ولدت تمام عارف الأكحل في يافا سنة 1935، وغادرتها قسرًا عبر البحر مع عائلتها في عام النكبة إلى بيروت، لتبدأ مشوارها الفني بالموهبة التي ظهرت عليها منذ صغرها، فلقد كانت تلون وترسم على كل ما يقع بين يديها، وكان والدها أول من يبتهج لهذه “الشحبرة” كما تقول.
تعد تمام الأكحل أول امرأة فلسطينية تتخرج من أكاديميات الفن التشكيلي بعد أن درسته في المعهد العالي للفنون الجميلة والتربية الفنية في القاهرة بين عامي 1953 و1957، من خلال منحة قدمتها لها كلية المقاصد في بيروت، وقبل أن تصقل هذه الموهبة بالعلم شاركت في أول معرض لها في لبنان قبل عامها الدراسي الأول في مصر.
كذلك، لا يمكن الحديث عن تمام الأكحل دون ذكر زوجها الرسام الفلسطيني إسماعيل شموط الذي شاركته في أعماله ومعارضه وجميع محطات حياته، بعد أن تعارفا بالكلية نفسها في القاهرة، واللذان عرضا لوحاتهما سويًا في أول معرض لهما عام 1954، والتي لاقت إعجاب العديد من الأشخاص، ومن ضمنهم رئيس الجامعة الذي قال لهما: “لقد وضعتم الحجر الأساسي للقضية الفلسطينية”.
عن ماذا عبرت تمام الأكحل بلوحاتها؟
استطاعت الأكحل التعبير عن فاجعة النكبة ومعاناة الشعب الفلسطيني فيها من خلال لوحاتها بشكل بديع وغير مسبوق
تقول الأكحل: “كان همي وهم إسماعيل شموط (زوجها) أن نعبر عن الإنسان، لم نستطع أن نرسم أشياء مفرحة وملونة كالمناظر الطبيعية، لأنه في داخلنا كان هناك وجع وتجربة مريرة مما عشناه في حياة التشرد والمخيمات، لذلك كنا نحكي للعالم عن هذا الألم من خلال لوحاتنا، ولكن لكلانا أسلوبه الخاص في التعبير عن هذه المشقة”.
فمن السهل ملاحظة هذه التجربة على أسلوب الأكحل التي صاغت الواقع الفلسطيني بلوحات عبرت فيها عن مأساة النكبة وقسوة التهجير والغربة وحياة المخيمات واللجوء وعاطفة الحنين إلى الوطن.
كما تعمدت الأكحل إبراز الهوية الفلسطينية خلال رسوماتها التي أظهرت فيها جماليات الفلكلور الفلسطيني وتقاليده وعاداته الاجتماعية، كذلك قدمت للأزياء الفلسطينية التراثية والشعبية حقها من هذا الفن في سلسلة من لوحات تمثل العرس الفلسطيني والحياة اليومية الفلسطينية بتفاصيلها.
اهتمت الأكحل في أسلوبها التعبيري بالألوان وهذا ما أكده أحد أبنائها بشار إسماعيل شموط عندما قال: “كانت والدتي جريئة في اقتحام عالم الفن وفي التجارب المتعلقة باستعمال الألوان”.
شاركت الأكحل في معارض عربية ودولية، فلقد دعيت إلى أكثر من 16 دولة عربية و12 دولة غربية، لتعرض القضية الفلسطينية على جميع دول العالم، رغم بعض الصعوبات التي تعرضت لها من بعض مناصري دولة الاحتلال الإسرائيلي
هذا وتقول روان الضامن -مخرجة وإعلامية فلسطينية والتي كانت قد صنعت وثائقي من حلقتين حول الأكحل عُرض على قناة الجزيرة قبل نحو 10 سنوات-: “يقسم عدد من النقاد الفنيين تجربة تمام الأكحل مع الفن التشكيلي إلى ثلاث مراحل: المرحلة الواقعية وهي عرض موضوعات عن واقع الحياة اليومية ومعاناة اللجوء الفلسطيني، ثم الانطباعية وفيها تصوير الآثار النفسية والاجتماعية للجوء ومفردات التراث الفلسطيني، ثم مرحلة الرمزية”، وتضيف “كما أنها أحيت الأسلوب العربي القديم في كثير من أعمالها، وذلك برسم أكثر من مشهد في اللوحة الواحدة واعتماد أسلوب التكرار المتدرج”.
مع العلم أن الأكحل شاركت في معارض عربية ودولية، فلقد دعيت إلى أكثر من 16 دولة عربية و12 دولة غربية، لتعرض القضية الفلسطينية على جميع دول العالم، رغم بعض الصعوبات التي تعرضت لها من بعض مناصري دولة الاحتلال الإسرائيلي، والذين سعوا إلى منع الزيارات لمعارضها في مرات عديدة، وبالتحديد بالمعارض التي أقيمت في الولايات المتحدة الأمريكية.
وبعيدًا عن الصعوبات التي تعرضت لها الفنانة الفلسطينية، جدير بالذكر أنها حصلت على عدد من الجوائز العربية والدولية، وكرمت كرائدة في الفن التشكيلي من بين 65 دولة في مسابقة برعاية ألمانية.
اليد ترى والقلب يرسم
ألفت الأكحل كتابًا يسرد أحداث حياتها الشخصية والفنية رفقة زوجها، سجلت فيه مراحل رحلتها منذ نزوحها وحتى اكتمال شبابها ومسيرتها الفنية التي انتهت بكونها “زيتونة الفن التشكيلي الفلسطيني”.
استوحت الأكحل فكرة هذا الكتاب من القصص التي كانت تقرأها عن حياة الشاعر الفلسطيني محمود درويش والتي كانت مليئة بالتناقضات والأخطاء، لذلك قررت الأكحل أن توثق قصتها وقصة زوجها بقلمها ودون أي مغالطات، خاصة أن حياتهما تحتوي على الكثير من القصص التي تمثل تاريخ النكبة الفلسطينية.
وتعليقًا على هذا الكتاب، قال الكاتب الروائي اللبناني إلياس خوري: “الحكايات التي نثرتها الفنانة على صفحات كتابها تفتح لنا نافذة نطل منها على البدايات وكيف تحول ركام البلد إلى حجارة بنت وطنًا منفيًا من وطنه، فصار وطن جميع الفقراء والمضطهدين في العالم”.
أقامت الأكحل معرضها الأخير بعنوان “ما زلنا معًا” مستوحية هذا الاسم من حمامتين كانت هي وشموط يراقبانهما كل يوم، وكأنهما الصورة المثالية لمعنى الحب، واختيارها لهذا العنوان وسيلة للتعبير عن عدم مفارقة شموط لها
تضيف الأكحل “لقد حاولت في هذا الكتاب أن أضيء جوانب من سيرتي الشخصية وسيرة حبيبي إسماعيل، مواطنًا ووجعًا وحلمًا، وأرفع الستار بالرد على الأسئلة الجمة التي كثيرًا ما طرحها علينا أصدقاء وإعلاميون عن الوطن والتهجير والطموحات والشغف والعناد والحب الغامر، لقد أخذ كثير منا، وحرمنا نعمة الاستقرار في أرضنا بسلام، والذي هو مصدر وجودنا واستمرارنا وإلهامنا، فمنذ الطفولة حاكت فلسطين بدايات كل منا، ثم جدلتها معا في حكاية مستمرة واحدة حتى رحيله”.
فبعد وفاة إسماعيل شموط، أقامت الأكحل معرضها الأخير بعنوان “ما زلنا معًا” مستوحية هذا الاسم من حمامتين كانت هي وشموط يراقبانهما كل يوم، وكأنهما الصورة المثالية لمعنى الحب، واختيارها لهذا العنوان وسيلة للتعبير عن عدم مفارقة شموط لها.
إحدى أكثر لوحات الأكحل شهرة
وأخيرًا، حاولت الأكحل في مسيرتها الفنية أن توثق حكاية الشعب الفلسطيني ومعاناته التي بدأت بسرقة الأرض وبتهويد هويته، ومن ثم استمرت هذه الرحلة بمحاولاتها هي وزوجها ببناء جسر من التواصل بين الحكاية الفلسطينية والجانب الآخر من العالم للحفاظ على كيان وتاريخ القضية في ذاكرة العالم، محاولان أن ينصرا جمال لوحاتهما على بشاعة الواقع وحقيقته.