قد يسبّب انفصال الطفل عن أمّه أو والديْه قلقًا أو خوفًا مفرِطًا، فمن الطبيعيّ جدًا أن يكونوا خائفين من الترك والفقدان أو من الأشخاص والأماكن الجديدة، لكن ووفقًا لعلماء النفس يصبح القلق مشكلةً حقيقية إذا استمر وبشكلٍ مفرط لبعد العام السادس من عمر الطفل، وهو ما يُعرف بمصطلح “اضطراب قلق الانفصال Separation anxiety disorder”.
تعرّف الجمعية الأمريكية لعلم النفس حالة القلق تلك بأنها المبالغة المفرطة في إظهار الخوف والضيق عند مواجهة حالات الانفصال عن العائلة أو المنزل أو أيّ شخص مقرب، ويتراوح القلق بين عدم الارتياح الذي يسبق الانفصال والقلق التام منه.
يجب التفريق بين اضطراب قلق الانفصال والقلق الطبيعي الذي يحدث ضمن مراحل النمو الآمن للطفل، فقلق الانفصال يحدث بسبب عدم إدراك الطفل لمبدأ “ديمومة الشيء”
بدايةً يجب التفريق بين اضطراب قلق الانفصال والقلق الطبيعي الذي يحدث ضمن مراحل النمو الآمن للطفل، فقلق الانفصال يحدث بسبب عدم إدراك الطفل لمبدأ “ديمومة الشيء”، أيْ إدراكه أنّ شيئًا ما لا يزال موجودًا حتى عندما لا يكون ضمن نطاق رؤيته، فهو في تلك المرحلة يبكي حال غياب أمه لأنه لا يستطيع أنْ يعي أنها سوف تعود، وإنما يظنّ أنها لم تعد موجودة كليًّا.
غالبًا ما يتطوّر قلق الانفصال بعد وقوع حادثة مجهِدة أو صادمة في حياة الطفل، مثل و وفاة أحد أفراد أسرته أو حيوانه الأليف، أو تغيير بيئته مثل انتقاله إلى منزل آخر أو تغيير مدرسته وأصدقائه.
كما تُعتبر طريقة التنشئة التي يتبعها الوالدين عاملًا رئيسيًّا في تطور القلق، فالضغط الشديد الذي قد يسببه الآباء في أسلوب تربيتهم، والصرامة القاسية على الطفل التي يكون هدفها أساسًا الحماية المفرطة، يمكن أنْ تؤدي لتطور ضغطٍ عصبيّ وإجهادٍ نفسيّ عليه، وبالتالي قد يكوّن أثرًا عكسيًّا بتمسكه بوالديه وببيته أكثر فأكثر.
في المراحل المتقدمة من عمر الطفل، يمكن لقلق الاضطراب أن يصبح أصعب وأكثر إحباطًا للآباء للتعامل معه، خاصةً إذا تكونت معه مشكلة عدم الراحة والرغبة بالذهاب للمدرسة، ما قد يطوّر عند الطفل مشاكل تعليميّة وعاطفية واجتماعيّة كبيرة، أو اضطرابات نفسيّة أخرى مثل الهلع والقلق العام أو الاجتماعي والاكتئاب بدرجاته المختلفة.
وقد يستمر هذا النوع من القلق في مرحلة المراهقة التي تتصف أساسًا بتغييرات كبيرة في نفسية الفرد، وبالتالي تستمرّ مشكلته مع المدرسة وتؤثر على تحصيله الأكاديمي وابتعاده عن الأنشطة الاجتماعية واللامنهجية بشكلٍ واضح وصريح، كما يجد المراهق صعوبةً في تشكيل الصداقات والعلاقات الاجتماعية أو الحفاظ عليها، وقد يتطوّر القلق إلى نوباتٍ من الذعر والرهاب في بعض الحالات.
تختلف أعراض اضطراب قلق الانفصال من مراهق لآخر، وتشمل عامّة المخاوف العادية أو المخاوف المفرطة، وشعور داخلي بعدم الراحة، والميل إلى توخي الحذر الشديد والتيقظ حتى في الحالات العادية، إضافةً إلى حالات الإجهاد والتوتّر الشديدين أو الأرق المتواصل.
قلق الانفصال والعلاقات الرومانسية أو الزواج
لا يؤثر اضطراب قلق الانفصال على الحياة الفردية للشخص وحسب، وإنما على علاقاته العاطفية والاجتماعية المختلفة أيضًا. ووفقًا للطبيب والمحلل النفسي البريطاني جون بوبلي الذي قدّم واحدة من أقدم نظريات التنمية الاجتماعية، والتي افترضت أنّ العلاقات المبكّرة مع الوالديْن تلعب دورًا رئيسيًا في نمو الطفل وتطوره، ولها الأثر الكبير على علاقاته الاجتماعية سواء مع العائلة أو الأصدقاء أو حتى علاقاته الحميمية طوال حياته.
ويعرّف بولبي التعلق بأنه: “نزعة فردية داخلية لدى كل إنسان تجعله يميل لإقامة علاقة عاطفية حميمة مع الأشخاص الأكثر أهمية في حياته، تبدأ منذ لحظة الولادة وتستمر مدى الحياة”. ووفقًا لذلك فإنّ التعلق نزعة طبيعية توجد في كلّ فردٍ منا، تهدف للارتباط والقرب بأكثر الناس أهميةً في حياته، وهذا ما يقودنا “قلق الانفصال”، أو القلق من خسارة أو ابتعاد الشخص الذي نحب والذي هو بالأساس مصدر التعلق.
طبيعة العلاقة بين الطفل وأمه أو والديْه لا تقتصر فقط على سنوات الطفولة الأولى وتنتهي بمجرّد بلوغه أو استقلاليته، وإنما سيبقى أثرها ممتدًا طوال حياته مؤثرًا على علاقاته الأخرى وطريقة تعامله ونظرته لها.
كما ينظر بولبي إلى أنّ التعلق عبارة عن نظام “تحكّم” متقدم يتطور خلال السنة الأولى من عمر الطفل، وتبقى آثاره لاحقًا مع تقدّم العمر. أيّ أنّ إحساس الطفل الدائم بحاجته لأمه واعتماده عليها، تتطوّر مع الزمن حتى تصبح بعد البلوغ حاجةً ملحّة ومستمرّة للتعلّق بشخصٍ ما والإحساس بالقلق المُبهم وعدم الراحة من الترك والوحدة، ونتيجة لذلك فإنّ طبيعة العلاقة بين الطفل وأمه أو والديْه لا تقتصر فقط على سنوات الطفولة الأولى وتنتهي بمجرّد بلوغه أو استقلاليته، وإنما سيبقى أثرها ممتدًا طوال حياته مؤثرًا على علاقاته الأخرى وطريقة تعامله ونظرته لها.
ما يعني أنّه حتى عندما يدخل الفرد في علاقةٍ عاطفية أو رومانسية، سواء كانت حبٍ أم زواج، فقد يكوّن قلقًا من الانفصال يجعله يرغب بالحصول على الرعاية القصوى من الطرف الآخر، وعدم الراحة أو الخوف الذي قد يتطوّر لمرحلة الهلع من الترك والانفصال ما يضع العلاقة في إطارٍ من السلبية والضغوط الكبيرة.
اكتشاف اضراب قلق الانفصال أو الاعتراف به قد لا يكون سهلًا، إلا أنّ له أعراضًا عديدة يمكن أنْ يراقف الفرد نفسه ليعرف فيما إذا كانت تتواجد عنده أم لا، مثل الغيرة المفرِطة وحبّ امتلاك الشريك والسيطرة عليه، الأمر الذي قد يكون موجودًا بين الأصدقاء والأخوة أيضًا وليس فقط بين الشركاء الرومانسيين.
الخطوة الأولى في التخلص من هذا الاضطراب هو الاعتراف والوعي به، ثمّ التوجه للحصول على المساعدة من خبير والذي غالبًا ما يكون معالج أو طبيب نفسيّ.