منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 عادت القضية الفلسطينية لتتربع على أجندة العالم والاهتمام الدولي بعد أن غُيّبت في السنوات الأخيرة، لتصبح هامشية للغاية أو قضية ذات طابع موسمي حتى في نشرات الأخبار العربية والدولية.
وشكلت عملية “طوفان الأقصى” التي بدأت بها المقاومة الفلسطينية ردًا على الجرائم الإسرائيلية في الضفة والقدس المحتلين والاعتداء على النساء في الأقصى وما يجري في السجون والحصار الإسرائيلي على غزة، نقطة تحول في شكل الصراع.
ويوم الأرض هو يوم يُحييه الفلسطينيون في 30 مارس/آذار من كل سنة، وتعود أحداثه لمارس/آذار 1976 بعد أن صادرت السلطات الإسرائيلية آلاف الدونمات من الأراضي ذات الملكية الخاصة أو المشاع في نطاق حدود مناطق ذات أغلبية سكانية فلسطينية، ما أدى إلى إضراب عام ومسيرات من الجليل إلى النقب، واندلعت مواجهات أسفرت عن سقوط 6 فلسطينيين وإصابة واعتقال المئات.
ويعد يوم الأرض حدثًا محوريًا في الصراع على الأرض وفي علاقة المواطنين العرب بالجسم السياسي الصهيوني، فهذه هي المرة الأولى التي يُنظم فيها العرب في فلسطين منذ عام 1948 احتجاجات منظمة، ردًا على السياسات الصهيونية بصفة جماعية وطنية فلسطينية.
ومنذ بداية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عام 1948، كانت الأرض جوهر الصراع مع الحركة الصهيونية، مرورًا بالحكومات والسلطات الإسرائيلية المتعاقبة التي عمدت إلى محاولة السيطرة على الأراضي، بالقوانين تارةً وبالسيطرة العسكرية تارةً أخرى.
واستخدم الاحتلال كل طريقة ممكنة في سبيل الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين، فدشن قانون أملاك الغائبين عام 1953، الذي بموجبه حولت “إسرائيل” إلى حوزتها بشكل رسمي وقانوني جميع أملاك اللاجئين الفلسطينيين الذين هُجّروا إلى الدول العربية المجاورة، وثانيهما قانون استملاك الأراضي عام 1953 (قانون الحرام)، بموجبه صودرت غالبية أراضي القرى المهجرة من ملاكها الفلسطينيين بما فيهم المهجرين الداخليين.
وذهب الاحتلال إلى أبعد من ذلك في إطار تصفية قضية اللاجئين والاستيلاء على أراضي الفلسطينيين المهجرين، حيث شرعت ما يسمى “دائرة أراضي إسرائيل” عام 2007 بنشر مناقصات لبيع أملاك اللاجئين في المدن، واُستتبع ذلك في شهر أغسطس/آب 2009 بسن الكنيست الإسرائيلي قانون الإصلاحات في “دائرة أراضي إسرائيل”.
التهجير.. من صفقة القرن إلى بايدن
تشير بيانات جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني أنه وحتى عام 2023، بلغ عدد الفلسطينيين الموجودين في أراضي ما يُعرف اليوم بـ”دولة فلسطين”، أي في الضفة الغربية وغزة، 5.48 مليون شخص، وهو ما يُشكِل قرابة 38% من نسبة الفلسطينيين الذين بلغ عددهم 14.5 مليون شخص حول العالم.
وتعكس هذه الأرقام أن 62% من الفلسطينيين يعيشون خارج أراضيهم، وهو وضع يعود بشكل أساسي إلى الحدثين الأساسيين في تاريخ القضية الفلسطينية اللذين رسما الواقع على الأرض اليوم: حرب عام 1948 (النكبة) وما تبعها من حملات تهجير قسري حتى عام 1949، وحرب 5 يونيو/حزيران 1967 (النكسة).
واعتمدت العصابات الصهيونية في عملية تهجيرها للفلسطينيين في عام 1948 بشكل أساسي على مجموعة من المجازر التي ارتكبتها بحق بعض القرى الفلسطينية، وحاولت من خلالها أن ترهب الفلسطينيين وتدفعهم إلى مغادرة أراضيهم، وهي حالة ساهمت فيها المذبحة بالتوازي مع البروباغندا التي ترافقت معها، وتُعَدُ مذبحة دير ياسين النموذج الأساسي في هذا السياق، التي تعتبرها العديد من الدراسات حدثًا مفصليًا في تهجير الفلسطينيين عام 1948، واستمر الاحتلال بتهجير الفلسطينيين بوضوح حتى منتصف الخمسينيات من القرن الماضي.
واتجه الفلسطينيون المُهجَرون في أكثر من اتجاه، ابتداءً من الضفة وغزة وصولًا إلى الأردن ولبنان وسوريا ومصر والعراق، وهي المناطق التي تلقت العدد الأكبر من اللجوء الفلسطيني، إلى جانب مجموعات عديدة لجأت إلى مختلف دول العالم، على سبيل المثال، يضم الأردن اليوم أكثر من 4 ملايين فلسطيني مُجنَس ولاجئ، فيما تضم جزر الكاريبي البعيدة بضعة آلاف من الفلسطينيين.
غير أن الهجرات الفلسطينية بدأت – وفقًا للعديد من المصادر – قبل عام 1948 نتيجة الضغوط التي مارسها الانتداب البريطاني والعصابات اليهودية على الفلسطينيين، ومع ذلك، فإن تهجير الكتلة الكبيرة عام النكبة، التي بلغت قرابة 700 ألف فلسطيني، كان النقلة النوعية في مشروع الإحلال، التي أظهرت طبيعة العقلية الاستعمارية التي تمتلكها هذه العصابات.
كما أن التهجير استمر بين حرب عام 1948 وحرب عام 1967، وقد شكَلت تلك الأخيرة المحطة الأساسية الثانية في هجرة الفلسطينيين، التي سُمِي معظم مهاجريها بـ”النازحين”، وتوجه معظمهم إلى الأردن، وتُقدَر أعدادهم بأكثر من ربع مليون، كما توجَه جزء منهم إلى مصر، وكان جزء كبير منهم من المهجرين عام 1948.
وعاد التهجير للواجهة من جديد من خلال ما عرف بصفقة القرن عام 2017 التي أطلقها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب والمرشح لسباق الرئاسة الحالي لعام 2024، والتي كانت ترتكز على الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية للاحتلال الإسرائيلي وسلب الفلسطينيين حقوقهم، ودولة مقطعة الأوصال بالنسبة للفلسطينيين.
هذه الصفقة التي لم يقبلها أي فلسطيني سواء السلطة الفلسطينية التي انخرطت في تفاهمات اقتصادية أم المقاومة الفلسطينية التي دشنت حراكًا شعبيًا وخاضت مواجهات عدة منذ عام 2017 حتى العام الجاري.
وكان لهذه الصفقة عامل إضافي في ظهور ما عرف بمسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار عام 2018، والتي بدأت بالظهور على حدود غزة الشرقية التي تفصلها عن الأراضي المحتلة عام 1948، حيث شكلت هذه المسيرات حدثًا نوعيًا ومغايرًا عن الصورة النمطية المعتادة عن القطاع المتمثل في العمل المسلح والعسكري.
وعند المقارنة بين خطة ترامب المسماة “صفقة القرن” وخطة الرئيس الأمريكي الحاليّ جو بايدن، التي قامت بالأساس على دمج السعودية والاحتلال في مشروع أمريكي واحد، يتضح أنه لا فرق بين الخطة السابقة والحالية.
الاختلاف بين الخطتين يظهر في أن خطة ترامب تتفوق بالحضور الفلسطيني على ما تتضمنه صفقة الثاني التي تسقط الكلام عن الدولة الفلسطينية، وتكتفي فقط بتحسين شروط حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال، كما أنها في الجانب الاقتصادي لا تبعد كثيرًا عن المعروض من دونالد ترامب، بل إن التركيز الأكبر في مشروع جو بايدن هو العلاقة بين الرياض وتل أبيب، بينما تتحول القضية الفلسطينية إلى موضوع جانبي على الهامش، إذ لا يأتي على ذكرها إلا من باب حفظ ماء الوجه للجانب السعودي الذي كان التطبيع معه حلمًا صهيونيًا كبيرًا.
انعكاسات حرب غزة.. هل أجهضت المقاومة التهجير؟
تقف الحرب في قطاع غزة على مفترق طرق، فإما الوصول لاتفاق جزئي حاليًا يمكن أن يُشكل حلقة ضمن حلقات متتالية وصولًا لوقف كامل لإطلاق النار بالقطاع، وإما دخول الحرب في دوامة الدوائر المفرغة التي ستفضي إلى استنزاف لا محدود للشعب الفلسطيني ومقاومته، وللاحتلال الذي يخوض حربًا دون أهداف يمكن قياسها.
ما يجري في أروقة المفاوضات من كون النقطة الخلافية العالقة هي نقطة عودة أهالي شمال قطاع غزة النازحين إلى أماكن سكنهم، يؤكد أن الاحتلال لم يتراجع حتى الآن عن طموحاته في تغيير الواقع الجغرافي والديمغرافي في القطاع، والاستمرار بمحو كل مقومات الحياة وتصعيد العدوان لدفع أهالي القطاع لمغادرته سواء قسريًا أم طوعيًا.
وهو ما يعني أن سياسات التجويع والتدمير الممنهج لكل المؤسسات والمستشفيات والجامعات والمؤسسات الاقتصادية، تهدف إلى إنهاء الوجود الفلسطيني شمال القطاع بشكل كامل، ونجاح نموذج الشمال سيفتح شهية الاحتلال لاستكمال جريمته في جنوب القطاع، ضمن عملية إبادة وتطهير عرقي واسعة.
اللحظة الحاليّة إذن، هي لحظة فارقة في عمر المعركة وتجلياتها وارتدادتها، ورغم الصمود الأسطوري الحاليّ للقطاع ومقاومته، فإن استمرار القتال بدوامة الاستنزاف الحالية لا يبشر بنتائج إيجابية لصالح الشعب الفلسطيني، ما لم يحدث تحرك فعلي ومؤثر من الساحات الأخرى وبشكل خاص دول الطوق، انطلاقًا من الحراك الجماهيري الإسنادي المؤثر.
وبمزيد من الواقعية فإن المقاومة الفلسطينية والصمود الشعبي الفلسطيني نجح حتى الآن في إجهاض التهجير وتحويله من تهجير خارجي والسعي لنفي الفلسطينيين إلى سيناء لجعله داخليًا وسط تشبث كامل بالأرض ومنع الخروج من أرضهم.
السيناريوهات المتوقعة للقضية
لا شك أن الحرب الحاليّة في قطاع غزة، وما بعد طوفان غزة لا يمكن إلا اعتباره حدثًا مؤسسًا يُبنى عليه في مآلات ومسارات القضية الفلسطينية، خصوصًا أن هذا القتال الدائر حاليًا هو بمثابة انفجار لحالة المراوحة التي تشهدها القضية الفلسطينية منذ سنوات، مراوحة شملت أبعادًا متعددة، فالشأن الفلسطيني الداخلي ما زال أسيرًا لحالة الانقسام وسط انسداد كامل للأفق السياسي واحتكار مؤسسة الشرعية الفلسطينية، واستمرار الحصار في قطاع غزة ومحاولة حصر المقاومة بتحديد سقف أهدافها بالمطالب الحياتية لسكان القطاع.
وبالمقابل ينحو المشهد الإسرائيلي نحو المزيد من اليمينية التي تكللت بالحكومة الفاشية الحاليّة التي تحمل في طياتها مخططات حسم الصراع واستعادة خطاب الترانسفير وتهجير الشعب الفلسطيني وبسط السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية وحسم الصراع في القدس، وهو ما وضع كل المشهد أمام الانفجار الحالي الذي سترسم نتائجه ملامح المرحلة القادمة، لذلك فإن نجاح المقاومة في الخروج من حرب الإبادة الحالية صامدة، سيفرض معادلة جديدة على المستوى الوطني والإقليمي تتضمن إعادة صياغة المشهد الفلسطيني الداخلي والإقرار الإقليمي والدولي بعدم وجود إمكانية لاقتلاع المقاومة أو تجاوزها، أو تجاوز أهمية استئناف مسار سياسي حقيقي يعطي للشعب الفلسطيني حقوقه.
فيما سيُمثل نجاح المقاومة في إنجاز صفقة تبادل تلبي السقف الذي عبرت عنه في أكثر من محفل، عاملًا مهمًا في إطار إعادة تشكيل النظام السياسي الفلسطيني، فخروج قادة الحركة الأسيرة سينعكس على شكل الهرم القيادي الفلسطيني وطبيعة معادلة الشرعيات في المشهد الفلسطيني الداخلي الذي يرتكز إلى نوعين من الشرعية: الأول انتخابي وهو غير موجود، والثاني شرعية وطنية وهي تتجلى في أبرز أشكالها في قيادة الحركة الأسيرة، وهو ما يعني إعادة صياغة شكل القيادة الفلسطينية والتصدي للاستئثار الحالي بالقيادة الفلسطينية، وسيسمح بالاتفاق على برنامج وطني فلسطيني شامل سينعكس بدرجة أساسية على تجاوز مرحلة أوسلو.
في ذات الإطار فإن هزيمة المقاومة في القطاع ستعني أن التيار المؤمن بالكفاح المسلح سيتراجع بشكل كبير، لكل دعاة الواقعية السياسية القائمة على المراهنة على المسار السلمي والتفاوض مع الاحتلال والرهان على المؤسسات الدولية.
على الجانب الآخر فإن تجليات الحرب على المدارس السياسية في “إسرائيل” ستكون كبيرة، فالحرب ستحمل في طياتها تحولات في أوزان الأحزاب السياسية وعودة قوية لحكم الجنرالات الذي تراجع منذ سنوات لصالح تقدم اليمين بشقيه الديني والعلماني، إضافة إلى عودة الزخم لمدارس وأطروحات سياسية مثل مدارس تقليص الصراع بهدف إعادة بناء وترميم الكثير مما دمره طوفان الأقصى والخلاف الإسرائيلي الداخلي خصوصًا الانقسام على برنامج التعديلات القضائية ووصوله إلى مؤسسات الإجماع مثل الجيش والمؤسسة الأمنية، بالإضافة إلى تراجع متوقع في حضور اليمين المتطرف في مؤسسات الحكم ونفور جزء غير يسير من الجمهور الإسرائيلي الذي سيعتبر أن سياسات اليمين دفعت بالمجتمع الإسرائيلي للانقسام الذي سهل ومهد الطريق لنجاح ضربة بحجم السابع من أكتوبر.
كل ما سبق سينعكس بما لا يدع مجالًا للشك على الملفات الكبرى للقضية الفلسطينية، وفي مقدمتها القدس والضفة الغربية، وهو ما يعني أن صمود المقاومة في قطاع غزة سيكون محفزًا لتطور الفعل المقاوم في الضفة المحتلة، وسيقلص بشكل كبير تأثير وهيمنة السلطة على الأرض ناهيك بالممر الإجباري بإعادة صياغة النظام السياسي الفلسطيني.