“كنّا يهودًا عربًا، نعيش في بغداد منسجمين مع المجتمع العراقي، نتحدث العربية في المنزل، وعاداتنا عربية، وأسلوب حياتنا عربي، وكانت أكلاتنا شرق-أوسطية شهية. بالنسبة لعائلتي، لم يكن لصهيون (جبل في القدس) أي جاذبية؛ فقد كانت جذورنا راسخة بعمق بين نهري بابل، ولم يكن لدينا أي سبب يدعونا إلى اقتلاع تلك الجذور، فقد كنّا عراقيين ندين باليهودية”.
هكذا تحدث آفي شلايم، المؤرخ الإسرائيلي البريطاني، عن نشأته بالعراق، في كتابه “ثلاثة عوالم: مذكرات يهودي عربي”، والصادر للمصادفة في يوليو/تموز 2023، أي قبل طوفان الأقصى بثلاثة أشهر تقريبًا.
آفي شلايم هو واحد ممن يطلق عليهم لقب المؤرخين الجدد، الذين يرون أن اليهودية شيء والصهيونية شيء آخر، وانطلاقًا من ذلك، فهو يرى أن الفلسطينيين أصحاب حقوق، وأن ما تقوم به “إسرائيل” في حقهم هو تطهير عرقي وإبادة جماعية، وأن حركة حماس تمارس حقًا مشروعًا في مقاومة “إسرائيل” ولا تعيق السلام.
فما قصة شلايم؟ وكيف انتقل من العراق الذي ولد به إلى “إسرائيل”؟ وما أهم مؤلفاته وأفكاره التي ناصر من خلالها القضية الفلسطينية؟ وما موقفه من عملية طوفان الأقصى؟
من حياة سعيدة في العراق إلى غربة في “إسرائيل”
في الأربعينيات، وخاصة بعد حرب عام 1948 بين العرب و”إسرائيل”، صار وضع اليهود في الدول العربية حرجًا أمام مجتمعاتهم وحكوماتهم، الأمر الذي اضطر كثيرًا منهم لتقديم طلبات هجرة، ومن أكبر التجمعات اليهودية في العالم العربي كانت تلك الموجودة بالعراق.
كان والد شلايم تاجرًا غنيًا، وكان يحب العراق، لكن الوضع العام لليهود العرب صار مأزومًا، فاضطر ومعه أسرته إلى الهجرة لـ”إسرائيل” عام 1951، وكان وقتها آفي عمره لم يتجاوز 6 سنوات، فهو من مواليد 31 أكتوبر/تشرين الأول 1945.
يصف شلايم أحوال عائلته بعد الانتقال إلى “إسرائيل”، فيقول إن عائلته كانت تعيش في غربة، فالأب لا يعرف التحدث سوى بالعربية، وكذلك الأم التي لم تستطع تكوين صداقات في “إسرائيل” وكانت تحن دائمًا لصديقاتها العراقيات حتى من غير اليهود، وكانت أمه تقول له إن الصهيونية مسألة تخص اليهود الأشكيناز، أم اليهود العرب فلا علاقة لهم بذلك.
أما آفي فسرعان ما تعلم العبرية في المدرسة، وصار يتحدث بها، لكنه عاش طفولة مشتتة، ففي داخل المنزل يعيش حياة عربية، وفي خارجه يعيش حياة عبرية ذات طابع أوروبي، إذ يشكو شلايم في مذكراته، من أن الصهاينة كانوا يحتقرون اللغة العربية والعرب، لدرجة أنه كان يصاب بحرج بالغ إذا قابله والده في الشارع وهو يلهو مع أصدقائه وحدثه بالعربية أمامهم.
وبشكل عام كان اليهود الأشكناز الأوروبيين هم قادة المجتمع الإسرائيلي، وكانوا يعتبرون اليهود العرب الذين يطلق عليهم “اليهود المزراحيين” مواطنين أقل مستوى منهم، وينظرون إليهم بازدراء، بحسب شلايم.
في عام 1982 بدأ يركز أكثر على تاريخ “إسرائيل”، وطالع أرشيف الحكومة الإسرائيلية الذي أفرِج عنه عن حرب 1948، ومن هنا بدأت جل أبحاثه تتمركز حول القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي.
ذاك التناقض والاضطراب الذي عاشه شلايم في طفولته جعله لا يستسلم للأفكار الصهيونية التي تزدري العرب، لأن والده حتى وفاته كان عربي الثقافة والطباع، وكل أسرته كانت تحن لأيامها في العراق، وهذه النشأة هي ما دفعته فيما بعد لبناء قناعاته الخاصة عن الصراع العربي الإسرائيلي.
حاول شلاليم في البداية أن يدير ظهره لأصوله العربية ويعيش كطفل ومراهق صهيوني إسرائيلي، لكن بعد نضوجه الفكري تأكد لديه ما نشأ عليه، وهو أن العرب ليسوا همجًا، بل شعب أبي النفس حساس، وأن التعايش السلمي بين اليهود والعرب دون تمييز على أساس ديني أو عرقي هو الشيء المثالي، خاصة أنه يعتبر تجربة عائلته في العراق هي تجربة مجتمع يهودي عربي بالكامل اجتث من جذوره ليعيش مضطرًا في عالم جديد بمواءمات للتأقلم، بعد أن كان يعيش مع المسلمين في العراق وباقي العالم العربي في حالة سلم واستقرار.
انعكس هذا التشتت على التحصيل التعليمي لشلاليم، ما دفع أهله إلى إرساله إلى إنجلترا للدراسة هناك وعمره 16 عامًا خلال المرحلة ما قبل الجامعية، لكنه عاد عام 1964 إلى “إسرائيل” للخدمة في الجيش، ووقتها مال إلى اليمين الإسرائيلي نسبيًا، لكن بعد عامين عاد إلى إنجلترا مرة أخرى ليدرس التاريخ في جامعة كامبريدج، ثم أكمل دراسته هناك وأكمل رحلته الأكاديمية، حتى صار أستاذًا للعلاقات الدولية في جامعة ريدينغ.
وفي عام 1982 بدأ يركز أكثر على تاريخ “إسرائيل”، وطالع أرشيف الحكومة الإسرائيلية الذي أفرِج عنه عن حرب 1948، ومن هنا بدأت جل أبحاثه تتمركز حول القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي.
كتب آفي شلايم
بدأ شلايم ينكب على دراسة تاريخ القضية الفلسطينية، وفي داخله هذا اليهودي العربي الذي يعتز بجذوره، وبين يديه الوثائق التي تدين “إسرائيل” وتدين تواطؤ بعض العرب معها، ففي عام 1988 أصدر شلايم كتابه “التواطؤ عبر نهر الأردن: الملك عبد الله، الحركة الصهيونية، وتقسيم فلسطين”، والذي يتهم فيه الملك الأردني عبد الله الأول بالتواطؤ مع الإسرائيليين على تقسيم فلسطين فيما بينهما، للحصول على حكم الضفة الغربية والقدس، معتبرًا أن الملك عبد الله كسب من تلك الحرب كما كسبت “إسرائيل”، وخسر الفلسطينيون وباقي العرب.
وفي عام 1995 أصدر كتابه “الحرب والسلام في الشرق الأوسط: تاريخ موجز منقح ومحدث”، وفي الكتاب يستعرض شلايم تاريخ الأزمة العربية الإسرائيلية، منذ هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى (1914-1918) التي كانت تحكم فلسطين، ومن ثم صدور وعد بلفور بإقامة وطن لليهود في فلسطين، ثم محطات الصراع الرئيسية كلها حتى التسعينيات، ثم يعرج إلى السياسة الأمريكية في الخليج العربي، وأزمة العراق، ويرى أن ذلك لا ينفصل عن مجمل قضية الصراع العربي الإسرائيلي.
ثم أصدر عام 1999 كتابه “الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي” الذي يثبت خلاله أن “إسرائيل” دولة مدرعة، تعيش بين العرب من خلف جدار حديدي، وهذا الجدار هو تفوقها العسكري، وليس على مبدأ عادل، أو على حق قانوني يجعلها تأمن على وجودها.
وفي عام 2009 أصدر كتابه “إسرائيل وفلسطين: إعادة تقييم ومراجعات وتفنيد”، والذي يشرح خلاله مجمل رؤيته للصراع، وللقضية الفلسطينية.
تلك الكتب التي أشرنا إليها ربما تمثل أشهر كتبه عن القضية الفلسطينية، لكن بجانبها هناك أوراق بحثية كثيرة ومقالات في كبرى الصحف، ومنها الغارديان البريطانية التي يكتب إليها بانتظام، وكان من أبرز كتاباته هناك، مقال يدعو فيه بريطانيا إلى التكفير عن خطيئتها التاريخية، بإصدار وزير خارجيتها بلفور وعده للصهاينة بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، من خلال اعترافها بالدولة الفلسطينية ودعمها وإحباط مخططات “إسرائيل” الاستيطانية.
كما عرف شلايم بنشاطه الإعلامي، وما تضمنه من المناظرات والجدل مع مؤرخين إسرائيليين يتبنون وجهة نظر معارضة لشلايم، وربما أهمهم بيني موريس، خاصةً عقب إصداره لمذكراته “ثلاثة عوالم”، التي تحدثت عن التسامح الذي لاقاه اليهود في العالم العربي، من واقع تجربته العراقية، وهو أمر ينسف النظرية التي قامت عليها “إسرائيل”، التي تصور اليهود كأقلية مضطهدة لم يكن أمامها حل إلا إنشاء دولتها على حساب أصحاب الأرض الأصليين في فلسطين.
بعد الطوفان: “حتى لو قتلتم قادة حماس ستبقى أفكارهم وسيأتي من يخلفهم”
كانت صدفة مثيرة للاهتمام قيام طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر بعد صدور مذكرات شلايم بأقل من 3 أشهر، إذ كان شلايم ضيفًا في منتديات ولقاءات صحفية وإعلامية وأكاديمية يتحدث فيها عن مذكراته التي تنسف الكثير من الادعاءات الإسرائيلية، لكن بعد طوفان الأقصى كان شلايم من المبادرين لتذكير العالم بسرعة بأصل المشكلة، وهي أن “إسرائيل” تمارس الفصل العنصري والإبادة الجماعية، والأهم أنها تحتل الأراضي الفلسطينية منذ عام 1948.
وربما أبرز جهوده بعد طوفان الأقصى مباشرة، تتمثل في دعمه إصدار كتاب بعنوان: “الطوفان: غزة وإسرائيل من الأزمة إلى الكارثة”، بالتعاون مع مجموعة باحثين آخرين، ويحتوي الكتاب على مقدمة لشلايم ودراسة بعنوان: “نتنياهو وحماس وأصول حرب النكبة 2023”.
هذه الدراسة، التي سيتضمنها الكتاب المنتظر صدوره في شهر أبريل/نيسان الحالي، نشرها شلايم على موقع ميدل إيست آي، وهي تعود بعملية طوفان الأقصى وما بعدها إلى جذور الأزمة، أي قبل السابع من أكتوبر، وهو ما يحاول الإسرائيليون تجاهله وتغييبه.
يوضح شلايم أن ما قامت به المقاومة الفلسطينية هو جزء من سلسلة نضالية، في مقابل احتلال وحصار حوَّل قطاع غزة إلى سجن كبير، إذ يستعرض شلايم سريعًا أبرز ممارسات الاحتلال منذ 1948 حتى يصل إلى عام 2005، حين سحبت “إسرائيل” جنودها من قطاع غزة، وفككت مستوطناتها هناك، وادعت وقتها أنها أعطت لسكان غزة الفرصة لتحويل قطاعهم إلى سنغافورة الشرق الأوسط، ومع ذلك لم يفعل سكانها ذلك.
ودافع شلايم عن الغزاويين ويقول إن أهله ليسوا متخلفين، وليسوا فقراء لأنهم كسالى ولا يريدون أن يعملوا، ولكن لأن هناك نظام استعماري إسرائيلي جشع لا يمنحهم فرصة التنمية والعيش المستقر.
ويعتبر شلايم أن انسحاب “إسرائيل” بزعامة آرييل شارون من غزة عام 2005 فيما عرف بالانفصال أحادي الجانب، كان له 3 أسباب رئيسية، وهي: هجمات حماس ضد جنود الاحتلال والمستوطنين، ولذلك فإن بقاء الاحتلال في غزة تكلفته باهظة، وتخريب عملية السلام واتفاق أوسلو، مستشهدًا بكلمات دوف فايسغلاس، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي وقتها، بأن الهدف من الانسحاب الأحادي دون اتفاق مع الفلسطينيين، هو تجميد عملية السلام، وبالتالي منع إنشاء دولة فلسطينية، وبالتبعية منع النقاش عن القدس واللاجئين.
وأخيرًا، ضم غزة إلى “إسرائيل” يعطي تفوقًا ديموغرافيًا للعرب والمسلمين في غزة على اليهود، باعتبار أن معدل المواليد في غزة أعلى بكثير من اليهود الإسرائيليين.
يؤكد شلايم أن خطة نتنياهو المزعومة للقضاء على حماس ليس لديها أي فرصة للنجاح، حتى ولو قُتِل جميع قادة حماس كما يتمنى نتنياهو، لأن حماس هي مجموعة من الأفكار، وعلى رأسها الحرية والاستقلال وحق تقرير المصير
هذا الانفصال أعقبه الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، التي فازت حماس بأغلبيتها وصار لها حق السلطة في الضفة وغزة، وحينها اعترفت حماس بوجود “إسرائيل” وقبلت بدولة فلسطينية على حدود 1967.
فوز حماس كان مفاجأة لـ”إسرائيل” التي رفضت الاعتراف بالحكومة الفلسطينية الجديدة، ومعها الولايات المتحدة وأوروبا، وهو شيء مؤسف ونفاق غربي لـ”إسرائيل” في رأي شلايم، أن يدعي الغرب دعمه للديمقراطية وحين تأتي الديمقراطية بمن لا يحبهم أو بما لا يخدم “إسرائيل” يعترض على نتائجها.
منذ ذلك التوقيت، بدأت “إسرائيل” تشن حربًا اقتصادية وحصارًا على الحكومة الفلسطينية برئاسة إسماعيل هنية، بل الأهم هو التآمر على حكومة الوحدة الوطنية التي شكلتها حماس مع حركة فتح، والتدبير للإطاحة بحماس من السلطة، وهو ما اتضح حين جرى تسريب مذكرات لمفاوضات بين السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس وحركة فتح وبين “إسرائيل”، بموجبها تقوم الولايات المتحدة و”إسرائيل” بتدريب وتسليح عناصر الأمن التابعة لعباس للإطاحة بحماس من السلطة.
وهنا استبقت حماس انقلاب عباس المدعوم من “إسرائيل”، وانقلبت عليه وطردت عناصر فتح من قطاع غزة، الأمر الذي استغلته “إسرائيل” لتشديد الحصار على غزة، كما يرى شلايم أن “إسرائيل” تستفيد من هذا الوضع وتريد استمراره ولها دور فيه، مستشهدًا بما نسب إلى بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، حين قال في اجتماع لحزب الليكود عام 2019: من يريد إحباط إقامة دولة فلسطينية، يجب أن يدعم وجود حماس في السلطة ويسمح بنقل الأموال إليها.. وهذا جزء من إستراتيجيتنا”.
يعلق شلايم أيضًا بأن وجود سلطتين متنافرتين في الأراضي الفلسطينية، يعطي “إسرائيل” الذريعة لرفض السلام ورفض قيام دولة فلسطينية، خاصة أن السماح لحماس ببناء قدرات يجرى إحباطه باستمرار عن طريق العمليات العسكرية المتكررة على غزة، والتي لا يمر عام أو عامين إلا وتتكرر.
هذه السياسة التآمرية ضد الفلسطينيين، في رأي شلايم، جعلت حماس ومعها فصائل المقاومة تتصرف بشكل جديد، وجاء ذلك في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، فبدلًا من بقاء السجناء في سجنهم يقاومون سجَّانهم، تمرد السجناء وهربوا وهاجموا السجان في أرضه، بدلًا من انتظار هجومه.
ويؤكد شلايم أن خطة نتنياهو المزعومة للقضاء على حماس ليس لديها أي فرصة للنجاح، حتى ولو قُتِل جميع قادة حماس كما يتمنى نتنياهو، فسيأتي قادة آخرين أكثر تشددًا ممن ستقتلهم “إسرائيل”، لأن حماس هي مجموعة من الأفكار، وعلى رأسها الحرية والاستقلال وحق تقرير المصير، فيقول: “يمكن لـ”إسرائيل” القضاء على المقاتلين، لكنها لا يمكن أن تقضي على أفكارهم”.
في النهاية، قد يكون أهم ما يميز شلايم عن غيره من المثقفين اليهود المعادين لـ”إسرائيل”، هي مشاعر الحنين والاعتزاز بجذوره العربية، واعتزاز شلايم بجذوره العربية ليس اعتزازًا قوميًا بقدر ما هو اعتزاز إنساني، اعتزاز بفكرة التعايش والسلام، فهو يبغض القومية عمومًا، أي قومية، ويرى أنها تمنع التفكير، وهو ما يرفضه الإسرائيليون على اعتبار أن كل يهودي هو صهيوني وموطنه “إسرائيل”.