في أعقاب أزمة سياسية غير مسبوقة استمرت عدة أشهر، انتخب السنغاليون المعارض باسيرو ديوماي فاي رئيسًا جديدًا للبلاد من بين 19 مرشحًا، لم يكن منهم الرئيس المنتهية ولايته ماكي سال، الذي قرر عدم ترشحه لفترة رئاسية ثالثة.
ينتمي الرئيس المنتخب باسيرو (تحريف محلي لاسم بشير) إلى جيل الشباب، كان أصغر مرشحي الرئاسة ولا يتجاوز عمره 44 سنة، منها واحدة قضاها وراء القضبان في سجن “كاب مانوال” بالعاصمة السنغالية داكار، بسبب انتقاده السلطة القضائية في البلاد، قبل أن يخرج بعفو عام أصدره الرئيس المنتهية ولايته ماكي سال.
ومن السجن خرج فاي ليدرك 10 أيام فقط من الحملة الانتخابية، بيد أن الأزمة السياسية وقرارات الرئيس سال بتأجيل الانتخابات، وما أثارته من استياء شعبي، تسبّب في الدعاية لهذا المرشح الشاب الخارج لتوّه من تجربة نضالية امتدت لعدة سنوات، وانتهت بإيداعه السجن، وهو ما أضفى بُعدًا جديدًا للمعارض الشاب الذي دفع به حزب “الوطنيون من أجل العمل والأخلاق والأخوة” المعروف اختصارًا بـ”باستيف”.
لاحقًا، قالت محكمة الاستئناف السنغالية إن فاي حصل على أكثر من 54% من إجمالي أصوات الناخبين، فيما حصل أمادو با مرشح الائتلاف الحاكم على نحو 35% من الأصوات، كما حصل المرشح صاحب المركز الثالث أليو مامادو ديا على 2.8% فقط من الأصوات، بحسب الأرقام التي قرأها أمادي ضيوف، رئيس اللجنة الوطنية لفرز الأصوات في محكمة الاستئناف بداكار.
وأضاف رئيس اللجنة أن النتائج استندت إلى إحصاء كامل للأصوات في جميع مراكز الاقتراع، ومن المتوقع أن يصادق المجلس الدستوري على هذه النتائج خلال الأيام المقبلة.
الرئيس المنتهية ولايته لم يترشّح
في خطاب ألقاه مطلع يوليو/ تموز 2023 وبثّه التلفزيون الرسمي، قال الرئيس السنغالي المنتهية ولايته، ماكي سال، إنه لن يرشح نفسه لفترة جديدة في عام 2024، منهيًا تكهُّنات واسعة النطاق بأنه سيسعى للفوز بولاية ثالثة.
وأبقى ماكي سال موقفه بشأن الترشح غامضًا لفترة طويلة، في حين شهدت السنغال في مطلع يونيو/ حزيران أكثر الاضطرابات دموية منذ سنوات، أسفرت عن مقتل 16 شخصًا على الأقل.
وأضاف سال: “السنغال تتجاوز شخصي، وهي مليئة بالقادة القادرين على دفع البلاد نحو النهوض”، وتابع: “كان هناك الكثير من التكهّنات بشأن ترشّحي لهذه الانتخابات… ركزت أولوياتي قبل كل شيء على إدارة بلد وفريق حكومي متماسكَين، والتزمت بالعمل من أجل النهوض، لا سيما في سياق اجتماعي-اقتصادي صعب”.
وأكّد الرئيس السنغالي: “ضميري وذاكرتي مرتاحان لما قلته، كتبته وكرّرته، هنا وفي الخارج، أن ولاية 2019 كانت ولايتي الثانية والأخيرة”، وجدير بالذكر أن ماكي سال اُنتخب عام 2012، وأُعيد انتخابه عام 2019.
من السجن إلى القصر
أصبح الرئيس المنتخب باسيرو ديوماي فاي، خامس رئيس لجمهورية السنغال، وأصغرهم سنًّا منذ استقلال البلاد عن فرنسا عام 1960، إذ وُلد عام 1980 لعائلة ريفية متواضعة في إقليم تييس، وتحديدًا قرية ندياجانياو الزراعية.
حصل باسيرو فاي على الثانوية العامة (الباكالوريا) سنة 2000، ولم يخفِ الفتى امتعاضه من النتيجة التي حصل عليها، فقد كان يعتقد أنه نال بقلمه مرتبة الشرف الأولى، ولم يكن راضيًا عن مجرد النجاح في امتحان ظلَّ على الدوام يمثل عقبة كأداء في العادة أمام أعداد كبيرة من طلاب الثانوية في البلاد.
دفعه طموحه إلى جامعة الشيخ آنتا جوب (كبرى الجامعات السنغالية)، وحصل منها على “المتريز (الإجازة)” في تخصُّص القانون، قبل أن ينجح في امتحان القبول بالمدرسة الوطنية للإدارة، ليتخرج فيها ويعمل مفتشًا في الضرائب عام 2007، ومن هناك انفتحت للشاب بوابة أفق سياسي جديد، بدأ بعلاقة صداقة وطيدة مع رفيق دربه ومرشده السياسي عثمان سونكو، الذي سبقه بالعمل في إدارة الضرائب بعدة سنوات.
يُعتقد أن الرئيس السنغالي الجديد يميل إلى جماعة الإخوان المسلمين، بسبب علاقاته الوطيدة مع جماعة عباد الرحمن، لكنه في الوقت ذاته يتمتّع بدعم كبير من الجماعات الصوفية التي تنتشر في البلاد
وعثمان معارض سنغالي بارز من مواليد عام 1974، تدعمه الأجيال الشابة والأوساط المهمّشة، اشتهر برفعه شعار محاربة الفساد ومواجهة اختلاس الأموال العامة، وبعد حصوله على المرتبة الثالثة في الانتخابات الرئاسية عام 2019، خطف الأضواء وتصدّر المشهد السياسي.
بعد سنوات من العمل في الإدارة العمومية، وتشكيل نقابة للوكلاء الضريبيين والماليين، وتسليط الضوء على الفساد المالي على مستوى الضرائب وتنفيذ الميزانية، أسّس عثمان سونكو إلى جانب رفيق دربه باسيرو فاي حزب “الوطنيون من أجل العمل والأخلاق والأخوة” المعروف اختصارًا بـ”باستيف” عام 2014، وكان فاي أحد الذين تولوا كتابة وثائقه القانونية، ثم أصبح أمينه العامّ سنة 2022، وهو المنصب الثاني في هيئته القيادية.
ومن داخل السجن، ترشّح باسيرو وسونكو مستقلَين لرئاسيات 2024 فيما اعتبره متابعون مناورة من الحزب، وتحسبًا لمنع رئيسه من الترشح، ليكشف فرز النتائج الأولية مساء 24 مارس/ آذار 2024 عن تقدم باسيرو على بقية المرشحين بفارق مريح، خلافًا لتوقعات المراقبين الذي كانوا يعتقدون أنه قد يضطر خوض جولة ثانية لحسم معركة الرئاسة.
وقبل 10 سنوات، استقطب الحزب الجديد فئات واسعة من جيل الشباب الذي يشكّل الأغلبية العظمى من سكان البلاد، وفي فترة وجيزة تصدّر المشهد كأحد أبرز الأحزاب السياسية في السنغال، بينما أصبح باسيرو أحد قيادييه البارزين.
التفَّ حول حزب “باستيف” الكثير من الكفاءات الشابة، ممّن يعملون في الوظائف الحكومية وفي القطاع الخاص، وضمّ في هيئته القيادية وجوهًا شابة جديدة لم تكن معروفة بممارسة السياسة، كما تمكّن في فترة وجيزة من الترويج لشعاراته وأفكاره باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، حيث لم يتبنَّ الحزب الأيديولوجيات التقليدية كالليبرالية والاشتراكية والشيوعية، إنما يركز على إيمانه بالحريات العامة ومكافحة الفساد.
ويُعتقد أن الرئيس السنغالي الجديد يميل إلى جماعة الإخوان المسلمين، بسبب علاقاته الوطيدة مع مجموعات مقرّبة من ذلك التيار، مثل جماعة عباد الرحمن، لكنه في الوقت ذاته يتمتّع بدعم كبير من الجماعات الصوفية التي تنتشر في البلاد.
الأولوية للشفافية ومحاربة الفساد
حدد الفائز بالانتخابات الرئاسية في السنغال، باسيرو ديوماي فاي، أولوياته في أول خطاب يلقيه منذ حسمه الانتخابات من الجولة الأولى، وحرص على توجيه رسائل إلى مواطنيه وشركاء بلاده الخارجيين.
شدد ديوماي فاي -في خطاب متلفز- على أنه بانتخابه “اتخذ الشعب السنغالي خيار القطيعة” مع النظام القائم في البلاد، وأشار إلى أن “المشاريع ذات الأولوية” في عهده ستكون “المصالحة الوطنية وإعادة بناء المؤسسات”، بالإضافة إلى “تخفيض كبير في تكاليف المعيشة”.
الرئيس السنغالي المنتخب أشاد أيضًا بموقف الأطراف الأخرى المرشحة التي استمرت في “تقليد سنغالي جيد”، والمتمثل في تهنئة الفائز المعلن خلال النتائج الأولوية، قبل الإعلان الرسمي عن نتائج الانتخابات، وأضاف: “أنا ملتزم بالحكم بتواضع وشفافية، وبمحاربة الفساد على المستويات كافة”.
وعلى الصعيد الخارجي، قال الرئيس المنتخب: “أود أن أقول للمجتمع الدولي ولشركائنا إن السنغال ستحتفظ بمكانتها دائمًا، وستظل البلد الصديق والحليف الآمن والموثوق به لأي شريك سينخرط معنا في تعاون شريف ومحترم ومثمر للطرفَين”.
خروج عن التقاليد السنغالية
عن دلالات فوز المعارض السنغالي الشاب باسيرو فاي، تحدث لـ”نون بوست” الباحث في العلاقات الدولية أحمد زمراوي، الذي رأى أن انتخاب باسيرو يمثل خروجًا عن التقاليد المعروفة في السنغال، وهي هيمنة الحزبَين الديمقراطي والاشتراكي على الحياة السياسية في البلاد.
وأضاف أن السنغال عُرفت كذلك بالتبادل السلمي للسلطة والانتقال الديمقراطي خلال السنوات الماضية، موضحًا أن السنغال ونيجيريا وغانا لم تشهد أحداث عنف أو انقلابات في أعقاب الانتخابات، مثلما حدث في غامبيا وساحل العاج والنيجر ومالي.
وقال الباحث في العلاقات الدولية لـ”نون بوست”، إنّ اختيار الناخبين للمرشح الشاب يعكس تطلعات الشعب نحو التغيير وإعطاء فرصة لجيل الشباب، لافتًا إلى أن فاي ورفاقه استطاعوا بذكاء الاستفادة من التذمّر المتصاعد تجاه سيطرة فرنسا على الحكومات السنغالية السابقة.
التغيير الذي حدث عبر صناديق الاقتراع، قد لا يعني نهاية النفوذ الأوروبي بالكامل، ذلك أن الرئيس المنتخب وداعميه ركّزوا خلال الحملة الانتخابية على الانفتاح على شراكات جديدة “في إشارة ضمنية إلى روسيا”.
وفيما يتعلق بتوقعاته حول السياسة الخارجية للرئيس المنتخب باسيرو فاي، يرى زمراوي أنّ تصريحاته تشير إلى تغيير كبير مرتقب في السياسة الخارجية، تتضمن استقلالية متوقعة عن فرنسا ومراجعة العلاقات مع الجيران، خصوصًا موريتانيا التي تربطها بالسنغال عقود اقتصادية تتعلق بالمناجم والتعدين والمحروقات.
تتفق مع آراء زمراوي دراسة لمركز الصحراء للدراسات، ترجّح أن يغيّر فاي زاوية المقاربة في السياسة الخارجية عمّا كانت عليه في السابق، لكنه لن يكون جزءًا من الحلف الموالي لموسكو، بحسب الدراسة.
ومن أكثر النقاط والوعود الانتخابية في برنامج باسيرو فاي التي تفاعل معها السنغاليون، محاربة الهيمنة الثقافية الفرنسية، حيث التزم بمراجعة السياسات الثقافية المرتهنة لفرنسا، ووعد بانفتاح أكبر على اللغة الإنجليزية.
يرى مراقبون أن الانقلابات الأخيرة التي شهدتها غينيا وبوركينا فاسو ومالي والنيجر والغابون، هي موجة انقلابات ناشئة عن مشاعر قوية مناهضة لفرنسا، يمكن رصدها أيضًا على المستوى الشعبي وسط مواطني تلك الدول.
غير أنّ التغيير الذي حدث في السنغال عبر صناديق الاقتراع، قد لا يعني نهاية النفوذ الفرنسي والأوروبي بالكامل، ذلك أن الرئيس المنتخب باسيرو فاي وداعميه الشباب ركّزوا خلال الحملة الانتخابية على استقلالية أكبر عن فرنسا والانفتاح على شراكات جديدة، “في إشارة ضمنية إلى روسيا”.
أوروبا كذلك تحتاج إلى تغيير في نهجها التقليدي مع مستعمراتها السابقة، كما تعهّد الرئيس الفرنسي ماكرون بذلك في وقت سابق، واعتبر المستشار الألماني أولاف شولتس، خلال زيارته إلى السنغال في مايو/ أيار 2023، أنه “يجب على جميع البلدان التي لديها ماضٍ استعماري أن تكون صادقة للغاية، وتعترف بأن عليها مسؤولية لبناء علاقات أفضل مع المستعمرات السابقة، على سبيل المثال في أفريقيا”.
أخيرًا، مرة أخرى نجحت السنغال في ترسيخ مكانتها كواحة للانتقال الديمقراطي والاستقرار في غرب أفريقيا، من خلال تمسُّك الشعب بالوسائل الديمقراطية في تغيير حكّامه وسياساتهم، في وقت كثرت فيه الانقلابات العسكرية في المنطقة.
التغيير غير المتوقع الذي حدث في السنغال بانتخاب المعارض الشاب باسيرو فاي، يؤكد صلابة المؤسسات الديمقراطية في السنغال، كما أنه يعدّ مثالًا يحتذى لمنطقة غرب أفريقيا، وهو كذلك يبطل حجج الانقلابيين الذين أطاحوا بالأنظمة المدنية مؤخرًا في كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر.