في مكانٍ ما في ذهنك أو عقلك، تزوره بين الفينة والأخرى، تشاهد منه ما تقوم به وكيف تتصرف وماذا تنجز وكيف تؤثر على الآخرين، وتدرس نجاحاتك وإخفاقاتك، ثمّ تشرع في نهاية المطاف بإطلاق الحًكم عن نفسك، عمّا إذا كنتَ كائنًا مُجديًا أم لا، أو هل تعيش نوعًا من العبث أم لا، وهذا كله هو الطريق الأول لما يُسمّى في علم النفس باحترام الذات أو الثقة بالنفس.
لا بدّ وأنكَ عايشت واحدة من تلك اللحظات الصعبة التي أطلقتَ فيها حُكمًا سلبيًّا عن نفسك وعن دورك في الحياة وكلّ ما تفعله، ثمّ بدأت تسحب ذاتك شيئًا فشيئًا إلى دوّامة اللاجدوى واللامعنى التي قد تصبح سمتًا مطبوعًا في عقلك وفكرةً راسخة عن نفسك، معتبرًا أنّ كلّ ما تقوم به محض هراء أو فراغ.
وليس بعيدًا أنك في واحدة من لحظاتك تلك، وجدتَ من يحاول لفت انتباهك إلى نقاط القوة لديك وذكائك وكفاءتك وقدراتك وتجاربك وإنجازاتك والتغييرات الإيجابية التي حدثت معك في حياتك، وبكلماتٍ أخرى، من يحاول بناء ثقتك بنفسك أو يدلّك على الطريق لذلك.
تُعتبر الثقة بالنفس مهارةً يتم كسبها بناءً على مجموعة من الأفكار المختلفة حول العالم الذي حولنا ومكاننا أو موضعنا فيه. وتلك الأفكار يمكن دراستها بشكلٍ منهجيّ وتعلّمها تدريجيًّا، أيّ أنّنا نستطيع ترويض أنفسنا لنكسب فن الثقة.
كما تنطوي الثقة على الشجاعة لقبول النواقص والعيوب الكامنة فينا، وأن نغفر لأنفسنا ونتصالح معها في حال أخطأنا أو فشلنا أو خابت توقعاتنا حيال ما نريده وما نطمح إليه.
الطريقة التي نتحدث بها إلى أنفسنا
التحدث إلى النفس بأساليب صارمة قد يكون أمرًا طبيعيًّا، فنحن بحاجة لمراجعة أنفسنا حتى نحسّن منها ونغيّر فيها، فالنجاح قبل كلّ شيء هو المسألة التي نرى بها أنفسنا، والطريقة التي نحدّث بها أنفسنا، أي أنه مسألة ثقة
المشاعر الإيجابية مثل القبول الذاتي والثقة بالنفس تساعد الأطفال في مواجهة التحديات الجديدة وتخطيها أو محاولة مواجهتها مرة أخرى، كما تساعدهم في قبول الفشل في ذلك
في كثيرٍ من الأحيان لا نهتمّ بمناقشة أحكامنا وأفكارنا عن أنفسنا مع الآخرين، وإنما نحتفظ بها داخلنا خاصةً حين يتعلّق الأمر بمشكلاتنا وتحدياتنا ومراحل حياتنا السلبية، فتصبح في رؤوسنا أصواتًا أكثر قسوة وإدانةً وذات لهجة مهزومة قد تصل في بعض الأوقات لمستوى الإذلال والإهانة، فنصف أنفسنا بالحماقة والغباء والفشل واللاجدوى، الأمر الذي إنْ استمرّ فقد يخلق تيّارًا مدمّرًا ينمو ببطء ليُنتج بالنهاية صورة مدمّرة عن الذات وفكرةً سوداوية عن النفس.
الطفولة المبكّرة: حجر الأساس في الثقة بالنفس
لو عدنا للأصوات الداخلية المدمّرة، لوجدنا أنّ معظمهما تكونت بفعل وجهةِ نظرٍ منتقِصة من أب، أو لهجة انتقاد من أمّ، أو سخريةٍ شديدة من أخٍ، أو تعنيفٍ مستمر من معلّم الصفوف الأساسية. أيْ أنّ مراحل الطفولة المبكرة تُعتبر حجر الأساس في بناء ثقة الفرد بنفسه وإيمانه بها، والتي تتحدّد بناءً على أسلوب التنشئة التي بتّبعها الوالديْن وبيئة المدرسة والأقران التي ينمو فيها الطفل.
عندما يشعر الأطفال بالرضا عن أنفسهم والإيمان بها، فهذا يشكّل العتبة الأولى في طريق نجاحهم، في كل المناحي بدءًا من الأسرة ومرورًا بالمدرسة والبيئة والأقران. فالمشاعر الإيجابية مثل القبول الذاتي والثقة بالنفس تساعدهم في مواجهة التحديات الجديدة وتخطيها أو محاولة مواجهتها مرة أخرى، كما تساعدهم في قبول الفشل في ذلك، والتعامل مع الأخطاء والاستفادة منها، وعلى مستوىً أكبر تضمن لهم الشعور بالفخر بنجاحاتهم الصغيرة وإنجازاتهم.
وعلى النقيض من ذلك، قد يشعر الأطفال الذين يعانون من تقدير الذات المنخَفض بأنهم غير متأكدين من أنفسهم، وأنّهم لا يتلقّون التقبّل الكافي من الآخرين حولهم، وهذا ما قد يكون سببًا في معاملة أنفسهم معاملةً سيئة وتقبّلها من الآخرين، أو قد يتجنبوا التحديات والتجارب الجديدة خشية الفشل، أو يتخلّون بسرعة عما يريدونه أو يحاولون الحصول عليه.
قد يعتقد الكثيرون أنّ تنمية الثقة الذاتية عند الطفل تكون عن طريق المدح والثناء، قد يكون ذلك ناجعًا بكلّ تأكيد لكنها ليست الطريقة الوحيدة. فتقدير الذات والثقة بها هي نتيجة التجارب التي يخوضها الطفل وتجعله يشعر بأنه قادر وفعّال ومقبول في الحياة، سواء كانت تجارب إيجابية أو سلبية.
الحاضر والمجتمع: موجة من العبثية واللاجدوى
يلعب حاضر الأفراد والمجتمع الذي يعيشون فيه دورًا كبيرًا في الطريقة التي ينظر كلٌّ منهم لنفسه وحياته. فقد تخرج المجتمعات وواقعها أفرادًا واثقين مؤمنين بأنفسهم ومدركين لذواتهم الحقيقية وأدوراهم في الحياة، وعلى النقيض من ذلك قد تخرج أفرادًا مهزومين فاقدي الثقة يترنّحون بين العبثية واللاجدوى وينظرون لحياتهم على أنها محض فراغ لا طائل منها.
فشل الثورات العربية فتحت بابًا لضعف الثقة بالنفس والمجتمع بين الأفراد، الأمر الذي أدى بهم للكثير من المشاكل النفسية مثل الاكتئاب والقلق المتزايد والمزاج المتقلب وعدم الإيمان بالأفكار
ولو نظرنا إلى عالمنا العربيّ، لرأينا كثيرًا من شبابه -إن لم يكن معظمهم- غارقين في دوّامةٍ من التساؤلات السلبية حول أنفسهم وأعمالهم وأدوارهم في الحياة. وبكلماتٍ أخرى، ستجد كثيرًا منهم من الضائعين المتشكّكين بكلّ ما يقومون به ومن جدواه وأهميته، والباحثين عن المعنى الغائب من حياتهم.
فشل الثورات العربية فتحت بابًا لضعف الثقة بالنفس والمجتمع بين الأفراد، الأمر الذي أدى بهم للكثير من المشاكل النفسية مثل الاكتئاب والقلق المتزايد والمزاج المتقلب وعدم الإيمان بالأفكار، أو حتى التفكير بالانتحار والإقدام عليه. وقد يكون السبب وراء ذلك هو فقدان الأفراد أيّ أمل بحدوث تغيير، سواء على المستوى الفرديّ أو الجماعيّ، وشعورهم بأنّ الوضع الراهن سيبقى راسخًا لن يتغيّر، وأنّ الواقع لن يصير كما يرغبون أو يتمنّون، وكلّ ما يحدث فيه محكومٌ بالعبثية.
يتبع..