بعد قرابة السنة والنصف على إمضاء اتفاقية قرطاج التي قامت على مبدأ توسيع قاعدة التوافق السياسي والاجتماعي بشأن عدد من الأولويات في تونس، وتشكّلت بمقتضاها حكومة الوحدة الوطنية، بدأت رياح الخريف تهب إليها، بعد أن هددت بعض الأطراف بالانسحاب والخروج منها وقرار أحزاب أخرى سحب ثقتها من حكومة يوسف الشاهد، فهل تصمد اتفاقية قرطاج أمام هذه الرياح، خاصة مع تقديم الحكومة لمشروع قانون المالية للسنة القادمة المثير للجدل، أم أنها ستكون مجرد سحب صيف عابرة؟
تهديد بالانسحاب
في تصعيد مفاجئ، هدّدت رئيسة منظمة أرباب العمل التونسية بانسحابها من وثيقة قرطاج، وقالت رئيسة المنظمة وداد بوشماوي في تصريح إذاعي: “اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية سينسحب من اتفاق وثيقة قرطاج إذا تم تمرير النسخة الحاليّة من مشروع القانون”، وأكدت بوشماوي “إذا ظل قانون المالية كما هو عليه الآن سنخرج من وثيقة قرطاج”، وأفادت أن قيادة المنظمة عقدت مجلسًا إداريًا مفتوحًا لمناقشة مشروع قانون المالية للعام القادم.
واستنكر مجلس اتحاد أرباب العمل في تونس، الجمعة الماضية، الإجراءات الضريبية الجديدة التي تضمنها مشروع قانون المالية لعام 2018، وقال مجلس المنظمة إن الضغوط الضريبية الكبيرة التي تضمنها القانون ستؤثر سلبًا على نشاط المؤسسة وعلى قدرتها التنافسية وعلى الاستثمار وإنشاء فرص عمل جديدة.
تهديد منظمة الأعراف، جاء على خلفية ما تضمنّه مشروع قانون المالية لسنة 2018
وجاء إعلان رئيسة منظمة رجال الأعمال وداد بوشماوي، قرار منظمتها مغادرة الوثيقة والإضراب العام، مفاجأة كبرى، إذ إنها المرة الأولى التي تصدر فيها المنظمة قرارات مماثلة، ورد عليها رئيس الحكومة يوسف الشاهد بالقول إن حكومته لا تعمل تحت التهديد، مع التأكيد على أهمية رجال الأعمال في اتفاق قرطاج.
فيما قال مستشاره الاقتصادي رضا السعيدي إن الحكومة تسعى من خلال مشروع قانون المالية الجديد لدفع التنمية والنمو الاقتصادي ووضع إجراءات لصالح المؤسسات الصغرى والمتوسطة، وأكد أن الهدف الأساسي من مشروع القانون “ليس تسليط ضغوط على رب العمل أو العامل”.
تهديد منظمة الأعراف، جاء على خلفية ما تضمنّه مشروع قانون المالية لسنة 2018، ووصفت بوشماوي مشروع القانون بأنه “لا يدفع للاستثمار”، واتهمت رئيسة منظمة الأعراف، الحكومة باتخاذ إجراءات قاسية في موازنة 2018، مطالبة بإعفاءات ضريبية لمدة 3 سنوات للمصدرين وتسهيلات للشركات، واعتبرت أن زيادة الأعباء الضريبية على المؤسسات الاقتصادية يفاقم حجم الاقتصاد غير الرسمي في تونس.
وداد بوشماوي في لقاء مع رئيس البرلمان محمد الناصر
وقالت المنظمة إن ما جاء في هذا المشروع يمس ديمومة المؤسسة الاقتصادية ويهدد استقرارها ووجودها، وأضافت إن “الدولة تريد السهل وهناك ضعف ونقص في الميزانية لذلك تذهب لحل سريع والحل السريع الذهاب للمؤسسة وزيادة الضرائب”، وترى منظمة الأعراف أن الإجراءات الجديدة التي أقرها مشروع قانون المالية الجديد من شأنها إثقال كاهل المؤسسات الخاصة من خلال فرض ضرائب جديدة على توريد السلع والمواد وعلى الفواتير.
وتمثّل وثيقة “اتفاق قرطاج” اتفاقًا على برنامج عمل حكومي أبرمته 9 أحزاب سياسية و3 منظمات وطنية بقصر قرطاج تحت إشراف رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي في يوليو/تموز 2016، ووقعت عليه كل من حركة نداء تونس وحركة النهضة وحزب المبادرة والاتحاد الوطني الحر وآفاق تونس وحزب المسار والحزب الجمهوري وحركة الشعب وحركة مشروع تونس.
كما وقعت على وثيقة قرطاج أيضًا ثلاث منظمات وطنية هي الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر منظمة نقابية في البلاد) والاتحاد التونسي للتجارة والصناعة والصناعات التقليدية (منظمة أرباب العمل)، بالإضافة إلى الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري (المزارعين).
انسحاب من الحكومة
الحديث عن قرب انتهاء صلاحية وثيقة قرطاج لم يكن سببه تهديد منظمة الأعراف بالانسحاب من هذه الوثيقة فقط، بل له أسباب أخرى، فقد تزامن هذا التهديد مع انسحاب أحد الأطراف الموقعة على هذه الوثيقة من الحكومة وسحب ثقته منها، محذرًا من وجود “ردة سياسية” تهدد الانتقال الديمقراطي في البلاد، وتأسست حكومة الوحدة الوطنية برئاسة يوسف الشاهد على قاعدة وثيقة قرطاج، في يوليو 2016، وشارك فيها ستة أحزاب: نداء تونس والنهضة وآفاق تونس والاتحاد الوطني الحر (انسحب) والمسار الديمقراطي الاجتماعي والحزب الجمهوري.
وبرّر الأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابّي انسحاب حزبه من حكومة الوحدة الوطنية التي يقودها يوسف الشاهد بـ”استحالة العمل داخلها”، واعتبر الشابي في ندوة صحفية أن الحزام السياسي للحكومة بات يشكل عبئًا ثقيلاً عليها نتيجة تعقد الوضع السياسي في البلاد وبروز علامات ردة سياسية تشكل خطرًا وتهدد الانتقال الديمقراطي في البلاد.
سبق أن أعلن حزبا “مشروع تونس” الذي يقوده محسن مرزوق و”الاتحاد الوطني الحر” بقيادة سليم الرياحي الانسحاب من هذه الوثيقة
ويربط بعض الخبراء، الخلاف الحاصل بين حزبي نداء تونس و”الجمهوري”، بالمصادقة على قانون المصالحة الذي يرفضه “الجمهوري” وبإبداء قيادات الحزب الأخير ارتياحها إثر سحب حافظ قائد السبسي ترشحه في الانتخابات البرلمانية الجزئية المخصصة لانتخاب ممثل للتونسيين المقيمين في ألمانيا في البرلمان التونسي، حيث أكد الجمهوري، أن تراجع السبسي عن الترشح مثّل انتصارًا ضد محاولات الرداءة والتوريث السياسي.
ولئن قرّر الحزب الجمهوري الانسحاب حاليًّا من الحكومة فقط، فيمكن أن يتبع هذا القرار قرار آخر بانسحابه من وثيقة قرطاج، خاصة أن أمينه العام قد شبّه هذه الوثيقة بـ”بيان السابع من نوفمبر” الذي أعلن فيه الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي استلامه الحكم خلفًا للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.
وجاء التصريح بعد أشهر من تصريح مماثل للوزير السابق عبيد البريكي حذّر خلاله من احتمال تحول وثيقة قرطاج إلى “بيان 7 نوفمبر جديد” في حال أخلّت حكومة يوسف الشاهد بما جاء في هذه الوثيقة، وسبق أن أعلن حزبا “مشروع تونس” الذي يقوده محسن مرزوق و”الاتحاد الوطني الحر” بقيادة سليم الرياحي الانسحاب من هذه الوثيقة.
خلافات بين مكوناتها
الخلافات بين مختلف مكونات الوثيقة اتسعت، ومؤخرًا شنّ رئيس حزب آفاق تونس (أحد أحزاب الائتلاف الحاكم وأحد الموقعين على وثيقة قرطاج) ياسين إبراهيم، هجومًا على حركة النهضة، مشككًا بشعار الفصل بين الجانبين السياسي والدعوي الذي اعتمدها في مؤتمرها الأخير، واعتبر إبراهيم خلال اجتماع لحزبه، أن التحالف القائم بين حزبي نداء تونس والنهضة غير مبني على الثقة، وأضاف “العائلة السياسية المدنية الحداثية لديها رؤية للمجتمع مخالفة للرؤية التي تدافع عن الإسلام السياسي”.
ودعا إلى هزيمة حركة النهضة في الانتخابات المقبلة، معتبرًا أن “جلب النهضة للمدنية” يمرّ عبر هزيمتها في الانتخابات وجعلها ضمن الأقلية المعارضة وبالتالي وضعها في اختبار عن مدى ابتعادها عن نهج العنف، وأضاف “ينبغي على النهضة أن تبرهن على نبذها للعنف من خلال وجودها في المعارضة لمدة خمس سنوات وحينها يمكن القول بأنّ الحركة تحوّلت فعليًا إلى حزب سياسي”.
تصدّع في حكومة يوسف الشاهد
وكان الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي أكد أن حزبه “اضطر” للتحالف مع حركة النهضة، قائلاً: “لم تكن أمامنا سيناريوهات أخرى … النهضة كانت جاهزة لذلك بما أتاح حينئذ فرصة تشكيل تحالف حكومي، هي قبلت وليس بشروطها، وقلنا على الأقلّ نسَهِمُ بذلك في جَلْبِهَا إلى خانة المدنية ولكن يبدو أنّنا أخطأنا التقويم”، وهو ما أثار جدلاً كبيرًا في البلاد، حيث اعتبرت بعض قيادات الحركة أنه نوع من المزايدة السياسية والانتخابية، ودعت بالمقابل رموز النظام السابق إلى إثبات التزامهم بالديمقراطية والتعددية السياسية.
واتفاق وثيقة قرطاج الذي وقعت عليه أحزاب ومنظمات لها وزن كبير في تونس السنة الماضية، كان قاعدة على أساسها تم تشكيل حكومة الوحدة الوطنية برئاسة يوسف الشاهد، وقامت المبادرة التي أطلقها الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، على مبدأ توسيع قاعدة التوافق السياسي والاجتماعي بشأن عدد من الأولويات، بغية تجاوز المأزق الذي عرفته البلاد مع نهاية الحكومة السابقة، بسبب حالة الاحتقان الاجتماعي نتيجة فشل الحكومة في إيجاد حلول للوضع الاقتصادي المتردي.