فاجأ السيد سعد الحرير رئيس الحكومة اللبنانية، أنصاره ومعارضيه، 4 من نوفمبر/ تشرين ثاني، بإعلان استقالته، ليست هذه أولى مفاجآت الحريري الذي كان انتقاله لتأييده لانتخاب ميشيل عون رئيسًا للجمهورية قبل عام مفاجئًا أيضًا، وهو التأييد الذي بُني على صفقة محدودة وطارئة، قضت بتكليف الحريري، في المقابل، رئاسة الحكومة.
السبب خلف الطبيعة المفاجئة لبعض من أهم قرارات الحريري أنها في أغلب الأحيان لا تنبع من تطورات عادية وملموسة في الساحة السياسية، أو رغبة في تحقيق مكاسب تكتيكية في تدافع لا ينتهي على السلطة والنفوذ في البلاد، بل من ارتهان الزعيم اللبناني لمواقف حلفائه الإقليميين أو الدوليين، ولكن الحريري، على أي حال، لا يمثل استثناء لبنانيًا في هذا الشأن، فكل القوى السياسية اللبنانية رهينة حلفائها الخارجيين، مما يجعل استقرار الدولة والسلم الأهلي في لبنان حالة مشروطة على الدوام.
قبل يوم واحد فقط من إعلان الحريري استقالته، لم يكن هناك ما ينبئ بأنه في طريقه لاتخاذ مثل هذا القرار، كان الحريري قد استقبل في مكتبه مستشار المرشد الإيراني للشؤون الخارجية علي أكبر ولايتي، وقيل إن اللقاء كان وديًا أو عاديًا على أقل تقدير، ورغم صعوبة إدارة حكومة متعددة الأطراف في بلد متعدد الطوائف والمصالح والأهواء، التزم الحريري طوال ما يقارب العام من عمر رئاسته بالعمل على تحقيق توافق الحد الأدنى بين أطراف حكومته.
أصبح واضحًا أن الحرب في اليمن فشلت في تحقيق أهدافها الرئيسية، ورفضت كل من مصر وباكستان تقديم أي مساعدة ملموسة للحليف السعودي
القول بأن الحريري اكتشف محاولة لاغتياله قبل أيام، وهذا الاكتشاف هو الذي دفعه إلى مغادرة البلاد ومن ثم إعلان الاستقاله، لا يبدو منطقيًا، فإن كان عرف بمحاولة الاغتيال التي يبدو أن الزعيم اللبناني السني يوجه فيها أصابع الاتهام لحزب الله والإيرانيين، فلماذا إذًا استقبل ولايتي وأعلن عزمه الذهاب إلى مدينة شرم الشيخ المصرية للمشاركة في مؤتمر شبابي دولي؟ بدلًا، من ذلك، غادر الحريري فجأة إلى العاصمة السعودية، ومنها، وليس من مقر رئاسة الحكومة اللبنانية أو القصر الجمهوري، وجه خطابًا عاصفًا إلى الشعب اللبناني، أعلن خلاله الاستقالة.
الأرجح بالطبع أن الحريري استلم استدعاء من السعودية مساء يوم 3 من نوفمبر/تشرين الثاني، وأن حلفاءه السعوديين طلبوا منه الاستقالة، وهذا ما كان.
فما الذي تعنيه هذه الخطوة؟
يقع لبنان في مركز عدد متقاطع من الأزمات، ولكن الحريري لم يخف في كلمته القصيرة أن السبب الرئيسي خلف استقالته يتعلق بالنفوذ المتزايد لحزب الله في لبنان وسيطرته على القرار اللبناني من جهة، والسياسة الإيرانية التوسعية في الجوار العربي بما في ذلك في لبنان وسوريا من جهة أخرى.
بمعنى أن الحريري أراد من خطوة الاستقالة توجيه رسالة لأنصاره وخصومه، على السواء، بعزمه الانضواء في معسكر مواجهة إيران وحلفائها، بعد أن كان دعمه لانتخاب عون رئيسًا أوحى باستسلامه لإيران والإقرار بانتصار مشروعها التوسعي، ولكن الحريري لم يكن له اتخاذ مثل هكذا خطوة من دون التيقن من أن حلفاءه السعوديين قرروا بالفعل بدء المواجهة مع إيران في لبنان، وهنا يقع مربط الفرس.
قبل عام من الآن، لم تكن السعودية في أحسن أوضاعها، وهذا ما دفع الحريري لقبول صفقة تقاسم الحكم في لبنان مع ميشيل عون، فمن جهة، كان السعوديون فقدوا الأمل كلية في أن يلعب الأمريكيون، وإدارة أوباما في طور الأفول، دورًا أكثر فعالية في مواجهة التوسع الإيراني وتوفير دعم حقيقي للرياض، سواء في سوريا أو اليمن أو العراق.
ومن جهة أخرى، كان قد أصبح واضحًا أن الحرب في اليمن فشلت في تحقيق أهدافها الرئيسية، ورفضت كل من مصر وباكستان تقديم أي مساعدة ملموسة للحليف السعودي، اليوم، يبدو السعوديون أكثر اطمئنانًا للدور الأمريكي، لا سيما بعد أن بدأت واشنطن سلسلة من الإجراءات لتصنيف حزب الله منظمة إرهابية، وتوالت تصريحات الرئيس الأمريكي ضد الاتفاق النووي الإيراني وصوت الكونغرس على جملة من العقوبات ضد إيران.
إضافة إلى ذلك، ورغم الإنكار السعودي، فثمة ما يشير إلى أن هناك توافقًا سعوديًا ـ إسرائيليًا على مواجهة إيران وحلفائها في الجوار، خلال الشهور القليلة الماضية، تحرك السعوديون، بتحريض أمريكي، بالتأكيد، نحو بناء علاقات أفضل مع العراق، على أساس أن حيدر العبادي يمكن أن يتحول إلى زعيم وطني، يعمل على دفع النفوذ الإيراني في العراق إلى الخلف.
كما أرسلت الرياض إشارات موازية لموسكو ودمشق، توحي بإمكانية تبني سياسة مختلفة تجاه نظام الأسد، في حال أخرجت إيران والمليشيات الشيعية التابعة لها من سوريا، في كلا الحاليتن، تبدو الأمنيات وكأنها حلت محل التقديرات الواقعية للوضعين العراقي والسوري.
تبنت الإمارات سياسة تخدم مصالحها الخاصة في اليمن، وطوال الأزمة السورية، ورغم التأييد الظاهر للسعودية، كان لها حسابات مختلفة لعلاقاتها مع إيران
بيد أن هذا كله لا يعني أن ما فشلت فيه السعودية في اليمن يمكن أن يأتي بنتائج أفضل في لبنان، لنجاح السعودية في مواجهة نفوذ إيران وحزب الله الهائل في لبنان، لا بد من توافر جملة من الشروط، يصعب تصور نجاح المغامرة السعودية الجديدة في لبنان بدونها.
هل سيشهد لبنان، مثلًا، اصطفافًا سياسيًا مختلفًا عن الاصطفاف الراهن، وتنحاز القوى المارونية إلى أغلبية الدروز والسنة، لمعسكر السعودية؟ تصريحات الرئيس السابق ميشال سليمان الذي لا يتمتع بأي قاعدة قوة حقيقية، المؤيدة للحريري، لا تكفي لإعادة رسم ميزان القوى اللبناني، وهل ستتخذ الأغلبية العربية، لا سيما دول الخليج ومصر، موقفًا مؤيدًا للسعودية؟
تبنت الإمارات سياسة تخدم مصالحها الخاصة في اليمن، وطوال الأزمة السورية ورغم التأييد الظاهر للسعودية، كان لها حسابات مختلفة لعلاقاتها مع إيران، وفي حين رفض السيسي المشاركة في حرب اليمن، بذل كل جهد ممكن للحفاظ على نظام الأسد، وأبقى خطوطه مع الإيرانيين مفتوحة.
في النهاية، يتعلق السؤال الأهم بمدى جدية السعودية الذهاب إلى خيار حرب طويلة ومنهكة في لبنان والاستعداد لتحمل أعباء هكذا حرب على المستويين المادي والبشري، منذ منتصف الثمانينيات، استثمرت إيران عشرات المليارات في دعم حزب الله وبناء قاعدته الشعبية ومقدراته العسكرية، على السواء.
وعندما تطلب الأمر، لم تتردد إيران في تقديم مئات الضحايا، ولا الحزب في تقديم الآلاف، من أجل الحفاظ على المواقع المكتسبة في لبنان وسوريا، وأحد لا يجب أن يتوهم أن بالإمكان إطاحة إيران والحزب من دون حرب وتكاليف مكافئة.
قد تكون استقالة الحريري، بالفعل، مقدمة لإشعال معركة سعودية أخرى مع إيران ونفوذها العربي
مهما كان تأييد إدارة ترامب للسعودية، لن يخوض الأمريكيون حربًا في لبنان، وليس لديهم أي نوايا لمواجهة مباشرة مع إيران، أقصى ما قد تذهب واشنطن إليه هو تأييد خصوم إيران، إن قرروا مواجهتها حربًا.
أما إن كانت القيادة السعودية الحالية تراهن على الدولة العبرية، فالمؤكد أن الرأي العام العربي والسني المسلم، على وجه الخصوص، ومهما كانت معارضته للمشروع التوسعي الإيراني، لن يؤيد حربًا إسرائيلية ضد لبنان، حتى إن قيل إن الحزب هدفها، تؤدي إلى إسقاط مئات، وربما آلاف الضحايا وتدمير المدن والمقدرات اللبنانية، كما أن حربًا إسرائيلية لن تنجح في إسقاط الحزب، ولا في إنهاء دوره ونفوذه.
بكلمة أخرى، قد تكون استقالة الحريري، بالفعل، مقدمة لإشعال معركة سعودية أخرى مع إيران ونفوذها العربي، ولكن الواضح حتى الآن أن هذه معركة لم تحسب عواقبها كما ينبغي.