يتوجه ملايين الناخبين الأتراك، صباح الأحد، 31 مارس/آذار 2024، إلى صناديق الاقتراع، لاختيار مرشحيهم في الانتخابات البلدية، التي تعد ثالث أهم الاستحقاقات السياسية في البلاد، بالتزامن مع نهاية المئوية الأولى، وبداية المئوية الثانية من عُمر الجمهورية الحديثة.
تتعدد اتجاهات التصويت، سياسيًا واجتماعيًا وفكريًا، لكن يظل القاسم المشترك بين الكتل التصويتية الرهان على البرامج الانتخابية المعلنة للأحزاب ومدى واقعيتها وقدرة المرشحين في البلديات الرئيسية والفرعية في 81 ولاية تركية على تقديم الخدمات المطلوبة، خلال السنوات الخمسة المقبلة.
يتنافس في الانتخابات البلدية، 36 حزبًا على رئاسة مقاعد 30 بلدية كبرى و390 بلدة و973 مدينة و1351 منطقة و1251 عضو مجلس ولاية و20 ألفًا و500 عضو مجلس بلدية، وعضوية 50 ألفًا و336 حيًا، ومناصب محلية غير حزبية كأمناء الأحياء والمختار ومجالس كبار السن.
تراهن الأحزاب التركية على أصوات 61 مليون ناخب، نسبة النساء تشكل 50.59% من إجمالي الناخبين، مقابل 49.41% رجال، فضلًا عن مليون و32 ألف شاب يصوتون للمرة الأولى في الانتخابات البلدية، وذلك فيما شارك نحو 54 مليون ناخب، من إجمالي 64 مليونًا، خلال الانتخابات العامة في مايو/أيار الماضي.
استكملت الهيئة العليا للانتخابات التركية، المعنية بالإشراف على مراحل العملية الانتخابية وتطبيق الإجراءات اللازمة، استعداداتها للانتخابات البلدية، بداية من توزيع البطاقات الانتخابية على مراكز الاقتراع، واتخاذ التدابير المخصصة لضمان سير وسلامة عملية الاقتراع، لا سيما التحسب لانقطاع التيار الكهربائي أو الهجمات الإلكترونية في أثناء الاقتراع وفرز الأصوات.
ذكّرت الهيئة بمحظورات الانتخابات، وشملت: منع حمل السلاح باستثناء المسؤولين عن حفظ الأمن والنظام، وحظر نشر الاستطلاعات واستطلاعات الرأي، وعدم السماح بالتنبؤات الإخبارية والتعليقات على الانتخابات ونتائجها، قبل إعلانها رسميًا\، وسيتولى تأمين الانتخابات المحلية نحو 600 ألف عنصر أمني، بحسب وزير الداخلية التركي، علي يرلي قايا.
معسكر السلطة
تحظى الانتخابات البلدية بأهمية كبرى في معسكر الحكم والمعارضة على السواء، ورغم عدم سماح القانون بوجود “تحالفات حزبية” في الانتخابات البلدية، على عكس الانتخابات الرئاسية والتشريعية، فإن القانون لا يعارض التنسيق بين الأحزاب الحليفة في إدارة العملية الانتخابية.
تمثل المدن الكبرى المعركة الأهم في الانتخابات البلدية التركية، كونها تحظى بوضع خاص لرمزيتها وأدوارها المحورية سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وأعداد الناخبين فيها.
يبدو التحالف الحاكم أكثر تماسكًا وثقة منذ حسمه للانتخابات العامة الصيف الماضي، بينما خرج معسكر المعارضة منها وهو مُثْخَنٌ بالجراح، قبل أن تعصف به الخلافات المعلنة التي انتهت بخوض أحزابه الرئيسية الانتخابات دون تنسيق، بل وتحولت العلاقات إلى تلاسن سياسي وإعلامي.
تأمل الكتل التصويتية التقليدية للتحالف الحاكم، وهي تتجه إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات البلدية في حسم المعركة، وإضافتها كإنجاز سياسي ثالث للتحالف، الراغب في دخول المئوية الثانية من عمر الجمهورية برؤية موحدة، يستطيع من خلالها تحقيق برنامجه المعلن، والانطلاق نحو المستقبل، عبر المستهدفات الـ10، التي أعلنها أردوغان.
تتضمن المستهدفات بنودًا سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ودستورية، تعبر عنها عناوين عريضة للمئوية الجديدة “قرن تركيا”: “الأمن، الاستقرار، التنمية، القوة، النجاح، السلام، العلم، دعم الشعوب، الإنتاجية، المواصلات، الاستثمار في الإنسان، رفاهية المواطن، وتمكين الشباب”.
يرى أردوغان أنها “خريطة طريق شاملة من شأنها أن ترفع مكانة بلدنا فوق مستوى الحضارات المعاصرة، وتصميم أمتنا على تحقيق أحلامها التي تعود إلى قرون والمضي نحو أهداف أعظم بكثير، وهي تجسيد شعبنا وبناء مستقبله بروح حرب الاستقلال. سنحول هذه الرؤية تدريجيًا إلى واقع باتحاد شعبنا، وتناغم السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وأجهزة الدولة” على حد وصفه.
يعتبر التحالف الحاكم الانتخابات البلدية معركة مصيرية وعليه يجيش كل قدراته للترويج لـ”التحول الحضري، والحد من تداعيات ومخاطر الزالزل، والإسكان، وضبط الأسعار، وتوظيف المكتسبات الوطنية في قطاعات البنية التحتية والصناعات الدفاعية والطاقة وتكنولوجيا الفضاء”.
ركز التحالف أيضًا خلال فترة الدعاية الانتخابية على تعرية برامج أحزاب المعارضة والتشكيك في واقعيتها وإمكانية تطبيقها، وكيل الاتهامات لرؤساء البلديات الكبرى التي فازت بها المعارضة في الانتخابات الماضية عام 2019، وفشلهم في تحمل مسؤولياتهم الخدمية والتنموية فيها.
طموحات المعارضة
على الجانب الآخر للشاطئ السياسي في تركيا، ترى المعارضة في الانتخابات البلدية فرصة أخيرة لتحسين موقفها السياسي الشعبي، حتى لا يجرفها الانعزال والتهميش، وتصبح عرضة للتفكك لاحقًا، لذا حاولت الأحزاب القومية والعلمانية خلال الحملات الانتخابية الدعائية، إظهار التباين بين توجهات الحزب الحاكم والمبادئ الأساسية للجمهورية التركية، المنصوص عليها دستوريًا، فيما تلجأ شريحة أخرى من أحزب المعارضة الليبرالية إلى البحث عن نقاط ضعف في مسيرة وتوجهات التحالف الحاكم.
ترى المعارضة الحزبية المتشظية سياسيًا وفكريًا، أن تحالف الشعب الذي حسم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، لا يجب أن يفوز بالانتخابات المحلية، حتى لا يتم إطلاق يد التحالف في إعادة ترتيب المشهد السياسي وهندسة المجتمع وفق اتجاه واحد، خاصة في ظل تطبيق نظام الرئاسة التنفيذية، منذ استفتاء أبريل/نيسان 2017.
عبر الرئاسة التنفيذية، يجمع الرئيس التركي بين رئاسة الدولة والحكومة، لكن المعارضة بحكم خلافاتها، ليس لديها أوراق القوة الكافية لتحويل هذه الرغبة إلى موقف سياسي انتخابي، كونها تخوض الانتخابات دون غطاء التنسيق السياسي التقليدي، بعدما كانت من سمات الانتخابات العامة في مايو/أيار الماضي.
View this post on Instagram
خلال الشهور الـ7 التي سبقت الانتخابات البلدية، تعرض تحالف المعارضة الرئيسي “الطاولة السداسية/الأمة” للتفكك، والذي كان يضم عدة أحزاب وكيانات سياسية، شملت: الشعب الجمهوري، والجيد القومي، والسعادة المحافظ، والديمقراطية والتقدم، والمستقبل، والحزب الديمقراطي.
أسباب كثيرة كانت وراء انشقاقات تحالف المعارضة، أهمها عدم وجود رؤية مشتركة قابلة للتطبيق فيما يتعلق بالتصدي للملفات والمشكلات التي تواجهها تركيا، رغم إعلان التحالف برنامج مشترك “مذكرة تفاهم/اتفاق السياسي”.
تتعدد انتقادات المعارضة للحكومة بسبب ارتفاع الأسعار وأزمة غلاء المعيشة والملف الاقتصادي الضاغط على الطبقة الوسطى والفقراء، والتعامل معه كنقطة ضعف في أداء الحزب الحاكم، إلى جانب ملفات أخرى اقتصادية واجتماعية تهم الشريحة الأوسع من الناخبين، وانعكاسها المباشر على المواقف السياسية التقليدية، وتوظيفه في الحد من شعبية التحالف الحاكم، وتحسين صورة المعارضة شعبيًا.
خلال خطابها الدعائي، تتعمد أحزاب المعارضة دغدغة مشاعر الناخبين، وتقديم نفسها كبديل قادر على مواجهة الأزمات الاقتصادية والخدمية، بالصورة التي عبرت عنها برامج الأحزاب لجذب الجماهير، خلال مدة الدعاية التي انتهت مدتها القانونية قبل 24 ساعة من بدء عملية الاقتراع.
الخريطة التصويتية
يقع المراقبون للانتخابات التركية في فخ التعميم، عند النظر للخريطة التصويتية للأحزاب التركية في الانتخابات، دون التفريق بين أنواعها (الرئاسية والتشريعية والبلدية)، ومن واقع مراقبة اتجاهات الناخبين خلال الاستحقاقات التي تمت في السنوات الخمسة الماضية.
يمكن تفنيد ما يقال حول تصويت المدن المركزية كـ”أنقرة وإسطنبول وإزمير وأضنة وأنطاليا” للمعارضة، علمًا بأن هذا يحدث في الانتخابات الرئاسية، لكنه ليس كذلك في الانتخابات البرلمانية أو البلدية، التي كشفت عن وجود متغيرات كثيرة في اتجاهات التصويت التقليدية، التي لم تعد مرتبطة بأبعاد دينية واجتماعية محافظة، أو حتى توجهات قومية علمانية يسارية.
لا يمكن تجاهل مكانة حزب العدالة والتنمية، الحاكم، كأكبر الأحزاب التركية، ونجاحه في مدّ الجذور لولايات كثيرة، خاصة في المناطق الريفية والمحافظات الداخلية والوسطى، حيث تعزز وجوده في مناطق وسط الأناضول والبحر الأسود، وجنوب شرق الأناضول والبحر الأبيض المتوسط وبحر مرمرة.
أصبحت معاقله الرئيسية ولايات ومحافظات (أضنة، مارسين، عثمانية، أغدير، إسبرطة، بلكسير، غوموشهانه، أفيون، مانيسا) وغيرها، كما أنه ينازع حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة في مناطق تصويته التقليدية، في سواحل منطقة بحر إيجه، وطرق باب جنوب شرق تركيا، حيث تتمركز الكتل التصويتة الكردية، من خلال تحالفات سياسية وحزبية.
خلال الانتخابات البلدية الحاليّة، تبنى التحالف الحاكم، تكتيكات احترافية يحاول من خلالها حسم المعركة المتبقية في ماراثون الانتخابات، متبنيًا الطريقة التي خاض بها الانتخابات البلدية عام 2019، عبر المنافسة على معظم المقاعد في المدن الكبرى لـ”العدالة والتنمية”، تاركًا بعض المقاعد المهمة لحليفه حزب “الحركة القومية” مع توزيع المجهود الانتخابي على مستوى الدوائر.
قناعات متعددة
يتعامل الناخبون الأتراك مع انتخابات البلدية باعتبارها جسرًا بين الحكومة والجماهير، من خلال دورها الوسيط في التعامل المباشر في تقديم الخدمات، وقياس رضاهم عن الأداء العام لمؤسسات الدولة، وتحديد الخطوط العريضة للبلاد، والتي لن تتوقف عند إعادة تعريف تركيا، بل ستشمل تحديد خياراتها وانتماءاتها، سياسيًا وإستراتيجيًا وحضاريًا، والخروج بالبلاد من مربع الاستقطاب المحلي والإقليمي، الذي تمدد بقوة، لظروف وملابسات كثيرة، خلال الفترة من عام 3013 حتى صيف عام 2022.
ستشكل نتائج الانتخابات البلدية مدى قناعة الناخبين بالأفكار والبرامج المعلنة، سواء ما يحظى به حزب العدالة والتنمية وتحالف الشعب الحاكم من شعبية، ومدى الدعم الشعبي لسياسات أردوغان وتوجهاته الداخلية والخارجية، أم ما تطرحه المعارضة الحزبية من رؤى وتوجهات بديلة.
كالعادة سيكون معظم الانحياز في الانتخابات البلدية يرتبط بشخصية المرشح والخدمات التي سيقدمها، وإبداء رأيه المباشر في مخاطر تهدد المجتمع التركي كـ”القومية المتطرفة” التي تتبدى في التعاطي مع ملفات عدة، مثل الهجرة واللاجئين.
يربط أردوغان تحقيق المستهدفات المطروحة بـ”إعادة ترتيب المشهد العام في البلاد” في إشارة إلى حسم الانتخابات البلدية، فهل تتماهى جموع الناخبين مع هذا التوجه عبر صناديق الاقتراع، وتنحاز لما يطرحه التحالف الحاكم من خيارات، أم تحدث مفاجآت تغير المسار؟