البشرية بذكائها تخلق ذكاءً يغلب ذكاءها

لا أقصد إفزاعكم، لكن أبسط طريقة يمكن أن أوجز بها ما لدي هي أن هناك الآن في العالم آلات تفكر وتتعلم وتستنتج، وستزداد قدرتها على ممارسة هذه المهمات بسرعة في المستقبل، بل إن قدرتها على حل المشكلات ستضاهي العقل البشري، هذا ما قاله الباحث Herbert Simon في العام 1957 والذي حملت تصريحاته مفتاح عصر جديد من الذكاء الاصطناعي.
فيلم 2001: A Space Odyssey”” الذي تم إنتاجه سنة 1968 يعتبر من أول الأفلام التي تنبأت وقتها بتقنية بصمة التعرف على الصوت، كما أنها تنبأت بأجهزة مثل الأيباد وتقنية المحادثات المرئية التي كانت في تلك الوقت مجرد خيال علمي.
ولا تخلو تلك الأفلام من الحديث عن الإنسان الآلي الذي يحاكي البشر في الصورة والتصرفات، والمركبات والطائرات بل والآلات الحربية التي تقود نفسها وتتميز بردود الفعل السريعة، ولكن هل اقتربنا فعلًا من تحقيق هذه الصورة في أرض الواقع؟
في مجال الطب توجد برامج تشخيص الأمراض بناءً على أعراض مرضية معروفة مع استخدام المنطق والاحتمالات والاستدلال لكي يكون الخبير الآلي مالكًا لمهارات مقاربة للعنصر البشري
بينما يتنبأ بعض العلماء بقرب وصولنا إلى هذا الأمر إلى الحد أن البعض منهم بدأوا يحذرون من حصول الآلات على “ذات واعية”، وأن ذلك قد يعني بداية النهاية للجنس البشري وأن ذكاءها سيفوق الذكاء البشري، يرفض بعض العاملين في مجال البرمجيات هذه التنبؤات ويقولون إن البشرية لا تزال بعيدة كل البعد عن اختراع الذكاء الاصطناعي الكامل، وأمام البشرية قرون عديدة قد تصل إلى آلاف السنين قبل الوصول إلى ذكاء صناعي يمكن أن يضاهي الذكاء البشري.
الذكاء الاصطناعي
الذكاء الاصطناعي تعبير يطلق على القدرات التي تبديها الآلات والبرامج بما يحاكي القدرات الذهنية للبشر، مثل التعلم والاستنتاج ورد الفعل على أوضاع لم تبرمج في الآلة، كما أنه اسم لحقل أكاديمي معني بكيفية صنع حواسيب وبرامج قادرة على اتخاذ سلوك ذكي.
من بين الأنظمة التي يعتمدها الذكاء الاصطناعي أنظمة التعرف على الوجوه والأصوات والأشكال، مما جعل استخدامه واسع الانتشار في الحياة اليومية وفي الكثير من المجالات المختلفة، حيث يستخدم في الصناعة والتحكم الآلي والنظم الخبيرة والطب والأحياء والتعليم وحتى الألعاب.
وفي مجال الطب توجد برامج تشخيص الأمراض بناء على أعراض مرضية معروفة مع استخدام المنطق والاحتمالات والاستدلال لكي يكون الخبير الآلي مالكًا لمهارات مقاربة للعنصر البشري.
وفي المجال اللغوي تم استعمال الأنظمة الذكية في التدقيق اللغوي والصرف والنحو ومخاطبة الناس، لكن رغم أن الترجمة الآلية أحرزت تقدمًا كبيرًا في الوقت الحاليّ، فإنها لم تصل لنفس الجودة التي يقدمها المترجم البشري، وعجزت معظم البرامج عن الوصول إلى ذلك بالنظر لعدم قدرتها على فهم سياق الكلام.
أما في مجال ألعاب الفيديو فقد أحدث الذكاء الاصطناعي انقلابًا كبيرًا فيه من خلال الوصول للمزيد من الإثارة والتشويق ومقابلة خصم أكثر ذكاءً مما كان من قبل، وتتيح الأنظمة التي تشغل ألعاب الفيديو قدرًا أكبر من المحاكاة، فتصرف أفراد اللعبة أصبح ذاتيًا ومختلفًا وفق الظروف سواء في ألعاب القتال أو مباريات كرة القدم أو غيرها.
هزم برنامج من اختراع شركة Googleمؤخرًا بطل العالم في لعبة ،Goاستخدم مهندسو Gooleاستراتيجية لـ”التعلم العميق” عبر تغذية شبكة عصبية بملايين الألعاب التي لعبها البشر بطريقة مكنت الشبكة من نمذجة كيفية تصرف اللاعبين الخبراء
بداية المخاوف الحقيقية
بعد هزيمة كاسباروف أعظم لاعب للشطرنج أمام جهاز الكمبيوتر في المباراة التي جرت عام 1997 يقدم لنا شهادة عن كفاح الانسان مع الآلة وتحكمها في حياتنا يمكن القول إن غاري كاسباروف هو أعظم لاعب للشطرنج في التاريخ، فمنذ عام 1986 وحتى اعتزاله عام 2005 كان في المرتبة الأولى عالميًا في لعبة الشطرنج، وهو أول بطل عالمي يغلبه جهاز الكمبيوتر.
(ديب بلو) حاسوب فائق متخصص في لعبة الشطرنج من خلال إضافة دوائر محددة، تم تطويره في بداية التسعينيات من القرن الماضي، هزم هذا الحاسوب بطل العالم في الشطرنج غاري كاسباروف 3 مرات، انهزم في الأولى 1989 وفي الثانية سنة 1996 بنتيجة (2 – 4) ثم فاز في مباراة الانتقام من 6 أدوار في 11 من أيار 1997 بنتيجة (3.5 – 2.5) اتهم كاسباروف شركة IBMالمصنعة للجهاز بالغش وطالب بمباراة انتقام، ولكن شركة IBM رفضت وقامت بتفكيك ديب بلو.
في المحصلة النهائية فإن خسارة مباراة واحدة من مجموع 6 مباريات قد لا يبدو كثيرًا، ولكن في ذلك الوقت كان ينظر إلى ذلك الحدث على أنه معلمًا رئيسيًا في مسيرة طويلة نحو إحراز تقدم كبير في مجال الذكاء الصناعي، ومع رؤية عميقة للحدث يمكننا أن نعتبر انتصار الحاسوب على كاسباروف كان حقًا انتصارًا لقوة البرمجة الذكية وانتصارًا للإرادة والتصميم الذي أبدته شركة ضخمة مثل IBM التي كافحت لاستغلال هذا الحدث للترويج لمنتجاتها، كون واحد من منتجاتها تمكن من أن يفعل شيئًا استطاع أن ينال إعجاب وسائل الإعلام في العالم.
قال عالم فيزياء الفلك البريطاني ستفين هوكينغ إن الذكاء الاصطناعي الكامل بمعنى ابتكار أجهزة حاسوب تمتلك عقولًا خاصة بها يمكن أن يؤذن بنهاية الجنس البشري
مؤخرًا في 2016
هزم برنامج من اختراع شركة Googleمؤخرًا بطل العالم في لعبة ،Go استخدم مهندسو Gooleاستراتيجية لـ”التعلم العميق” عبر تغذية شبكة عصبية بملايين الألعاب التي لعبها البشر بطريقة مكنت الشبكة من نمذجة كيفية تصرف اللاعبين الخبراء، في النهاية يمكن لـ”ألفا جو” ببساطة أن تراقب في أثناء لعب أحد الأدوار وتتنبأ بأي الطرفين سيفوز، دون إجراء أي بحث متطلع إلى المستقبل على الإطلاق.
التحذير
يحذر فريق من العلماء من أن ذلك قد يعني سيطرة الآلات واضمحلال دور البشر، وقال عالم فيزياء الفلك البريطاني ستفين هوكينغ إن الذكاء الاصطناعي الكامل بمعنى ابتكار أجهزة حاسوب تمتلك عقولًا خاصة بها يمكن أن يؤذن بنهاية الجنس البشري.
يرى ستيفن هوكينج أن كل ما وصلنا له حتى الآن من تطور في مجالات أبحاث العقل وأبحاث تطوير الذكاء الاصطناعي هو القشرة فقط، وأن مستقبلًا مزدحمًا بشدة ينتظرنا، وهو المستقبل الذي يخشى هوكينج من خطورته المحتملة.
ويحذرنا هوكنيج دائمًا من غباء البشر وقدرتهم الجبارة على التدمير ويتوقع بشدة أن تنتهي الحياة على الأرض خلال ألف عام ما لم يصحح البشر من مسارهم الحاليّ، وهو المسار الذي يجمع بين تدمير البيئة وشبح الحروب المستمرة واستمرار التسليح النووي، غير إساءة استخدام المضادات الحيوية مما ينذر باحتمال تطور بعض البكتيريا الفائقة التي تحمل لنا أمراضًا لا يمكن علاجها، وهو ما بدأت بوادره بالفعل.
الجانب الآخر
هناك من يرى أن هذه المخاوف لا يمكن لها أن تحدث، والإشكالية تكمن في أن فهمنا للذكاء البشري لا يزال محدودًا، فالذكاء الاصطناعي الكامل أو الخارق يجب أن يمتلك جميع القدرات الذهنية البشرية بما فيها الوعي بالذات والإحساس بالوجود اللذين يعدان أهم عناصر الذكاء البشري، بالإضافة إلى التفوق على المخ البشري في كل المجالات مثل الإبداع والعلم والحكمة والمهارات الاجتماعية.
أما الذكاء الاصطناعي الموجود حاليًّا فهو لا يتفوق على الذكاء البشري إلا في جانب واحد فقط لا يتعداه، فالذكاء الاصطناعي الذي يتفوق على البشر في الشطرنج مثلًا لا يتفوق عليه في أي مجال آخر، والذكاء الاصطناعي ما زال بعيدًا كل البعد عن الوصول إلى مستوى ذكاء طفل ذي 7 أعوام فيما يخص فهم المنطق والخيال واللغة والحدس وإدراك كيف يتحرك العالم من حوله.
كل هذا الجدال بين متخوف ومتفائل يبقى التساؤل: هل يمكن أن تصل الكمبيوترات إلى مستوى ذكاء البشر؟ كثير من المشاهد السينمائية والتنبؤات القديمة صحت ولكن علمنا التاريخ أن التنبؤات المتطرفة دائما تكذب.
ليس هناك شك في أن التقنية المستقبل ستشمل تحديًا كبيرًا للبشرية، وقضية مناقشة استسلام الإنسان للكمبيوتر والتقنية أو تنسخ الآلات دون تحكمنا فيها سابقة لأوانها، فإذا ما اقتربنا من ذلك العصر الذي قد لا يكون قريبًا، وإذا ما توفرت الحقائق سيكون الإنسان كما كان دائمًا قادرًا على تفادي الدمار الشامل، فلا خوف من مواصلة مسيرة العلم والتقنية فالدمار الذي يسببه الجهل أكثر بكثير مما يسببه العلم، خصوصًا في عالم فيه العلم معيار التفوق الأول والأخير.