ما يجري في نهاية عام 2017 بالمملكة العربية السعودية سيمس دون ريب جيران المملكة الأقربين ولا ينجو من آثاره الجيران الأبعد، هذه الانعكاسات ستكون ذات صبغة سياسية أولًا وذات صبغة اقتصادية ثانيًا، وما زلت أعتقد أن التأثيرات السياسية ستكون سريعة وهوجاء ولكنها ستكون بالداخل السعودي ولن تصل إلى حروب أخرى غير حرب اليمن التي تخسرها السعودية ولا تجد منها مهربًا، سأختار هنا الحديث عن بعض وجوه التأثير الاقتصادي على المدى القريب والمتوسط على المنطقة العربية وسأخصص بعض ما أرى منها على تونس.
للتغيرات السياسية كلفة اقتصادية
في الداخل السعودي أدت الأزمة الحاليّة إلى ارتفاع سعر النفط في السوق العالمية، ولكن يجب ألا نغفل أن إدراج عملاق اقتصادي مثل شركة أرامكو في البورصة له تأثير أكبر على ارتفاع أسهمها وبالتالي على تداول منتجها، وارتفاع الأسعار كان منتظرًا حتى دون الأزمة السياسية التي خلفتها تصفية ولي العهد لخصومه من أفراد العائلة وحلفائهم.
سيؤدي هذا إلى غنم اقتصادي سريع لأكبر بلد منتج ومصدر للمحروقات الأحفورية، ولكن ارتفاع هذه العائدات سيكون له رغم ذلك تأثير ضعيف على الاستثمارات في الداخل والخارج بالنظر إلى أن أهم المستثمرين من أفراد العائلة والدائرين في فلكها وهم الآن في حالة يمكن وصفها بالحالة غير الاستثمارية ولو تم إطلاق سراحهم وغض الطرف عن فسادهم المكتشف فجأة بلا مقدمات، والذي عولج حتى الآن بطريقة غير قانونية.
لا شك أن الإمبراطورية الاقتصادية لرجل مثل الوليد بن طلال تضررت في الداخل والخارج ولا بد من مرور فترة طويلة لتتعافى وتستعيد ثقة شركائها الدوليين الذين سيصيرون أكثر حذرًا من تقلبات الوضع الداخلي، فمغامرات السلطة في العالم الثالث عامة كانت سببًا لنكوص رؤوس الأموال الدولية عن المغامرة والتعامل بحذر مع العصافير النادرة التي تضع ثقلها الاقتصادي في شركات غربية خارج بلدانها حيث ترتفع درجة الأمان الاقتصادي.
تنتدب سوق العمل السعودية عددًا محترمًا من الإطارات التونسية خاصة في التعليم المتوسط والتعليم العالي والصحة، ورغم حملة سعودة الوظائف فإن الانتداب من تونس تواصل بنفس النسق
وهذا مؤشر على ارتجاج سمعة الاقتصاد السعودي وتحول البلد إلى بؤرة غير آمنة، لقد مست المغامرة الأخيرة في المدى المنظور ثقة الكثيرين ولن يستعيد الاقتصاد السعودي سمعته إلا بعد هدوء الأوضاع واتضاح صورة بلد مستقر، ولا يهم هنا أن يكون البلد قد استقر في الديكتاتورية مرة أخرى فلقد كان دومًا كذلك ولكن المستثمرين الاقتصاديين ليسوا مشغولين جدًا بالديمقراطية في بلدان مثل السعودية.
إن سوقًا متطلبة مثل السوق السعودية كانت دومًا بؤرة جذب مغرية وعليها الآن أن تقدم ضمانات أكبر لجلب نفس السلع الاستهلاكية ولكل شيء ثمن، ولا نرى مؤشرات معقولة على أن ولي العهد المغامر قد حسب حساب تردي سمعة بلده.
تونس تخسر شريكًا مهمًا هو مجموعة البركة لصالح كامل
السعودية ليست شريكًا اقتصاديًا أوليّ لتونس ومستويات التبادل محدودة في نوعية السلع وكمياتها، فتونس لا تزود السوق السعودية بالمنتجات الزراعية على سبيل المثال كما أن المنتجات الصناعية التونسية ليست مرغوبة في السوق السعودية القادرة على الأفضل من أسواق مختلفة.
تنتدب سوق العمل السعودية عددًا محترمًا من الإطارات التونسية خاصة في التعليم المتوسط والتعليم العالي والصحة، ورغم حملة سعودة الوظائف فإن الانتداب من تونس تواصل بنفس النسق وربما زاد في قطاعات التعليم العالي في السنوات الأخيرة، لكن اضطراب الوضع والفرز السياسي الذي سيتبعه بالضرورة (على قاعدة من وقف مع التغيير هناك ومن وقف ضده) سيؤدي إلى تقليص عدد المنتدبين وربما يؤدي إلى إنهاء عقود ما ظن أصحابها أن تنتهي قبل تقاعدهم.
وبالنظر إلى حرص الدولة التونسية على (التخفف) من كوادرها بالتعاون الفني، فإن ثمنًا سياسيًا سيطلب منها للحفاظ على مكتسبات كوادرها المهاجرة وسيكون للثمن السياسي المدفوع ثمن في الداخل أيضًا، لقد توقفت تونس عن المطالبة بترحيل الرئيس المخلوع حرصًا على إبقاء العلاقات الاقتصادية وعلى حقوق العمالة المهاجرة رغم حقها القانوني في محاسبة مواطن منها متهم أمام القضاء المحلي.
في أول الثورة شن تونسيون كثر حملة شعواء على النظام السعودي الذي آوى الرئيس الهارب ورفض تسليمه ثم بتطور أوضاع بلدان الربيع العربي وحصول اصطفافات معقدة، عاد تونسيون من النظام القديم وكثير من اليسار إلى الدفاع عن النظام السعودي
وأما على الصعيد الاستثماري المباشر فتعتبر مجموعة “دلة البركة” من أول المستثمرين في تونس خاصة في المجال العقاري، وقد دخل الشيخ صالح كامل (المعتقل حاليًا والمصادرة أمواله) تونس مستثمرًا في أول الثمانينيات مع انفتاح تونس على بلدان الشرق الغربي في حقبة محمد مزالي وهناك مستثمرون آخرون أقل أهمية، لكن المساس بالشيخ كامل سينال من قدرة مجموعته الاقتصادية على تمويل أعمالها في تونس، وربما تتوقف عن تكملة مشاريعها المفتوحة خاصة التهيئة العقارية لمشروع البحيرة 2.
يحظى الرجل بسمعة طيبة في تونس ويعتبر مثالاً للتعاون البيني غير الحكومي، وكان يحظى بعطف ملكي لشخصه واستثماراته، وقد سهل الكثير من الصعوبات التجارية بين البلدين، جعلت تونس بلدًا حريصًا على عدم التدخل في الشأن السعودي الداخلي، والحقيقة أن هذا ثابت من ثوابت الدبلوماسية التونسية مع بلدان كثيرة، إذ بنت علاقاتها على عدم التدخل، ولكن قناة التواصل عبر الشيخ صالح كامل كانت قناة مفتوحة وربما لو سلمنا بكثير مما يقال في الكواليس يعتبر الرجل قناة اتصال متينة بين النظامين.
اضطراب الوضع في الداخل السعودي مستمرًا، وكلما استمر ألحق ضررًا بمثل هذه القنوات الاقتصادية الهادئة البعيدة عن التناول الإعلامي التهريجي الذي يخوض فيه صحافيون غير محترفين.
مكايدة قطر بالعلاقة مع السعودية
في أول الثورة شن تونسيون كثر حملة شعواء على النظام السعودي الذي آوى الرئيس الهارب ورفض تسليمه، ثم بتطور أوضاع بلدان الربيع العربي وحصول اصطفافات معقدة عاد تونسيون من النظام القديم وكثير من اليسار إلى الدفاع عن النظام السعودي (ونسيت قضية استعادة الهارب)، وقد دافع هذا الصف عن مساعدة السعودية في انقلاب مصر السيسي، وصور الأمر كعمل تقدمي يحارب الإرهاب الإخواني (نفس هذا الشق وللتذكير ودون مناكفة كان يشن حملات على موقف النظام السعودي من الثورة السورية ويدافع عنه في مصر).
بداية الانكماش الاقتصادي والسياسي للسعودية تحت حكم (الملك) محمد، سيزيدها تعقيدًا عن تحقيق أي مكسب عسكري وسياسي في اليمن
هذا الصف السياسي انحاز إلى السعودية في معركتها الخاسرة مع قطر خلال صائفة 2017، فقطر ممول الصف الأخواني الرجعي الإرهابي، وكان لهذا الانحياز للموقف السعودي والإماراتي الداعم له (الموجه له في الواقع) أثمان مدفوعة مسبقًا، يعرف التونسيون من قبض ومن دافع ومن يواصل الانحياز، لكن اضطراب الوضع السعودي سيكون له انعكاس على قدرتها على تمويل أنصارها في تونس في مواجهة قدرة قطر التي خرجت منتصرة من معركة فرضها عليها نفس الأمير المغامر.
لا يعتبر هذا انعكاسًا اقتصاديًا مباشرًا (وهو موضوع المقال) ولكن ضعف القدرة الاقتصادية للسعودية (مؤقتًا أو على المدى المتوسط) سينعكس على دورها السياسي في بلدان الربيع العربي بما يحد من قدرتها الفعلية على تمويل عملية تخريب الحركة السياسة الواسعة التي بدأتها ضده، ولقد تقلص دورها في مساندة نظام السيسي حتى قبل حركة الأمير، سيلقي ذلك عبئًا ماليًا أكبر على الشريك الإماراتي ولكن المال وحده لن يكون كافيًا في غياب مساندة سياسية لشريك ثقيل الوزن سياسيًا على الخريطة العربية، إنه انعكاس اقتصادي وسياسي لبلد لعب دورًا في توجيه السياسيات العربية الرسمية وغير الرسمية في اتجاه محافظ رافض للتغير.
بداية الانكماش الاقتصادي والسياسي للسعودية تحت حكم (الملك) محمد، سيزيدها تعقيدًا عن تحقيق أي مكسب عسكري وسياسي في اليمن، والتذكير الصاروخي الذي وصل الرياض سيكون له دور المهماز الموقظ للتنطع خارج الحدود ولن يفلح الأمير/الملك في استفزاز الوضع في لبنان لأن عوامل كثيرة تتداخل في المنطقة ليس أقلها الوقوع تحت حماية السلام الروسي الذي كان الأمير يراوده منذ أيام بشراءات مجزية، هذا فضلاً على أن تحريض “إسرائيل” على خوض حرب بالوكالة لم ينجح أبدًا، فـ”إسرائيل” تستعمل العرب في حروب بينية ولن يكون من مصلحتها محاربة لبنان، فيكفيها أن تنتظر خراب الأنظمة لتبدا في جمع الفيء، ولهذا موضع آخر وحديث آخر.