حمل القلم للدفاع عن قضية عربية مركزية قدمها من خلال شعره بصورة لافتة، لكن ذلك لم يكن كافيًا بالنسبة إليه، فانخرط في صفوف الثورة الفلسطينية بعد انتقالها إلى بيروت، وتطوّع في صفوف المقاومة العسكرية.
الشاعر عز الدين المناصرة، رحل قبل سنتَين عن عمر ناهز 75 عامًا، دون أن يكفّ خلالها عن النضال والإبداع الأدبي، فترك إرثًا ثقافيًا ووطنيًا هائلًا تتناقله الأجيال من بعده لإحياء الذاكرة الفلسطينية وهويتها.
عز الدين المناصرة
وُلد محمد عز الدين المناصرة يوم 11 أبريل/ نيسان 1946، في بلدة بني نعيم الفلسطينية إلى جهة الشرق من الخليل، وكان والده الشيخ عز الدين عبد القادر، أحد وجهاء منطقة الخليل ومحكّم عشائري، أما جدّه فكان شاعرًا شعبيًّا في جبل الخليل.
درس المناصرة المرحلة الابتدائية في قريته بني نعيم، بعدها التحق بثانوية الحسين بن علي في مدينة الخليل، في الأثناء برزت لديه مَلَكة الشعر التي تقوّت مع تقدُّم معارفه اللغوية والثقافية، فنظم الشعر ونشر المقالات في المجلات الأدبية الرائجة في تلك الفترة.
في أكتوبر/ تشرين الأول 1964 التحق المناصرة بجامعة القاهرة، وبعدها بـ 4 سنوات حصل على شهادة “الليسانس” في اللغة العربية والعلوم الإسلامية، وفي مصر عمل مراسلًا لعديد الصحف الفلسطينية والعربية، مثل “الأفق الجديد” و”فلسطين” و”الهدف” و”مواقف”، وعُرف في مصر باسم “عز الدين” عوضًا عن اسمه “محمد”، وحمل هذا الاسم منذ تلك الفترة.
لم يستقر المقام بالمناصرة في بلد واحد، إذ غادر أولًا وطنه فلسطين إلى مصر ثم الأردن، ليتوجّه بعدها نحو بيروت فبلغاريا، ليعود مجددًا إلى لبنان ويحطّ الرحال بعدها في الجزائر، وفي الأخير عاد إلى الأردن دون أن يتمكن من رؤية موطنه.
عاصر ابن الخليل العديد من الأحداث المهمة التي انعكست في شعره، حتى خصَّ أغلب وقته لإنتاج قصائد تتغنّى بالوطن وتعمّق الهوية الفلسطينية ودافع عن حق فلسطيني تاريخي لا مهادنة فيه، فليس للفلسطينيين سوى هويتهم كما يقول.
سنة 1966، كتب المناصرة قصيدة عنوانها “عنب الخليل”، وجّهها إلى بلدة الخليل المعروفة بتاريخها الكفاحي وأبطالها المقاومين، وهو الذي وُلد في قرية قريبة منها: بني نعيم، وجاء في القصيدة: سمعتُكِ عبر ليل النَزْف أغنيةً خليليَّةْ، يردّدها الصغارُ وأنتِ مُرخاةُ الضفائِر، أنتِ داميةُ الجبينْ، وَمَرْمَرَنا الزمان المرُّ يا حبّي، يعزّ عليَّ أن ألقاكِ… مَسْبِيَّهْ، سمعتك عَبْر ليل الصيف أغنيةً خليليّة، خليلي أنتَ: يا عنب الخليل الحرّ… لا تثمر، وإنْ أثمرتَ، كُن سُمًّا على الأعداء، لا تثمر”
يقول المناصرة: “نعيش كفلسطينيين بالذاكرة ومعها، إن سقطت تساقطنا معًا”، لذلك رجع إلى الوراء كثيرًا وبحث في الهوية الفلسطينية وتاريخها، وخلص إلى أن الجذور الكنعانية تشكّل عنصرًا أساسيًّا في الهوية الفلسطينية، واعتبر “كنعان” هو الاسم الأول لفلسطين، وأن الفلسطينيين هم قبائل كنعانية، دون أن ينفي الجذور الإسلامية في فلسطين.
جعل شاعرنا من وطنه المكلوم مرجعًا لقصيدته المتجددة التي صارت على كل لسان، فسطّر حروفه وكلماته في وجدان كل فلسطيني وعربي، وغنّاه العديد من الفنانين على غرار مارسيل خليفة، واشتهرت خاصة قصيدته “بالأخضر كفناه” التي أبدعها في بيروت رثاءً لأحد المقاومين الأبطال، فضلًا عن “زرقاء اليمامة” التي كانت نبوءة لهزيمة سنة 1967، و”حصار قرطاج” التي تحدثت عن حصار بيروت.
المقاومة المسلحة
خلال التحاقه بالقاهرة للدارسة، اقترب المناصرة من حركتَي فتح والقوميين العرب، ولاحقًا اقترب بشكل أكبر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إلا أنه لم ينضم إلا إلى منظمة التحرير الفلسطينية التي تأسّست سنة 1964 بعد انعقاد المؤتمر العربي الفلسطيني الأول في القدس، لتمثيل الفلسطينيين في المحافل الدولية.
بدأت تتكون شخصية المناصرة السياسية في القاهرة، وكان في برنامجه أن يعود إلى وطنه حال حصوله على شهادته الجامعية، إلا أن نكسة يونيو/ حزيران 1967، وما نتج عنها من تطورات على الأرض، حالت دون رجوعه إلى بني نعيم.
نتيجة النكسة (خسارة الضفة الغربية وقطاع غزة واحتلال هضبة الجولان وسيناء)، تقطعت السبل بالمناصرة ليبقى خارج وطنه حتى رحيله، وتيقّن شاعرنا أن الكلمات لوحدها غير كافية لتحرير وطنه، فقرّر الانضمام إلى الكفاح المسلح.
عقب النكسة توسّعت نواة المقاومة الفلسطينية الشعبية المسلحة، وبعثت المقاومة بعض الفروع في دول عربية مختلفة منها مصر، فوجد المناصرة ضالته هناك، والتحق دون تردد بالتدريب العسكري تحت إشراف جيش التحرير الفلسطيني في مصر.
بداية العمل المسلح للمناصرة كانت من بوابة الدورة العسكرية في جامعة القاهرة، صيف سنة 1967، حيث تمّ تكليف جيش التحرير الفلسطيني بمهمة تدريب الطلبة الفلسطينيين على استخدام السلاح، لكن المناصرة لم يشترك بأي عمل مسلح انطلاقًا من الأراضي المصرية.
لم يستقر المناصرة في مصر طويلًا، إذ انتقل إلى الأردن سنة 1970، وهناك رجع به الحنين مجددًا إلى القلم والشعر والكتابة، فعمل مديرًا للبرامج الثقافية في الإذاعة الأردنية، وأسّس في الفترة نفسها رابطة الكتّاب الأردنيين مع ثلة من المفكرين والكتّاب الأردنيين.
شاءت الأقدار أن يعايش شاعر فلسطين أحداث أيلول الأسود الدامية، وهو الصراع الذي نشب في الأردن بين النظام الأردني والمنظمات الفلسطينية فترة 16-27 سبتمبر/ أيلول 1970 مع استمرار بعض الأعمال حتى 17 يوليو/ تموز 1971، لكن المناصرة فضّل عدم المشاركة فيه، ومع ذلك تعرض إلى المضايقة من قبل الجهات الأمنية الأردنية عقب انتهاء هذه الأحداث، ما اضطره للرحيل إلى بيروت بداية سنة 1974.
بعدها بسنة تقريبًا، شهد لبنان حربًا أهلية استغلها الاحتلال الإسرائيلي للتوغُّل في الأراضي اللبنانية ومحاولة احتلال جزء منها، فتطوّع المناصرة للقتال في جنوب لبنان بعد تلقيه دورة عسكرية جديدة في بيروت (دورة الكرامة).
شارك المناصرة في عديد المعارك ضدّ جيش الاحتلال الصهيوني، وأبرزها معركة كفرشوبا في يناير/ كانون الثاني 1976، وفي تلك المعركة دخلت القوات الإسرائيلية إلى أعالي كفرشوبا، لكن الفدائيين الفلسطينيين استطاعوا طردهم بعد معركة طاحنة.
أبدى المناصرة مهارة قتالية كبيرة في هذه المعركة، فتمَّ انتخابه عضوًا في قيادة جبهة جنوب بيروت (منطقة الشياح- عين الرمانة) ضمن صفوف القوات الفلسطينية اللبنانية المشتركة، ومُنح مسؤولية قيادة عدة محاور عسكرية في منطقة جنوب بيروت.
في يونيو/ حزيران 1976، قام الشاعر الفلسطيني بقيادة معركة المطاحن، بهدف تخفيف الحصار عن مخيم تل الزعتر الذي تقوده الميليشيات اليمينية المسيحية اللبنانية والجيش السوري، لكن فشلت المحاولة وانتهى الحصار باحتلال المخيم ومقتل 4 آلاف و280 من الفلسطينيين، أغلبيتهم من النساء والأطفال وكبار السن، وآلاف الجرحى وقصص مرعبة لعمليات الذبح الجماعية للاجئين.
بعد أن خفّت حدّة الحرب الأهلية اللبنانية، عاد المناصرة إلى العمل الإعلامي التوعوي لكن ذلك لم يدم طويلًا، ففي يونيو/ حزيران 1982 غزا الكيان الإسرائيلي لبنان على إثر محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن شلومو آرغوف، تبنّتها منظمة أبو نضال (مجموعة منشقة عن حركة فتح).
هاجم الجيش الإسرائيلي القواعد العسكرية الفلسطينية ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وفرض حصارًا على بيروت التي يتواجد فيها الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وشارك المناصرة في معركة المتحف في أغسطس/ آب، على الخط الفاصل بين بيروت الشرقية والغربية.
وكانت هذه المعركة واحدة من أشرس المعارك التي خاضتها قوات فلسطينية مع قوات إسرائيلية عبر تاريخها المعاصر، وتحديدًا بين الكتيبة “412 مشاة مغاوير/ صاعقة” التابعة لقوات حطين من جيش التحرير الفلسطيني، ووحدات من قوات النخبة ولواء جولاني الإسرائيلي.
“قدمي اليُسرى أصابتها شظيةٌ في الحرب
يدي اليسرى تزحلقت على ثلج الصابون
عيني اليُسرى أزعجها لصوص القبيلة
أمَّا قلبي المجروح الذي يكسدر في العزلة
فتلك عوامل التعرية يا جفر”.
بعدها بشهر تقريبًا، اضطر المناصرة الخروج من لبنان في إطار صفقة عبر وساطة أمريكية-عربية، لخروج منظمة التحرير والمقاومين الفلسطينيين من لبنان، مقابل إيقاف القصف الإسرائيلي والحفاظ على سلامة المخيمات، وكانت الوجهة هذه المرة تونس ثم الجزائر، قبل أن يعود مجددًا إلى عمّان مدرّسًا للنقد في إحدى المؤسسات الأكاديمية.
مناهضة السلطة الفلسطينية
عمل المناصرة خلال وجوده في مصر والأردن ولبنان في صفّ منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة الزعيم ياسر عرفات، لكنه لم يكن يومًا قريبًا من “القيادة”، فقد كان أغلب وقته معارضًا لها، وتدعّم موقفه عقب الخروج من بيروت صيف 1982.
عُرف عن المناصرة مواقفه المناهضة للسلطة الوطنية الفلسطينية ونهجها السياسي، وكان من أشد المعارضين لاتفاقية أوسلو سنة 1993، التي تعدّ أول اتفاق رسمي بين الكيان الإسرائيلي ومنظمة التحرير الفلسطينية، وينص الاتفاق على “إنهاء عقود من المواجهة والنزاع”، وضم عدّة بنود تتعلق بهيكلية السلطة الفلسطينية وتكوينها، وإقامة سلطة حكم ذاتي انتقالية فلسطينية.
انتقد المناصرة ياسر عرفات والسلطة الفلسطينية، واعتبر أنهما ارتكبا خطأ جسيمًا بتوقيع الاتفاقية التي تعترف بالكيان الإسرائيلي، مؤكدًا أنه لن يعترف بشرعية كيان الاحتلال حتى يموت، وإن اعترف بشرعيته العالم العربي أجمع.
ظل “شاعر الجفرا” معارضًا لمواقف السلطة الفلسطينية السياسية أغلب سنوات حياته، فـ”المثقفون الكبار يصارعون السلطة”، ما جعله ينزف دمًا ويصبح عاطلًا عن العمل في مرات كثيرة، ما اضطره إلى تخفيض المستوى المادي لحياة عائلته الصغيرة، وفق قوله.
في معارضته السلطة حفظٌ لكرامته وصونٌ لها، فالسلطة ارتكبت أخطاء وما زالت ترتكب، على حدّ تعبيره، ورغم محاولاتها التقرب منه وجلبه إلى صفّها بشتى أنواع الإغراء خدمةً لها، إلا أنه أبى ذلك وبقيَ على موقفه إلى أن وافته المنية.
اختار عز الدين المناصرة أن يكون في صفّ المثقفين الكبار رغم قوة العواصف المحيطة به، فلا مكان عنده للمهادنة والتخلي عن المبادئ التي تربّى عليها، إيمانه الوحيد زوال الاحتلال عن طريق المقاومة المسلحة، وهو ما جعله محل إكبار عند الشعوب العربية قاطبة.
جفرا الشهيدة
تعلق المناصرة بالتراث الفلسطيني ظهر من خلال اهتمامه بالجفرا التي اختزلت معاني الوطن واللجوء والحب والألم في راحتها، وقصة الـ”جفرا” هي حكاية من عشرات الحكايات التي صنعت وبلورت التراث الفلسطيني وتركت بصمتها في الحياة الثقافية الفلسطينية.
تعود علاقة المناصرة بالجفرا والأغنية الشعبية وفق ما جاء عنه في كتابه “الجفرا والمحاورات” إلى سنوات الطفولة في قريته في فلسطين حيث كان يسمع هذا النوع من الأغاني في الخمسينات خلال الأعراس القروية أو حفلات السّمر، وظلت هذه الأغنية ترنّ في أذنه إلى أن كتب قصيدته “جفرا” من نوع الشعر الحديث الفصيح عام 1975.
رغم أن العديد من الشعراء تغنوا بالجفرا، لكنها لم تعرف الشهرة إلا لما تغنى بها المناصرة، إذ تحولت إلى رمز عربي وعالمي عقب نشر قصيدته “جفرا الوطن المسبي” عام 1976 في الصحف اللبنانية، وهي قصيدة تحكي مأساة الشاعر مع حبيبته التي استشهدت بنيران طائرة إسرائيلية في غارة على بيروت.
يقول المناصرة في رثاء حبيبته: “أرسلتْ لي داليةً وحجارة كريمة، مَنْ لم يعرفْ جفرا فليدفن رأْسَهْ، من لم يعشق جفرا فليشنق نَفْسَهْ، فليشرب كأس السُمِّ العاري يذوي يهوي ويموتْ، جفرا جاءت لزيارة بيروت، هل قتلوا جفرا عند الحاجز، هل صلبوها في تابوت؟”.
ربما يرثي المناصرة في هذه القصيدة حبيبته، لكنه في الحقيقة يرثي وطنه، فالجفرا ترمز إلى فلسطين في عنفوانها وتجذرها في التاريخ، وبفضل المناصرة أضحت جفرا أغنية ورمزًا وشعارًا وأيقونة، تتجسد بها إنسانية الإنسان وطموحاته وأحلامه، إذ تم ترجمة كلمات المناصرة لعديد اللغات العالمية وتغنى بها كبار الفنانين في العالم ونشأت مؤسسات إعلامية وفرق شعبية، ومحلات تجارية، تحت اسم “جفرا”.