لا يعبّر الأردن الرسمي غالبا عن مواقفه أو سياساته بشكل واضح ونهائي من ملفات وقضايا المنطقة والإقليم، لكنه يكرر مخاوفه بطرق شتى بما يعكس المحيط القلق الذي يعيش فيه.
فحرب في سوريا ومسار غامض لعملية السلام يخشى أن يدفع ثمنها دون أن يدرك مآلها، ودور يجب أن يؤديه للسعودية أو للخليج باعتباره صلة الوصل الطبيعية الموثوقة بين الشام والخليج.
فغالبا ما يتميز الدور السياسي الأردني بالاستعصاء على فهم أكثرية المراقبين والمحللين، خاصة في أهم ملفات وقضايا المنطقة المعقدة المتمثلة بالملفين الفلسطيني والسوري، علاوة على غموضه في التعامل مع القضايا ذات العلاقة مع الخليج العربي وخاصة السعودية والإمارات.
البطاينة: الملك هو الذي يدير الملف الخارجي والموقف الأردني تجاه ملفات المنطقة، بالتالي لا يوجد أي دور للحكومة أو وزير الخارجية
بعبارة أخرى، وحسب كتاب السفير السابق لدى اليمن فؤاد البطاينة تحت عنوان “السياسة الخارجية الأردنية وتطورها”، فإن “طبيعة السياسة الخارجية الأردنية تتسم بكثير من الغموض والحيرة عند النظر فيها أو الحكم عليها، فهي السياسة الاحتكارية التي يحتكرها بشكل شبه مطلق الملك”.
وذكر البطاينة في كتابه أن “الملك هو الذي يدير الملف الخارجي والموقف الأردني تجاه ملفات المنطقة، بالتالي لا يوجد أي دور للحكومة أو وزير الخارجية الذي هو مجرد ناقل رسائل، كما لا يوجد دور لمجلس النواب في تقرير السياسة الخارجية، وكل ما يصدر عن هذه المؤسسات مجرد تصريحات شكلية”.
وحسب البطاينة “لا توجد مأسسة لصناعة القرار بالأردن فيما يتعلق بالسياسية الخارجية، وعدم وجود هذه المأسسة يؤدي أيضاً إلى تهرب المسؤولين من اتخاذ القرارات المناسبة مخافة الوقوع في أي محظور أمني، وعليه فإن الحكومات عادة ما تتهرب من ولايتها العامة”.
هل الدور الأردني الذي يميّزه البعض بأنه دور وظيفي نتيجة وضعه الجيوسياسي، في تراجع، أم أن هناك تغييب متعمد له عن الساحتين الإقليمية والدولية؟
يخلص القارئ لتاريخ الدبلوماسية الأردنية منذ تأسيس الدولة، بسهولة لاستنتاج مفاده أنها كانت دوما تنمو وتترعرع في ظل الظروف الإقليمية التي تشهد تناغما نسبيا بين دول الإقليم خاصة العربية منها، وتضعف وتتهمش في الأوقات التي تسود فيها حالة من الانقسامات الحادة كالتي نشهدها حاليا.
في ضوء ذلك، يتساءل المراقبون عن دور الأُردن الخارجي، وأين يقف في ظل التحالفات الإقليمية والدولية التي تتبلور حاليا بالمنطقة بشكل متسارع، كما يبحث المهتمون في خيارات الدبلوماسية الأردنية ومكانتها بين التحركات والتغيرات التي تطرأ على الخارطة السياسية؟
وهل الدور الأردني الذي يميّزه البعض بأنه دور وظيفي نتيجة وضعه الجيوسياسي، في تراجع، أم أن هناك تغييب متعمد له عن الساحتين الإقليمية والدولية؟
القضية الفلسطينية
فإذا ما بدأنا بتسليط الضوء على الدور الأردني التاريخي تجاه الملف الفلسطيني، نجد أنه “شهد نوعا من التراجع نتيجة انتهاجه سياسة الحذر في التعامل مع حركة حماس وكذلك الأزمة الأخيرة مع السلطة الفلسطينية، الأمر الذي ظهر جليا في غيابه عن تطورات ملف المصالحة الفلسطينية التي عقدت برعاية مصرية مؤخرا في غزة”، وفق ما ذكر الكاتب عريب الرنتاوي.
لكن الرنتاوي رأى في حديث لـ”أردن الإخبارية” أن “الدور الأردني تجاه القضية الفلسطينية وخاصة القدس والمقدسات، ما يزال قائما رغم غيابه عن ملفات المصالحة، كونه اتبع سياسة عدم الانفتاح على حركة حماس علاوة على عدم امتلاكه أوراق التأثير عليها”.
الرنتاوي: “استمرار غياب الأردن عن ملف المصالحة الفلسطينية غير مفهوم ولا مقبول”
واعتبر أنه “كان بإمكان الأردن لعب دور فاعل تجاه ملف المصالحة”، واصفاً استمرار الغياب الأردني عن هذا الملف “بغير المفهوم وغير المقبول”.
وبشأن رعاية الأردن لمدينة القدس المحتلة وحماية مقدساتها الإسلامية والمسيحية، أكد الرنتاوي على “أهمية الدور الأردني في دعم المدينة أمام مخطط الاحتلال الإسرائيلي لتهويدها وطمس معالمها العربية الإسلامية والمسيحية”، منوها إلى أن “الأماكن المقدسة في القدس المحتلة حظيت برعاية أردنية لحمايتها والحفاظ عليها نظير مكانة دينية تاريخية”.
في العموم، أفاد الرنتاوي بأن “الدور الأردني تجاه القضية الفلسطينية في ظل سيطرة اليمين المتطرف على دوائر الحكم الإسرائيلي في تراجع”.
في أزمة البوابات الإلكترونية، يرى مراقبون أن الدور الأردني كان ضعيفاً، وأن ما أوقف دولة الاحتلال وجعلها تتراجع عن موقفها وإزالة البوابات هو اعتصامات المقدسيين لأيام طويلة
لكن كثير من المتابعين والمراقبين للشأن الأردني يقولون أنه حتى الدور الأردني تجاه الأقصى والمقدسات في الأراضي المحتلة تراجع أيضًا بسبب السياسات الإسرائيلية التهويدية المستمرة، لذلك تستمر دولة الاحتلال في تماديها دون أي خشية من تصعيد أردني تجاهها.
ففي الأزمة الأخيرة في القدس، أزمة البوابات الإلكترونية، يرى مراقبون أن الدور الأردني كان ضعيفاً، وأن ما أوقف دولة الاحتلال وجعلها تتراجع عن موقفها وإزالة البوابات هو اعتصامات المقدسيين لأيام طويلة وكذلك الحشد الشعبي والإعلامي الذي حظيت به القضية.
إلى ذلك، يتساءل مراقبون عن ما تم الأسبوع الماضي من اتصال هاتفي بين الملك عبد الله الثاني ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، عن إذا كان الأردن بدأ بمراجعة سياسته تجاه حركة حماس، وهل ينفتح عليها كما كان في السابق، الأمر الذي سيعطيه مساحات من المناورة وفعالية قوية للدخول على خط الملف الفلسطيني والتأثير فيه من جديد، أم لا.
الملف السوري
أما على صعيد الملف السوري، فإن الدور الأردني في الصراع هناك متعدد الجوانب، ويستند في ذلك لطبيعة الأردن الجيوسياسية والاقتصادية، فالمملكة لا تستطيع التخلي عن المساعدات الغربية والخليجية لاستمرار بقاء الدورة الاقتصادية والمعيشية لسكانها، وفي الوقت نفسه، تعلم يقينا أن نار الأزمة السورية ستطالها في حال لم تعد السيطرة عليها ممكنة.
وحسب أستاذ العلوم السياسية الدكتور أحمد سعيد نوفل، فإن “تغيير حقيقي برز في العلاقات الأردنية السورية خلال الشهور الثلاثة الأخيرة، سببه تغيّر موازين القوى على الأرض الذي انعكس بدوره على التغير في مواقف أمريكا والسعودية”.
نوفل: تغيير حقيقي برز في العلاقات الأردنية السورية خلال الشهور الثلاثة الأخيرة بسبب تغير موقف الرياض وواشنطن
وقال نوفل لـ”أردن الإخبارية” إن “الانقطاع ما بين عمان ودمشق موجود منذ بداية الأزمة السورية، حيث تمثل في إغلاق للحدود بين البلدين، بالإضافة إلى تمرير كمية كبيرة من السلاح إلى الأرض السورية عبر الحدود الأردنية، لكن في الوقت الحاضر تتجه المشاكل العالقة نحو الحلحة والتصريحات الإيجابية التي صدرت عن الأردن، تتلقاها دمشق بإيجابية”.
وأشار نوفل إلى “صورتين في الموقف الأردني تجاه الأزمة السورية، الأولى تمثلت باستقبال اللاجئين السوريين على أرضه منذ بداية الأزمة، وسمح لهم بعرض روايتهم التي تدين النظام السوري، والثانية ترجمت بالسماح لوفد أردني مؤيد للنظام السوري بزيارة الرئيس بشار الأسد من غير إنكار أو رفض”.
ولفت نوفل إلى أن “هاتين الصورتين المتداخلتين دفعتا قوى سياسية وشعبية أردنية إلى اتهام حكومتهم بالتناقض، في الوقت الذي عكست فيه الصورتان حجم المخاوف التي كانت تُلحّ على صانع القرار، كي يكون حذرًا من أية حسابات خاطئة قد تنعكس سلبا على وضعه الداخلي أو الإقليمي”.
وقد يكون ما كشف عنه النائب طارق خوري مؤخرا، عن نية نحو 15 برلمانيا أردنيا زيارة سوريا الشهر المقبل، مؤشر على اتجاه البوصلة الأردنية الجديد، استنادا إلى تحقيق مصالحه بعيدا عن التحالفات والتعهدات الإقليمية والدولية.
ماذا عن السعودية والخليج من ورائها؟
أما في تعامله مع القضايا ذات العلاقة مع الخليج العربي وخاصة السعودية والإمارات، فإن “إستراتيجية السعودية الأمنية وتحديدا في مجال تأمين الحدود، لا تأخذ في الاعتبار لا حاليا ولا مستقبلا المصالح الأردنية، ولا التراث الأردني الصامت بالمساهمة في حماية حدود المملكة”، وفق الكاتب بسام بدارين.
وأشار بدارين في مقال له نشر في صحيفة “القدس العربي” إلى أن “السعودية تفاجئ الأردن مرتين فهي بدأت تخطط للاعتماد على تركيا وقواتها وبرامجها العسكرية، وتسعى في الوقت نفسه لإقامة نظام إلكتروني شرس يحمي حدودها كلفته الجزئية، يمكن أن تعالج كل مشكلات الخزينة الأردنية”.
وقال بدارين إنه “في الوقت نفسه لا تقوم السعودية حتى بعد تولي الملك سلمان بن عبد العزيز، بأي خطوة لصالح إحياء وإنعاش مسألة انضمام الأردن لمجلس التعاون الخليجي”.
بدارين: السعودية ليست في موقع تقديم مساعدة حقيقية للأردن، لا بل بدأت تفكر في التخلي عن الدور الأمني الأردني في حمايتها
ووفقا لوجهة نظره، فإن ذلك يعني أن “السعودية رغم قواعد اللعب القديمة معها، واستقرار البعد الاستراتيجي والحرص الأردني على إرضائها، بالابتعاد تماما عن خصومها والاقتراب من حلفائها، ليست في موقع تقديم مساعدة حقيقية للأردن، لا بل بدأت تفكر في التخلي عن الدور الأمني الأردني في حمايتها”.
ورأى أنه “على هذا الأساس أصبح تخلي السعودية التدريجي عن مساعدة الأردن أو عن أدواره التقليدية التاريخية، بمثابة رافعة مستجدة للهواجس بالنسبة للخيار الإقليمي والسياسي الأردني، وهي رافعة تشكل اليوم نقطة حرجة ومستجدة في البحث عن خيارات بديلة”.
التنويع في الخيارات حرصًا على المصالح الأردنية
إزاء ذلك كله، ونقلا عن رئيس الحكومة الأسبق طاهر المصري، قال بدارين إنه “لا بد من التنويع في الخيارات حرصا على المصالح الأردنية العليا، فضلا عن ضرورة الحفاظ على التوازنات والخيارات في حضن القراءة الواقعية للأحداث”.
إلى ذلك، تساءل الكاتب الصحفي عبد الباري عطوان في مقال له في “رأي اليوم” عن “دور الأردن في المنطقة وهل تم تجاوز نفوذه وإضعافه من قبل اللاعبين الكبار”.
وقال عطوان إن “هناك عدة أسباب رئيسية تؤكد المخاوف الأردنية، من قرب انتهاء دوره فعليا وغياب كل البدائل الممكنة لَتعويضه، وإن ما يقلق أن عمليات التغييب للأردن تمر دون ردود فعلٍ تعكس قلقا حقيقيا في أوساط النخبة الحاكمة، تتوازى مع إجراء مراجعات علمية موضوعية لكل السياسات والمواقف التي أدت إلى هذه المحصلة”.
كاتب أردني: “في قضية جنوب سوريا لا أحد يتشاور معنا وقرار فَتح معبر نصيب لم يعد في أيدينا، حتى الإسرائيليين لم يعودوا ينسّقون معنا، باتوا ينسقون مع الروس”
ونقلا عن لسان كاتب أُردني كبير معروف بصلاته مع أركان الدولة الأردنية، نقل عطوان قائلاً: “انتقلنا من مرحلة التغييب والتهميش إلى مرحلة الاستهداف، حيث أن الجميع انقلب علينا، ففي قضية جنوب سوريا لا أحد يتشاور معنا وقرار فَتح معبر نصيب لم يعد في أيدينا، حتى الإسرائيليين لم يعودوا ينسّقون معنا، باتوا ينسقون مع الروس”.
بهذا ستبقى المعادلة الأردنية في التعامل مع ملفات وقضايا المنطقة، مسكونة بالهواجس والمخاوف، ما لم يتم تغيير الاستراتيجية والبحث عن بدائل وعقد تحالفات جديدة وفق شروط ومعايير مختلفة.