ترجمة وتحرير: نون بوست
وضعت التطورات الأخيرة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط تركيا في مهب تحديات ومشاكل جديدة. ومرة أخرى، أخذ الهجوم الصاروخي الذي استهدف الرياض في 4 من تشرين الثاني/ نوفمبر ومحاولات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الرامية إلى توجيه بلاده نحو “الإسلام المعتدل” فضلا عن مساعيه لتعزيز سلطته تحت مظلة استئصال الفساد، واستقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري المفاجئة في الرياض، تركيا على حين غرة.
في الحقيقة، يتمثل القاسم المشترك بين جميع هذه التطورات في العداء المتنامي بين إيران والمملكة العربية السعودية، اللتين تعتبران لاعبين إقليميين رئيسيين، وتختلف أنقرة معهما على مستويات عدة. ولكن، في الوقت الراهن، يجب أن تحافظ أنقرة على علاقات جيدة مع كلا الدولتين لتجنب المزيد من العزلة في الشرق الأوسط، نظرا لأنه لم يعد لديها العديد من الأصدقاء الحقيقيين في المنطقة.
في الوقت نفسه، ضاعف تعمّق مشاركة الولايات المتحدة وروسيا في الحرب في كل من العراق وسوريا على وجه الخصوص وتدخلهما في المنطقة بشكل عام من مخاوف الحكومة التركية. فعلى سبيل المثال، أثار التحالف بين واشنطن والرياض المناهض لإيران، الذي يحظى بدعم من قبل كل من مصر وإسرائيل، قلق أنقرة. وقد تجلت هذه المخاوف من خلال ما تنشره وسائل الإعلام الموالية للحكومة التركية.
من جهتها، قالت المعلقة السياسية في صحيفة ديلي صباح التركية، هلال كابلان إن “الهدف التالي الذي سيحوم حوله المحور المعادي لإيران، الذي يضم الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، سيكون قطر وتركيا”. ويستند تقييم هلال للوضع إلى وعيها التام بأن الدعم التركي غير المشروط لقطر قد أثار غضب المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى التي تريد أن تحيد الدوحة عن دعمها للإخوان المسلمين وتوقف كل المحاولات الرامية لإقامة علاقات طيبة مع إيران.
تكمن المشكلة الوحيدة في أن الدعوة إلى اتباع سياسة خارجية علمانية تعتبر بمثابة خط أحمر بالنسبة للقاعدة الشعبية لحزب العدالة والتنمية، الذي يفتخر الرئيس رجب طيب أردوغان بانتمائه الإسلامي
في سياق متصل، أشار السفير المتقاعد والمبعوث الخاص السابق للعراق الذي خدم أيضا في طهران، عثمان كوروتورك إلى التقلبات المتزايدة التي تعيش على وقعها المنطقة. وقد حث كوروتورك تركيا على تبني السياسات التقليدية التي كانت تتبعها في السابق في الشرق الأوسط من جديد. وفي حوار أجراه مع موقع المونيتور، أفاد عثمان كوروتورك أنه “يجب على تركيا أن تحرر نفسها من التشابكات الطائفية في المنطقة، في حين ينبغي عليها أن تعتمد على سياستها الخارجية العلمانية السابقة، التي من شأنها أن تُمكنها من التحاور مع جميع اللاعبين الإقليميين، بما في ذلك إسرائيل”.
وأضاف المصدر ذاته أنه “عقب ذلك يمكن لأنقرة أن تعرض مساعدتها البناءة التي تهدف للحد من التوتر بين إيران والمملكة العربية السعودية”. وتجدر الإشارة إلى أن كوروتورك ليس متأكدا ما إذا كانت محاولة تركيا ستؤتي أكلها، نظرا لأن قلة من الجهات في المنطقة تثق في دوافع أنقرة الحقيقية لاسيما في هذه المرحلة. في المقابل، يعتقد كوروتورك أن محاولة تركيا للحدّ من التوترات الإقليمية من خلال اتخاذ موقف محايد من شأنه أن يساعد على تحسين مكانتها.
في الأثناء، تكمن المشكلة الوحيدة في أن الدعوة إلى اتباع سياسة خارجية علمانية تعتبر بمثابة خط أحمر بالنسبة للقاعدة الشعبية لحزب العدالة والتنمية، الذي يفتخر الرئيس رجب طيب أردوغان بانتمائه الإسلامي. وفي شأن ذي صلة، صرّح المعلق الإسلامي توران كيسلاكسي، في حوار أجراه مع صحيفة “ستار” الموالية للحكومة أن “آخر التطورات التي شهدتها المملكة العربية السعودية شملت التوجه نحو الإسلام المعتدل. وبالتالي، من المرجح أن العالم الإسلامي بصدد معايشة فترة ثانية من العلمانية”.
تحيل تصريحات توران كيسلاكسي إلى الفترة الأولى من العلمانية خلال سنة 1923، عندما تم فرض العلمانية على تركيا على الرغم من أن غالبية سكانها من المسلمين. ومن هذا المنطلق يرى الإسلاميون أن حزب العدالة والتنمية كان يسعى إلى تصحيح ذلك الخطأ منذ وصوله إلى السلطة خلال سنة 2002. وعلى ضوء هذه الحساسيات الإسلامية، يعتقد كوروتورك أنه من المحتمل أن تندلع أزمة بين أنقرة والرياض إذا قرر ولي العهد السعودي الضغط بشدة على جماعة الإخوان المسلمين التي صنفتها السعودية جماعة إرهابية.
تسبب الوضع المتأزم بين السعودية وإيران في وضع أنقرة في مأزق دبلوماسي
من جانب آخر، تربط حزب العدالة والتنمية ومؤيديه علاقات جيدة مع جماعة الإخوان المسلمين. وقد صُدموا عندما دعمت المملكة العربية السعودية انقلاب تموز / يوليو سنة 2013، الذي أطاح بالرئيس محمد مرسي المنتخب ديمقراطيا وحكومته التي تتكون في معظمها من أعضاء ينتمون إلى الإخوان المسلمين. وحتى اللحظة الراهنة، لا تزال العلاقات التركية المصرية مجمدة، وذلك منذ الإطاحة بمرسي، في حين أن أنقرة ليست على استعداد لإصلاحها، نظرا لأن حزب العدالة والتنمية يشعر بالقلق إزاء تأثير ذلك على قاعدته الشعبية.
عموما، لا تعرف أنقرة حقيقة كيف ستؤثر التطورات التي تشهدها المملكة العربية السعودية والتوترات المتزايدة بين الرياض وطهران عليها. وفي الوقت الراهن، تراقب تركيا عن كثب تتابع الأحداث في المنطقة، متوخية الحذر، في حين ظلت تدعو إلى التحلي بالهدوء. عندما اندلعت الأزمة القطرية في وقت سابق من هذه السنة، التزمت أنقرة في البداية سياسة التروي، إلا أن الأمر لم يستغرق وقتا طويلا حتى يعلن أردوغان بقوة عن دعمه للدوحة، مما أثار انزعاج المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى.
على العموم، تسبب الوضع المتأزم بين السعودية وإيران في وضع أنقرة في مأزق دبلوماسي. بالإضافة إلى ذلك، لا يزال الوضع في سوريا محفوفا بالمخاطر بالنسبة لتركيا، خاصة بعد أن وجهت موسكو دعوة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني لحضور مؤتمر يضم جميع المجموعات العرقية السورية، الذي من المقرر أن يُعقد في 18 من تشرين الثاني/ نوفمبر، علما وأن أنقرة تُصنف حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني على اعتباره منظمة إرهابية.
حيال هذا الشأن، صرّح المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالين الذي وصف دعوة موسكو لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني بأنها “غير مقبولة”، خلال حوار أجراه مع قناة “أن تي في الإخبارية” الخاصة في 5 من تشرين الثاني/نوفمبر، أنه “تم تأجيل المؤتمر إلى موعد لاحق على خلفية الاحتجاجات التي أعربت عنها تركيا”. وأضاف المصدر ذاته أن “روسيا أبلغتنا أن الاجتماع تم تأجيله وأن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني لن يُدعى. في الحقيقة، ستمكننا هذه الطريقة من تقييم الوضع بشكل أفضل”.
في واقع الأمر، لم يثر بيان قالين أي ردّ فعل من قبل موسكو. وفي الأثناء، تدرك أنقرة أن روسيا لم تقتصر على التشديد، في وقت سابق، على ضرورة أن يكون حزب الاتحاد الديمقراطي جزءا من المحادثات السورية، ولكنها أيضا قامت بتحرير مسودة دستور سوري جديد تقترح من خلاله حصول الأكراد السوريين على الحكم الذاتي. وقد ظلت هذه القضية بمثابة عقبة في وجه العلاقات التركية الروسية. ومن المتوقع أن يناقش أردوغان هذه المسألة عندما يلتقى بالرئيس فلاديمير بوتين في منتجع سوتشي الروسي في 13 من تشرين الثاني/نوفمبر.
تعرض حزب العدالة والتنمية إلى صدمة كبيرة عندما اكتشف أنه ليس الجميع في الشرق الأوسط يؤيد تبني الحزب للإسلام السياسي، على غرار المملكة العربية السعودية
من جانبه، أفاد مدير البحث في منتدى الشرق، غالب دالاي أن “السياسات الأمريكية في سوريا ربما دفعت تركيا نحو روسيا وإيران، إلا أن أنقرة ينبغي أن تحذر من الاعتماد بشكل كبير على هذين البلدين اللذين يسعيان بشكل واضح إلى تنفيذ أجنداتهما الخاصة في سوريا”. وفي مقال لصحيفة “ديلي قرار”، المتعاطفة مع حزب العدالة والتنمية، كتب دالاي أن “مع كل يوم يمر، تُدين تركيا نفسها أكثر لهذه العلاقات التي تربطها مع كل من روسيا وإيران، فضلا عن أنها تفقد قدرتها على التصرف بمرونة”.
وأردف المصدر ذاته أن “الخطاب في تركيا حول مدى تطور العلاقات بين تركيا وإيران وروسيا لا يعكس حقيقة الوضع بشكل صحيح”. ومن منظور آخر، تحيل إفادة دالاي الأخيرة إلى المعضلة التي تواجه تركيا. فبينما تحاول الحكومة ومؤيدوها، من خلال وسائل الإعلام، تسليط الضوء على مدى نجاح سياسات أنقرة في المنطقة، تُناقض التطورات الجديدة وغير المتوقعة في المنطقة هذه المعطيات، مبينة حجم الصعوبات والتحديات التي تواجه البلاد.
من خلال التخلي عن سياستها التقليدية المتمثلة في عدم التدخل في نزاعات الشرق الأوسط وعدم التزام الحياد من أجل المساهمة في استقرار المنطقة، حدّت تركيا، في ظل عهد حزب العدالة والتنمية، كثيرا من الخيارات المتاحة أمامها في المنطقة. والجدير بالذكر أن التقديرات الأولية للحزب استندت إلى افتراضات خاطئة، حيث كان يظن أنه، ومع وجود حكومة إسلامية في سدة الحكم، ستتمكن تركيا من أن تصبح الأخ الأكبر في المنطقة، وذلك ما لم يحدث مطلقا.
في هذا الإطار، تعرض حزب العدالة والتنمية إلى صدمة كبيرة عندما اكتشف أنه ليس الجميع في الشرق الأوسط يؤيد تبني الحزب للإسلام السياسي، على غرار المملكة العربية السعودية. وفي خضم جولته، سينتقل أردوغان إلى الكويت بعد سوتشي. وفي الأثناء يأمل الكثيرون في أن يتمكن من معاينة ما يحدث في المنطقة عن قرب، ومعالجة المسائل التي تهم الشأن التركي فقط.
المصدر: المونيتور