم 2336 لسنة 2017 موقع من رئيس مجلس الوزراء المهندس شريف إسماعيل بالموافقة على بيع شركات القطاع العام المملوكة للدولة سواء كان البيع جزئيًا أو كليًا.
“خصخصة بلا ضجيج” هكذا وصفت بعض وسائل الإعلام هذا القرار المنشور بالجريدة في الأول من نوفمبر الحاليّ، ليُستعاد مجددًا ما حدث من ربع قرن مضى حين وضع نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك أولى لبنات سياسة بيع القطاع العام التي لا يزال المصريون يدفعون ثمنها حتى الآن.
ورغم ما تدعيه الحكومة المصرية بشأن دوافع هذا القرار الذي يأتي في إطار ما يسمى بسياسة الإصلاح الجديدة، وهي نفس الأسباب التي عبر عنها رئيس وزراء مصر الراحل الدكتور عاطف صدقي عام 1991 ومن بعده كمال الجنزوري ثم عاطف عبيد وأخيرًا أحمد نظيف، إلا أن الخبراء يؤكدون أن لهذه الخطوة أبعادًا أخرى تتعلق بالوضع الاقتصادي الراهن وما تعاني منه مصر من أزمات خانقة من عجز في الموازنة وديون يتوقع أن تتجاوز حجم الـ100 مليار دولار بحلول 2018.
بيع شركات القطاع العام أو بعض أسهمها هو أحد شروط صندوق النقد الدولي للموافقة على منح القاهرة القرض البالغ قيمته 12 مليار دولار
علامات استفهام
تضمن القرار المنشور بالجريدة الرسمية صبيحة الأربعاء 1 من نوفمبر 2017 الدوافع التي ساقتها الحكومة المصرية لاتخاذ هذا القرار في هذا التوقيت، والتي تمحورت في 6 أهداف كما جاء في “المادة الأولى” منها: تنشيط البورصة المصرية وإضافة قطاعات جديدة فيها – تطوير الشركات وإجراء إعادة هيكلة مالية بها – تعزيز الشفافية والحوكمة – جذب الاستثمارات الأجنبية – تنويع مصادر دخل الدولة.
ديباجة المادة الأولى عنون لها بـ”يهدف برنامج طرح أسهم الشركات المملوكة للدولة جزئيًا أو كليًا في الأسواق”، مما يعني أنه من الممكن أن تباع شركات بأكملها، وهو ما يتناقض بشكل واضح مع تصريحات وزير المالية المصرية الذي أشار فيها أكثر من مرة أن البيع لا يتجاوز حصة الـ20% من إجمالي أسهم الشركة.
أما المادة الـ9 من القرار والتي تحدد مصارف حصيلة ما يباع من أسهم الشركات، فأشارت إلى أن هناك 3 جهات تؤول إليها تلك الحصيلة، الأولى: زيادة رأس مال الشركة، الثانية: سداد جزء من مديونياتها، الثالثة: إيداع جزء من الحصيلة في خزينة الدولة، وذلك دون أن تحدد نسب ما أو آلية توزيع، مما يعيد سيناريو تسعينيات القرن الماضي والكوارث الناجمة عن بيع أسهم بعض شركات القطاع العام، وسرقة حصيلة البيع دون أن يعود على الشركة أو العاملين بها أي مردود إيجابي إلى أن تم إغلاقها مرة أخرى.
الرضوخ للصندوق
بيع شركات القطاع العام أو بعض أسهمها هو أحد شروط صندوق النقد الدولي للموافقة على منح القاهرة القرض البالغ قيمته 12 مليار دولار، بهدف تقليص عجز الموازنة وتغطية برنامج الإصلاح الاقتصادي، ولعل هذا ما يفسر هرولة الحكومة المصرية للإسراع في تنفيذ هذا المخطط الذي تجمد في أعقاب ثورة 25 من يناير 2011.
بدأت إرهاصات التزام السلطات المصرية بشروط الصندوق منذ الوهلة الأولى لبدء مشوار التفاوض على القرض قبل عامين، حين بدأ الحديث عن رفع الدعم الجزئي عن بعض السلع والخدمات تمهيدًا لرفع الدولة يدها كاملة عن أي دعم على السلع الموجودة، وهو ما ظهر جليًا في الوقود والكهرباء والغاز والمياه وغيرها.
وزيرة التعاون الدولي سحر نصر في مقال سابق لها في صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية كشفت النقاب عن خطة الحكومة لطرح جزئى لعدد من الشركات المملوكة للدولة في اكتتاب عام، مشيرة إلى أنه سيشمل للمرة الأولي شركات المرافق العامة كقطاع استراتيجي، ومعلنة عن مسار اقتصادي جديد عبر قيادة القطاع الخاص للمشهد الاقتصادي متخففًا من تدخلات الدولة.
ديباجة المادة الأولى عنون لها بـ”يهدف برنامج طرح أسهم الشركات المملوكة للدولة جزئيًا أو كليًا في الأسواق..” مما يعني أنه من الممكن أن تباع شركات بأكملها، وهو ما يتناقض بشكل واضح مع تصريحات وزير المالية المصرية
السيسي خلال استقباله مديرة صندوق النقد الدولي
عشرات الشركات والبنوك في المرحلة الأولى
وفق ما تناقلته بعض وسائل الإعلام نقلًا عن مصادر مقربة من دوائر صنع القرار داخل مجلس الوزراء المصري، فإن المذبحة الأولى للخصخصة بعد نشر القرار في الجريدة الرسمية ستتضمن عشرات الشركات والبنوك في آن واحد، بعضها سيباع حصة من أسهمه والآخر يتم بيعه بالكامل، وهو ما أثار حفيظة الكثير من الاقتصاديين.
ومن أبرز الشركات االمتوقع أن تكون تحت مقصلة البيع خلال الأيام القادمة: شركات الحديد والصلب – ممفيس للأدوية – العربية للشحن والتفريغ – القومية للأسمنت – راكتا للورق – الشركة العربية لتصنيع الزجاج الدوائي بالسويس – شركة إدفو لاب للأوراق – أبو قير للأسمدة بالإسكندرية.
قفز الدين الخارجي للبلاد بنسبة 41.6% ليصل 79 مليار دولار بنهاية السنة المالية 2016 – 2017 التي انتهت في 30 من يونيو الماضي، بزيادة قدرت بنحو 23.2 مليار دولار عن السنة المالية السابقة
علاوة على بيع حصص تقترب من 50% من 6 شركات نفطية تابعة لوزارة البترول (إنبي – موبكو – ميدور – أموك – إيثيدكو – سيدبك) بجانب 4 شركات تابعة لوزارة الكهرباء والطاقة و3 بنوك حكومية كبرى هي بنك القاهرة والمصرف المتحد والبنك العربي الإفريقي، ومن المتوقع أن يتم طرحها في البورصة قبل نهاية العام الحاليّ.
فيما قدمت وزارة الكهرباء والطاقة 4 شركات حكومية متخصصة في إنتاج الكهرباء سيتم طرحها للاكتتاب العام، منها واحدة في كفر الشيخ (شمال القاهرة)، وأخرى في العاصمة الإدارية الجديدة بالقاهرة، وثالثة في بنى سويف (جنوب القاهرة).
إصلاح أم إفلاس؟
بينما ترى السلطات المصرية أن العودة للخصخصة مجددًا ترجمة لخطوات الإصلاح الاقتصادي التي أعلنتها الحكومة مؤخرًا، هناك من يرى ذلك دليلًا واضحًا على ما تعانيه الدولة من إفلاس، بعد الأزمة الذي تشهدها خلال السنوات الأخيرة، مما دفعها للبحث عن وسائل جديدة لتنشيط خزانتها التي تعاني من عجز جراء توجيه أرصدتها حيال مشروعات لا ينتظر عائدها قريبًا، كما هو الحال في تفريعة قناة السويس الجديدة والعاصمة الإدارية وغيرها من المشروعات التي التهمت مليارات الدولارات العامين الماضيين.
المذبحة الأولى للخصخصة بعد نشر القرار في الجريدة الرسمية ستتضمن عشرات الشركات والبنوك في آن واحد، بعضها سيباع حصة من أسهمه والآخر يتم بيعه بالكامل
وتكشف التقارير الواردة عن البنك المركزي المصري حقيقة الوضع المتأزم الذي يعاني منه الاقتصاد المصري الفترة الأخيرة، إذ قفز الدين الخارجي للبلاد بنسبة 41.6% ليصل 79 مليار دولار بنهاية السنة المالية 2016 – 2017 التي انتهت في 30 من يونيو الماضي، بزيادة قدرت بنحو 23.2 مليار دولار عن السنة المالية السابقة، فضلًا عما يشهده الدين الداخلي من قفزات جنونية.
وبدءًا من يوليو الماضي وحتى يناير القادم من المفترض أن يسدد البنك المركزي مديونيات قصيرة الأجل بقيمة 13 مليار دولار، فضلًا عن فوائد تلك الديون، والتي زادت بنسبة 25% في الموازنة العامة لعام 2016 – 2017 لتبلغ قيمتها قرابة 380 مليار جنيه (20.9 مليار دولار) بما قيمته 35.1% من إجمالي نفقات الحكومة المصرية في 11 شهرًا من السنة المالية الماضية 2016 – 2017.
ومع استمرار تلك الأزمة في ظل تراجع المعونات والمساعدات الدولية لا سيما الخليجية في الفترة الأخيرة، لم تجد الحكومة المصرية خيارًا آخر للخروج من هذا المأزق سوى اللجوء إلى بيع بعض أسهم شركات القطاع العام بصرف النظر عن هوية المشتري، وهو ما أثار حالة من القلق والترقب لدى قطاع كبير من الاقتصاديين من تكرار سيناريو مبارك مرة أخرى.
30 مليون مصري تحت مستوى خط الفقر
شبح مبارك يطل من جديد
كان الظهور الأول للخصخصة في عهد مبارك خلال حكومة الدكتور عاطف صدقي عام 1991 حين تم البدء في تنفيذ هذه السياسة الجديدة على الاقتصاد المصري، ووصل عدد شركات القطاع العام التي بيع بعضها أو بالكامل خلال الفترة من 1991 وحتى 2009 قرابة 407 شركات، وفقًا لدراسة معتمدة على بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
وبلغت حصيلة البيع آنذاك أكثر من 57.3 مليار دولار، 9% منها في عهد وزارة عاطف صدقي و21% في عهد وزارة كمال الجنزوري و21.6% في عهد عاطف عبيد و48.4% في وزارة أحمد نظيف، كما امتد نفوذ الخصخصة حينها إلى الهيئات العامة التي خرجت من الموازنة العامة للدولة وتحولت إلى شركات مثل الاتصالات والمياه والصرف الصحي والكهرباء والنقل العام والسكك الحديدية ومصر للطيران، وما تبع ذلك من ارتفاع جنوني في أسعار السلع والخدمات كان له تداعيات سلبية على المواطن ومعدلات الفقر فيما بعد.
وكان من الآثار المدمرة لهذا التوجه حينها القضاء على أكبر شركات القطاع العام التي كانت تمثل العصب الأساسي لمصر في كثير من المجالات، على رأسها شركة الكابلات المصرية التي صعدت على أنقاضها شركة السويدي للكابلات لامتلاكه حصة حاكمة في قرارات مجلس الإدارة، وعليه دخلت الشركة العريقة في غياهب الخصخصة والخسائر السنوية، الأمر نفسه تكرر في النيل لحليج الأقطان وأسمنت بني سويف والمراجل البخارية ثم الحديد والصلب وآخرها عمر أفندي.
وبالوقوف على معدلات الفقر في مصر خلال العامين الماضيين فقط والتي وصلت إلى 27.8% من المصريين العام الماضي (بما يقرب من 30 مليون مواطن) يعيشون تحت مستوى خط الفقر، فضلًا عن 76 مليون معرضون للانضمام لقائمة الفقراء خلال السنوات القادمة في ظل القفزات الجنونية في الأسعار والخدمات، إضافة إلى زيادة نسب التضخم والبطالة.
يلاحظ أن توجه الحكومة نحو الخصخصة وبيع القطاع العام سيلقي بظلاله القاتمة على مستقبل الفقراء في مصر، وهو ما يهدد النسيج المجتمعي بصورة تلقي بمستقبل الملايين من المقهورين في هذا الوطن في ملعب رجال الأعمال والمستثمرين، يتلاعبون بمصائرهم أينما شاءوا ووقتما شاءوا، دون حماية لهم من الدولة التي رفعت أيديها عنهم بصورة شبه كاملة.