شهدت عاصمة دولة الاحتلال “تل أبيب” السبت 30 مارس/آذار 2024 تظاهرات عاصفة، قد تكون الأعنف منذ بداية الحرب على غزة في 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، شارك فيها الآلاف ممن طالبوا بإقالة حكومة بنيامين نتنياهو وإجراء انتخابات مبكرة وسرعة التوصل إلى اتفاق تبادل أسرى مع حماس.
خرج المتظاهرون في أكثر من 50 مركزًا احتجاجيًا، حيث أغلقوا شوارع بيغن وأيالون وديزنغوف الرئيسيين في وسط تل أبيب، وأشعلوا النيران في إطارات السيارات وأحدثوا حالة من الشلل التام بالمدينة، فيما حاول المئات منهم الوصول إلى مقر إقامة نتنياهو في القدس بعد أن تجاوزوا حواجز الشرطة التي اعتقلت عددًا منهم واستخدمت “الصواعق” في قمع المشاركين.
ليلة ساخنة.. احتجاجات ضخمة في تل أبيب لذوي المحتجزين في غزة.. مطالبات بإبرام صفقة تبادل محتجزين فورية ورحيل حكومة نتنياهو #فلسطين #تظاهرات #هنا_المملكة pic.twitter.com/WlT0w1cCrP
— قناة المملكة (@AlMamlakaTV) March 30, 2024
تتوالى دعوات الخروج والمشاركة في تلك الاحتجاجات العارمة من كل التيارات السياسية والاجتماعية داخل الكيان المحتل بعد تعثر عملية المفاوضات مع المقاومة الفلسطينية والحديث عن تراجع ملف المحتجزين في قائمة أولويات مجلس الحرب، فيما تشير بعض وسائل الإعلام العبرية إلى اعتصام من المتوقع أن يقوم به المحتجون اليوم أمام مبنى الكنيست واحتمالية أن يشارك فيه زعيم المعارضة يائير لابيد الذي وصف حكومة نتنياهو بـ”حكومة الدمار”.
تعد تظاهرات السبت نقلة نوعية في مسار الاحتجاجات الشعبية في الداخل الإسرائيلي، في ظل ما شهدته من تحولات استثنائية قد يجعلها أكثر تأثيرًا وضغطًا على حكومة نتنياهو التي اضطرت لمعاودة إرسال وفدها التفاوضي للقاهرة اليوم الأحد 31 مارس/آذار لاستكمال مباحثات صفقة التبادل، فهل يُجبر نتنياهو على التخلي عن صلفه؟
ما الذي يجعل هذه الاحتجاجات مختلفة؟
شهدت التظاهرات هذه المرة حزمة من التغيرات التي تجعل منها حراكًا استثنائيًا مقارنة بما كان عليه المسار الاحتجاجي منذ بداية الحرب، تتمحور في 3 مؤشرات رئيسية:
الأول: الخطاب الصدامي المستخدم، حيث تبنى المتظاهرون خطابًا سياسيًا حادًا وتحريضيًا في مواجهة حكومة الاحتلال، لخصته شهادات بعض المشاركين في تلك الاحتجاجات كما نقلتها وسائل الإعلام العبرية على مدار الساعات الـ24 الماضية.
إذ قالت شير سيجل، ابنة المحتجزين لدى المقاومة، كيث وأفيفا، الذي أطلق سراحهما في صفقة التبادل الأولى نهاية نوفمبر/تشرين الأول الماضي: “لن نقف هنا بعد الآن ولن نتوسل بعد الآن، نحن نعلم أن هناك صفقة مطروحة على الطاولة وأنتم تمنعونها من الحدوث، من اليوم ستروننا في جميع أنحاء البلاد وسوف نحترق”، وخاطبت نتنياهو قائلة: “لقد سئمنا من كذبك علينا، أنت تخبرنا أنك تفعل كل شيء – أنت لست كل شيء”، حسبما نقلت عنها صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية.
أما شيرا إلباغ والدة المحتجز لدى حماس، ليري إلباغ، فدعت مواطني دولة الاحتلال إلى الانضمام للعائلات، قائلة: “بعد أشهر كنتم هنا إلى جانبنا، حان الوقت لبدء معركة ضد اللامبالاة ولصالح الحياة، أنا أطلب منكم الآن النزول إلى الشوارع”.
في السياق ذاته، وجه رونين نوترا، والد الجندي الإسرائيلي المحتجز لدى المقاومة، عمر نوترا، رسالة مباشرة إلى نتنياهو عبر مكبر صوت أمسك به في أثناء مشاركته في الاحتجاجات، قائلًا: “لقد جاء ابني من أمريكا للتجنيد لحمايتك، لقد حان الوقت لتخرج لحمايته”، وتابع “اخرجوا إلى الشوارع وقولوا كفى، حان الوقت لكي تتوقف عن السياسة، أطفالنا ليسوا سياسيين، اخرجوا، يا سكان إسرائيل، يا سكان تل أبيب. انضموا إلينا، لقد نفد مالهم”.
عاجل | مراسلة الجزيرة: الشرطة الإسرائيلية تعتقل 14 متظاهرًا في تل أبيب شاركوا في احتجاجات ضد الحكومة pic.twitter.com/eHhKqWZDTF
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) March 30, 2024
الثاني: مشاركة واسعة من الإسرائيليين، فالأمر لم يعد مقتصرًا على عائلات الأسرى والمحتجزين لدى حماس كما كان في السابق، بل تصاعدت الدعوات اليوم لمشاركة الجميع من أجل تلجيم حكومة نتنياهو وإجبارها على تدشين اتفاق سريع مع المقاومة يقضي بالإفراج عن المحتجزين وإنقاذ الكيان من مستنقع الحرب الذي فشلت الحكومة في تحقيق أهدافها بعد 6 أشهر من شنها.
الثالث: تفاقم الوضع الاقتصادي، للمرة الأولى منذ بداية الحرب يدخل العامل الاقتصادي ضمن المسار الاحتجاجي رغم خطورة تلك الخطوة في وقت يعاني فيه اقتصاد الاحتلال من تعثر وأزمة خانقة بسبب الحرب، حيث سمح “منتدى الأعمال الإسرائيلي” الذي يضم قرابة 200 شركة خاصة، لموظفي تلك الشركات بالانضمام إلى المظاهرات ضد الحكومة خلال الأسبوع المقبل.
وقالت صحيفة “إسرائيل اليوم” إن الشركات “ستسمح للموظفين بالتغيب أو المغادرة مبكرًا، للمشاركة في المظاهرات، دون أنّ تخصم عليهم من الإجازات المستحقة”، فيما نقلت عن قادة المنتدى قولهم إن إسرائيل “في حالة طوارئ ويجب السماح للمواطنين بممارسة حقهم الديمقراطي والتعبير عن صوتهم”.
شركات إسرائيلية تمنح موظفيها إجازات للمشاركة بالمظاهرات ضد حكومة نتنياهو pic.twitter.com/fVzEuiuuIp
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) March 31, 2024
اعتراف بهزيمة حكومة الحرب
خروج تظاهرات بهذا الحجم واتساع رقعتها لتشمل أكثر من 50 منطقة داخل الكيان المحتل، فضلًا عن الشعارات الصدامية المستخدمة، والمطالبة اليوم قبل الغد بإجراء انتخابات مبكرة، تعني الاعتراف ضمنيًا بهزيمة حكومة الحرب المصغرة والفشل في تحقيق أهداف المعركة بعد مرور أكثر من 175 يومًا عليها، وهو الرأي الذي تبنته وسائل الإعلام العبرية التي علقت على احتجاجات السبت.
في المقابل، شن أعضاء الائتلاف الحاكم في حكومة نتنياهو هجومًا حادًا على المتظاهرين، متهمين إياهم بأنهم سيدمرون دولتهم وأنهم مدفوعون بمشاعر الكراهية والعداء للحكومة، مطالبين بالتصدي لهم بقوة قبل أن يخرج الوضع عن السيطرة، فيما علق وزير الشتات عميحاي شيكلي بقوله: “الاحتجاجات في تل أبيب هدية لحماس وتضعف الجنود على الجبهة”.
أما عضو الكنيست عن حزب الليكود، تالي غوتليب، فهاجمت بشدة في مقابلة لها على قناة الكنيست صباح اليوم الاحتجاجات ضد الحكومة وقالت “المشاهد تذكرني بمظاهرات الإرهابيين”، محذرة من أن تلك الاحتجاجات ستجلب جحيمًا آخر للبلاد.
عاجل | القناة 12 الإسرائيلية عن وزير الشتات عميحاي شيكلي: الاحتجاجات في تل أبيب هدية لـ"حـ.ماس" وتضعف الجنود على الجبهة pic.twitter.com/MRBZXYmBZZ
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) March 31, 2024
اعتبرت كذلك النائبة الليكودية ما حدث في تل أبيب وما يتوقع حدوثه خلال الأسبوع المقبل بأنه انتصار لحركة حماس وإعلان هزيمة لـ”إسرائيل”، حيث كتبت على صفحتها على موقع “إكس” قائلة: “المتظاهرين البلطجية العنيفين هم رمز لانتصار حماس، إنهم غير مهتمين بالمختطفين، فقط الكراهية هي التي تدفعهم”.
في السياق ذاته، قال المحلل الإسرائيلي الشهير في صحيفة معاريف العبرية، بن كاسبيت،”ليس من الضروري أن تكون من أنصار نتنياهو لتعرف أن المظاهرات من هذا النوع لا تضعف حماس، بل تزيدها صلابة”، متهمًا نتنياهو بالغطرسة والغرور الذي قد يحوله من الشخص الذي يفترض أن يحمي “إسرائيل” إلى الشخص الذي يقود نحو تدميرها.
هل يرضخ نتنياهو؟
استقر في يقين عائلات المحتجزين ومعظم أطياف الداخل الإسرائيلي أن مسألة الأسرى باتت في ذيل أولويات نتنياهو الموهوم بُسعار الانتصار على حماس من خلال استمرار الحرب حتى تحقيق أهدافها، حتى لو كان الثمن أشلاء وحياة العشرات من الإسرائيليين.
كما بات الجميع على يقين من أن تصريحات الطمأنة التي يصدرها “بي بي” بهذا الشأن بين الحين والآخر منذ بداية الحرب، ليست سوى مسكنات لتخدير الرأي العام وامتصاص غضبه المتصاعد، وهو ما تترجمه محاولاته المستميتة لعرقلة أي صفقة تبادل مع المقاومة والتعنت الواضح إزاء كل المقترحات المقدمة سواء من حليفه الأمريكي أم الوسطاء في القاهرة والدوحة.
يعلم نتنياهو كما جنرالاته في حكومة الحرب أن اتفاق التبادل ووقف إطلاق النار دون تحقيق أهداف الحرب كاملة يعني انتصار حماس وهزيمة حكومته، ما يعني نهاية مستقبله السياسي وربما الزج به داخل السجن بعد إعادة فتح دعاوى الفساد المرفوعة ضده قضائيًا، وهو ما يدفعه نحو اختلاق المبررات والدوافع لاستمرار آلة الحرب وتوسعة رقعتها.
وفد إسرائيلي يتجه نحو القاهرة لإجراء مباحثات حول الأوضاع في غزة وسط اتهامات من عائلات المحتجزين لنتياهو بعرقلة صفقة التبادل pic.twitter.com/DftgMF0f7o
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) March 31, 2024
يتزامن التصعيد الاحتجاجي مع إعادة حكومة نتنياهو إرسال وفدها التفاوضي للقاهرة لاستكمال المباحثات بشأن صفقة التبادل المقترحة، وهي الخطوة التي يقرأها البعض في سياق مغازلة الشارع الهائج، ورغم صلاحيات الوفد المحدودة وتواضع تمثيله، فإن البعض يعول على الأسبوع الاحتجاجي المقبل في الضغط على الحكومة لإبداء المزيد من المرونة في التعاطي مع شروط حماس وتفاهمات الوسطاء.
يحاول نتنياهو أيضًا امتصاص الغضب الشعبي قدر الإمكان، وربما يأتي في هذا السياق رفع الحكومة الحد الأدنى للأجور إلى 5.880 شيكل (1593 دولار) مقارنة بـ5.571 شيكل (1509) بداية من راتب شهر أبريل/نيسان المقبل، وهي الزيادة الثانية خلال هذا العام، رغم الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الكيان بسبب الحرب.
تتصاعد موجات الضغوط على نتنياهو وحكومته، داخليًا وخارجيًا، بعدما فشل في إدارة الحرب وأغرق جيش بلاده ولطخ سمعته دوليًا – باعتراف أنصاره – في حرب الإبادة ضد غزة، ليبقى الأسبوع القادم والتصعيد الاحتجاجي المتوقع خلاله معركة جديدة يخوضها رئيس الحكومة المأزوم.. فهل يصمد؟